مسرحية "الغنمة".. تسخر من البيروقراطية وتدعو لجزّ وبرها

تسعى المسرحية إلى تعزيز السخرية وفق أسلوب الغروتيسك، القائم على دمج اللامعقولية بالطرافة بالألم لتصوير مآلات تحكم موظفي المكاتب بالبشر.

منذ بروشور عرض "الغنمة" (مسرح الحمراء/دمشق)، الذي صممه عدنان قطرية ويُصوِّر غنمةً في بدلة رسمية تضع النظارات وبيدها هاتف، يبدأ فعل التحريض الذي أراده المخرج زين طيّار في عمله الذي أعدّه بإتقان عن مسرحية "سترة من المخملين" للكاتب البلغاري ستانيسلاف ستراتييف، ويستمر عبر التناصات المختلفة لواقع البيروقراطية المسيطرة على مفاصل الحياة لدرجة تُلغي المنطق ووظائف التفكير، وتحوِّل الإنسان إلى كائن بهيمي موظَّف ضمن هياكل إدارية رثّة، وقوانين جامدة أبرز سماتها اللا معقولية.

مجرد التفكير بأن نص ستراتييف الذي كتبه سنة 1976 ما زال حيوياً إلى هذا الحد، وأنه بالإمكان تعميم تفاصيله على كثير من بلدان العالم ومنها سوريا، يعطي صورة عن جبروت البيروقراطية وتحكُّمها الجائر بمفاصل حياتنا. لذلك فإن ما سعى إليه المخرج طيار عبر ساعة ونصف من الزمن، كان مقاربة النموذج البلغاري الذي يصفه كاتب "الحافلة" بأنه "عبارة عن دراجة هوائية من دون دواسات، لكن بعشرة مقاود"، وتعزيز السخرية وفق أسلوب الغروتيسك القائم على دمج اللامعقولية بالطرافة بالألم لتصوير مآلات تحكم موظفي المكاتب بالبشر.

تبدأ المسرحية التي انطلقت أمس الأربعاء، ضمن صالون غرائبي للحلاقة والذي يطلب فيه أستاذ اللسانيات في جامعة صوفيا إيفان أنتونوف أن يتم جز صوف سترته الطويل بعدما تعرض لسخرية طلابه وزملائه جراء ذلك. لكن الحلاق يرفض طلبه ويتَّهمه بالجنون، لكنه ينصحه لإتمام ذلك باللجوء إلى الجمعية الزراعية المتخصصة بجز صوف الغنم، وهو ما يفعله، لكن لتحقيق ذلك يضطر أن يُسجِّل في سجلات تلك الجمعية أنه قام بجز غنمة خاصة به، ليأتيه بعد ذلك إشعار رسمي بدفع الرسوم المستحقة عليه لتربيته الغنمة، فتبدأ رحلته مع أحد زملائه في إيضاح الحقائق ضمن متاهة عجيبة من المكاتب التي يجري فيها التعامل بالوثائق والأرقام ولا مكان فيها لأي منطق.

مرة يطلب منه إحضار وثيقة قتل كلب شارد، وعند رفضه يُتَّهم باللا وطنية، وفي أخرى أن يراجع قسم الطيور المائية، وفي ثالثة أن يُحدِّد في أي مكان يقوم بتربية غنمته ضمن شقته فيقول في بانيو الحمام، وعند مراجعة موظف خبير بالقوانين ينصحه بذبح الغنمة واستصدار وثيقة وفاة لها. وفي خضم هذه المعمعة لإثبات أن السترة ليست غنمة، تتعاطف معه إحدى الموظفات بعدما أرهقتها رتابة العمل وقسوته وخلوه مما هو إنساني، لذا تخاطر بمستقبلها في سبيل إظهار الحقيقة التي يعرفها الجميع، لكنهم يخفونها تحت عشرات القرارات والقوانين الخاطئة.

وفي موازاة ذلك، هناك الموظف العالق في المصعد منذ شهور، وينتظر ابنه أن يتخرج من قسم العلوم الميكانيكية لإنقاذه من محنته، ليقينه بأن لا أحد في مؤسسته مكترث بأمره، ومع ذلك يمارس حياته الوظيفية على أكمل وجه، بل يصبح أكثر حكمة بحكم مأزقه الوجودي الذي يتعزز مع زواج ابنه وسفره خارج البلاد قبل إنقاذ والده، ولذلك وغيره يصبح ذاك الموظف أكثر حدّة في انتقاداته للواقع المعيشي والوظيفي، وبذكاء مبهر وكوميديا سوداء يضع إصبعه على الجرح السوري، رغم موارباته الكثيرة بأن حديثه هو عن بلغاريا وتفاصيل العيش فيها.

