معرض صالح الخضر: ذاكرة العناصر

شعرية صالح وسبره كنه المادة يواكبه دائماً مقترحات جمالية فريدة في تكوينها وألوانها وتجريديتها المتحررة من السائد، بحيث أن مشاهد لوحاته بإمكانه أن يستمتع مرتين.

المتأمل في معرض الفنان السوري صالح الخضر، الذي افتتح أمس الإثنين في "المركز الوطني للفنون البصرية" في دمشق، سيكتشف رؤية فلسفية خاصة ينشغل فيها عن الظاهر، ويتوغّل نحو الداخل والعمق في فهم اللوحة ككل، وترتيب روحها الداخلية المنسجمة مع روحه.

ويبدو بوضوح أيضاً هاجسه في إنعاش المادة التي يشتغل عليها، والانغماس في التفكير بكينونتها حتى إعادة إذكاء الحياة فيها، وكأنه في ذلك يقارب شعرية نزيه أبو عفش في كتابه "ذاكرة العناصر" حين طالبنا "فكّر في الألم مثلما كان مايكل أنجلو يفكر في عذاب الصخر.. فكّر في أحزان النباتات.. فيما يتألمه الطائر.. وما تشقاه البذرة.. وما يحمله عرق النبات المقطوع". 

شعرية صالح وسبره كنه المادة يواكبه دائماً مقترحات جمالية فريدة في تكوينها وألوانها وتجريديتها المتحررة من السائد، بحيث أن مشاهد لوحاته بإمكانه أن يستمتع مرتين. مرة عندما يرى الأعمال من على مسافة، وأخرى عندما يحاول استكشاف تفاصل اللوحة وذكاء البصيرة التي جعلت الفنان يتعامل مع الأوراق المحروقة والكتابات عليها والرماد والأتربة والألوان بهذه الطريقة المذهلة والعفوية والواعية لمكامن جمالها، وعناصر دهشتها، ذلك مع قدرتها على حمل أفكار كبيرة.

لوحات تشاكس برمادياتها الفاتحة، وأخرى يغلب فيها البياض ليبدو في تجاوراته مع ألوان أخرى أكثر نصاعةً وألقاً، ومع التلاعب بالحدود بين الألوان، ورشاقة إيقاع توزيعها بين بعضها، يصل الخضر إلى توازنات دقيقة على سطح اللوحة، الذي يضيف عليه في كثير من الأحيان سماكات غير متوقعة، ما يغني جماليات العمل، وكأنه يسعى لإعادة تأليف ذاكرته البصرية الغنية والمستفزّة دائماً بمكنونات ضيعته "وادي العيون".

عن فلسفته الفنية الخاصة يقول صالح الخضر في حديث خاص مع "الميادين الثقافية" إن: "للمادة روحها الكامنة. المادة ليست جماداً يحضن الحياة فحسب، بل إن الحياة تكمن في ذراتها وجسيماتها. ومن هذه الجسيمات تشعّ حيوات لا متناهية يعجز الحسّ والعين المجردة عن إدراك كنهها، لكنّ التأمّل والاستبطان يكشفان سرّها الخفيّ المذهل: كمون الحياة في تضاعيفها واستعدادها لأن تندمج في كينونة حيّة تعكس حيواتها السابقة بل وتعيش تجلّيها الجديد الآسر".

وأضاف: "هذا التجلي يحقن ليس بأنامل الفنان أو الشاعر، وإنما بأنفاس تجلياته الموروثة، لينتج كينونةً أخرى تتآلف فيها (النفس، الذات، الذاكرة) غير المدركة جنباً إلى جنب مع عجينة ما يسمّى (عناصر جامدة)، وهذا بالضبط ما أعيشه في لوحاتي، وأبعث فيها أرواحها العتيقة الكامنة، مع كوامن ما لا أستطيع أن أراه في دخيلتي وفي معنى العالم، عن طريق عجينة تشبه (المضغة الأولى) - عجينة خلق جديد يمكن للرائي أن يعيشه دون أن يفهمه، بتراسل خلّاق بين العناصر وبين الذرات الجامدة التي تشكّلت، وتشكّل منها هذا الكائن الحيّ".

وتابع: "في داخلي توق عميق، عصيّ، إلى ذاتي الكامنة ليس في التاريخ والأمكنة فحسب، بل في أثير وامتدادات العناصر. هذا التّوق الذي يضعني على طريق التّوحّد في الوجود، ليوصلني، وأنا داخل مرسمي الصغير، إلى امتلاك الكون الفسيح على مساحة قماش يسمّى بياضها الموت، وألوانها الخلود".

وعن التقنية التي يستخدم فيها كثيراً من الورق والورق المحروق أوضح الخضر أن: "هذه الروح الكامنة التي تحدثت عنها علينا أن نشعر بها بطريقة ما، طريقة غير علمية، بالعاطفة والتأمل، فهي بالنهاية بحث عن ذاكرة الشجرة، وذاكرة الثمرة، وذاكرة النسغ الذي تنقله لتصنع منه حياة تلك الثمرة، أي أن لديها ذاكرة لا واعية، ويمكن تسميتها العقل الباطني الخاص بها، وأنا أخاطبها بطريقة التعاطف والتأمل حتى أصل إلى صيغة بيني وبينها أعيد تشكيلها وأضيف عليها من عاطفتي ومخزوني البصري، وذلك لصياغة نص بصري جديد يحمل الذاكرتين بحوار وجودي عن لماذا نحن ولماذا هذا الكون".

وأضاف: "يأتي بعد ذلك دور المتلقي بذاكرته وعالمه الداخلي الوجداني، إن استطاع أن يصل إلى تلك العاطفة ويتأملها سيتفاعل مع اللوحة ويكون عنده نص بصري يخصه. فالفنان يخلق لوحة تشكيلية، والمتلقي يخلق لوحة بصرية".

وعن خصوصية هذا المعرض كان حديث مع الفنان غياث الأخرس، رئيس مجلس إدارة "المركز الوطني للفنون البصرية" حيث أكد على خصوصية هذا المعرض، وقال إن: "الفنان صالح الخضر صادق، وأدواته فريدة، ربما طبيعة المنطقة التي يعيش فيها أثارته، فعندما تقترب من اللوحات ترى الأوراق المحروقة والألوان وغير ذلك من عناصر التنوع الموجود في اللوحة الذي لا يمكن لريشة أن تصنعه، فلا بد أن يزيد لون هنا أو يفيض لون هناك. أما هذه اللوحات تبدو كأنها مصقولة كالبلور، أي أنه ابتكر تقنية خاصة به. والنقطة الثانية وهي مهمة أيضاً أنه ليس هناك استعادة في رؤيته الفنية، أو تأثر بأي من الفنانين الغربيين، ولا يمكن تشبيه أعماله بأعمال أخرى على الإطلاق، فهو فنان مهموم ببيئته، منتم لها بحب، وكل ما يرسمه نابع من ذاك الهم الجمالي ومن هواجسه الداخلية".