ورغم أن صديق إيفان يقنعه، بعد جولات كثيرة في طوابق المؤسسة ومكاتب الموظفين، بأن يتخلى عن موقفه ويدفع غرامات تربية الغنمة، لكن أستاذ اللسانيات بقي مصراً على موقفه الأخلاقي المبدئي، وتابع مع رفيقته الجديدة معركتهما ضد البيروقراطية لدرجة أخافت الموظفين الذين لا يفعلون شيئاً سوى تبديل الطرابيش بين بعضهم والإبقاء على النظام الذي يحكم قبضته عليهم، ونتيجة لذلك صدر قرار بذبح غنمة وهمية في المؤسسة بأمر من النقابة، وتمويه ذلك بالاحتفال بتقاعد أحد الموظفين رغم أنه ما زال في الــ 56 من عمره، لتبدأ وليمة تقرقع فيها الصحون والملاعق، ويمثل المدعوون أنهم يأكلون اللحم وهم لا يأكلون شيئاً.

وضمن هذه الأجواء الهيستيرية من النفاق الاجتماعي والوظيفي يسخر إيفان من جوقة الموظفين ويتبختر مع صديقته التي ارتدت طرحة العروس، لتنتهي المسرحية مع بقاء معظم الأمور كما كانت، بما فيها ذاك الموظف في المصعد، والمستخدمة المسؤولة عن نقل تعاميم الإدارات العليا بهاتف تخرجه من تحت ملابسها، لنكون أمام تعرية للأنظمة البيروقراطية وقوانينها التي تُصَيِّر البشر موظفين لخدمة بقائها، فيتوحَّشون ويلغون أي إحساس بإنسانيتهم تجاه أنفسهم وتجاه الآخرين.

فضاء سينوغرافي متناغم مع فكرة المسرحية، الديكور فيه (صممه غدير الحسين) ساهم في ترسيخ فكرة المكاتب المتراكبة فوق بعضها والأدراج الواصلة بينها، بطريقة توحي بالمستويات الوظيفية، وبثبات الهياكل الإدارية الواهي، والمُعلق مثل ذاك المصعد الذي بات أشبه بمنارة تكشف مكامن الخلل، لكن الموظف فيها جائع دائماً، ولا يُراد له أن يتحرر من مأزقه، لأنه ازداد حكمةً ومعرفةً وهذا يُضر بمصالح البيروقراطية التي تريد ترسيخ الظلام والعتمة ووهم الثبات، وهو ما ساهمت به مناخات الإضاءة التي حققها ليوناردو الأحمد، وخاصةً أثناء تسليط الضوء من المصعد العالق نحو جمهور صالة الحمراء ليجعلنا العرض في إطار المتهمين أيضاً بداء المكاتب والصمت عن توحّش أنظمتها، وعزز ذلك الموسيقى التي أعدها ميخائيل تادروس وكانت بانتمائها إلى بيئة أوروبا الشرقية أشبه بأناشيد تدعو إلى الفخر بالثوابت الوطنية مثلها مثل الأعلام البلغارية التي ملأت خشبة المسرح وجدرانه ومكاتب الموظفين عليها.

وليتوَّج هذا العرض بهاء أداء الممثلين فيه (حسام الشاه، سوزان سكاف، خالد النجار، أيهم عيشة، تماضر غانم، أحمد حجازي، رولا طهماز، خالد مولوي، نجاة محمد، أنطوان ميخائيل) الذين استطاعوا أن يتماهوا مع شخصياتهم، ويحققوا علاقة مميزة مع الجمهور، من خلال فهمهم العميق لديناميكية فن الممثل الذي يبدأ من أفكارهم وتسخير مشاعرهم في خدمة مقولة العرض التي كتبها المخرج زين طيار على البروشور وتقول: يقع على عاتق المسرح العديد من المهام الجسيمة وأهمها اليوم تحريض الإنسان على بذل قصاى جهده لتجاوز الوحش الكامن في أعماقه.