معرض لحليم جرداق.. مواهب واتجاهات وحداثة ثورية

مرّ جرداق في تجاربه الفنية في عدة اتجاهات، ومارس اختباراته في ضوء ما اكتسبه من عملية "تنوير" عاشها عبر تفاعله مع الحداثة الأوروبية.

استعاد متحف "نابو"، طوال عدة أشهر، الفنان اللبناني حليم جرداق في معرض له من مقتنيات المتحف، تحت عنوان: "تحية إلى حليم جرداق: الشعرية البصرية: خطوط وألوان".

من بديهيات الأمور لمن يعرف الفنان جرداق  أن يتضمّن العنوان كل هذه العناصر، وإن هي إلا إشارة إلى ما كانت أذرعه تحوط به، وهو يحاول أن يلتقط ما يترامى لديه من ثقافات وفنون وإنسانيات وتيارات فنية وثقافية.

عُرِف عن جرداق أنه فنان متعدد المواهب، والنتاج الثقافي - الفني، والرسالة، ولطالما كان أستاذاً للفن في جامعات لبنان ومدارسه، فربّى أجيالاً من الفنانين المحدثين. وكان رفيقاً وزميلاً لمروحة واسعة من الأسماء اللامعة في المجالات، التي لم تكن تفصل بين فن وثقافة، بل كانت تتفاعل في ساحاتهما على نطاق واسع، منهم على سبيل المثال لا الحصر أنسي الحاج، وأدونيس، وإيتيل عدنان، وخليل حاوي، وجورج شحادة، وآخرون كثر.

تخرّج من الجامعة الاميركية في بيروت في الفنون، ثم انتقل إلى التدريس في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، وفي "الألبا"، حيث درّس بصورة أساسية فن الحفر الذي يُعَدّ أول من أدخله مجال الفنون في لبنان.

مرّ جرداق في تجاربه الفنية في عدة اتجاهات، ومارس اختباراته في ضوء ما اكتسبه من عملية "تنوير" عاشها عبر تفاعله مع الحداثة الأوروبية، بعد أن انتقل إلى باريس، واطّلع على مختلف أعمال الفنانين، من تيارات متعددة، منها التكعيبية، والتجريد، والواقعية، والرمزية، والتعبيرية، والتشخيص.

في تعايشه مع الفنون الأوروبية حيث أقام، وتنقّل، شكّلت الحداثة الأوروبية له منعطفاً ثورياً في حياته، وعدّ الحداثة الأوروبية، التي نشأت في القرن التاسع عشر في أوروبا، مفترقاً تاريخياً، وتحوّلاً في مراحل الحياة البشرية، ووصفها عبر القول إن أوروبا انتصرت على ذاتها فيما حقّقته من حداثة، بحيث خرجت من تقوقعها السابق، ثم انفتحت على سائر دول العالم، ومجتمعاته. 

اختبر جرداق عدداً من الاتجاهات الفنية والثقافية، ومرّ في مراحل متعددة في عملية الاختبار الواسعة التي عاشها. وتحدث الناقد الفني فيصل سلطان عن جرداق لــ"الميادين الثقافية"، قائلاً إنه: "مجدّد ومبتكر في مجالات فنية متعددة. اختبر التكعيبية، والسوريالية، ثم التعبيرية، والتجريد، وصولاً إلى الكوبرا (COBRA)، وهي من الاتجاهات الفنية المهمة التي جدّدت المسار الفني، وأعادت ذكريات الطفولة، والبيئة، والحياة، إلى النتاج الفني. لذلك، اعتمد "الخط" الذي يُؤْثِر تسميتـه "الزيحَ"، والذي كان الطفل يرسم به رسومه الأولى، وأصبح ذلك مساره منذ الطفولة حتى مراحل متقدمة من تجاربه".

وأضاف أن "الطفولة هي كل حريته، وكان يَعُدّ نفسه مشّاءً في الطبيعة والشوارع، مكتشفاً الأشياء على حقيقتها. ووفق أسلوبه، المشي هو "الخط"، أي "الزيح"، الذي يكشف كل حقائق الحياة".

أما بشأن تحولات جرداق، فقال سلطان إن "كل الحداثة قامت على التحولات في علم النفس، وخصوصاً الأفكار،  والكتابات، والحلم والنسيج الفنيين". 

كانت الحرب العالمية الثانية، وما خلّفته من مآسٍ، فاصلاً أساسياً في التحوّلات الفنية في ظل تساؤلات عن المدنية الحديثة، وما آلت إليه حروبها من دمار، والأبرز منها ما جرى في "هيروشيما"، على سبيل المثال. 

عن ذلك، يقول سلطان إن "منطق الفنانين تمحور على سؤال مفاده: ما دامت الحرب، كنتاج العقلنة، أوصلتنا إلى خراب، فيجب، إذاً، أن نعود في الفن إلى ما هو لاعقلاني، ما دامت العقلانية أنتجت القنبلة التي قضت على هيروشيما، لذلك يلجأ الفنانون إلى ما يخطفهم إلى عوالم أخرى، ومنها الطفولة".

تأثر جرداق بهذا المنحى، وبمسار التحولات الفنية، وعاد بعد الحرب العالمية الثانية إلى الاقتناع بـ"وجوب العودة إلى ما هو نقي أكثر، أي اللاعقلاني”، بحسب سلطان، الذي أضاف أن "الفن هو انغماس أكثر في الحرية من خلال اللون، والخط، والتشكيل".

في أثناء مشيه اكتشف جرداق مرة علبة السردين والعلب التي دهستها الناقلات. ويوضح سلطان أن جرداق "وجد فيها أشكالاً فنية، وحوّلها إلى نتاج إبداعي، فصبّها وأعاد تشكيلها، ولعب بها، فإذا الفن الذي كانوا يصفونه بأنه اللعب، هو جوهر الحركة الفنية".

يمكن تقسيم المراحل التي مرّ فيها جرداق إلى: المرحلة الأولى، وهي مرحلة الدراسة الأكاديمية في بيروت، 1953-1956، وفي باريس، 1957-1965. والثانية مرحلة العودة إلى بيروت، عام 1966، ليعمل أستاذاً لمادة الحفر - الغرافور في معهد الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية. في تلك المرحلة، نشر رسومه الحاملة مناخات شعرية تعكس ما سمّاه "أثلام الذاكرة"، المليئة بالسحر والغموض، في مجلة "مواقف"، التي أسسها ادونيس.

المرحلة الثالثة هي رسوم "الأنوثة الخالدة"، والتي قدّمها في معرضين أقامهما له غاليري دامو (1982-1986)، وكذلك في رانكونتر الذي أقيم بعنوان "الموديل في دفتر رسم حليم جرداق" (1995)، وفي غاليري جانين ربيز (1998). ووُصفت أعماله في هذه المرحلة بأنها حوارية مع رسوم جبران خليل جبران عن المرأة، لكن رسوم جرداق كانت أكثر واقعية. 

أما المرحلة الرابعة، فهي مرحلة "الفوضى الفهيمة"، التي أطلقها جرداق عنواناً لمعرضه الذي أقامه في غاليري جانين ربيز عام ـ1998، بحيث استخدم تقنيات الكولاج، والميكسد - ميديا في ا ختبارات تجسّد "فن النغم" في التلوين الحديث.

أمّا المرحلة الخامسة، فهي مرحلة الأشكال الصافية، وجاذبية المواد المهملة الخام، ومفاهيمها في فنون الحداثة لجماليات الأشكال الصافية للصفائح النحاسية، والعلب المسحوقة، والمطعّجة، والرسم بشرائط الأسلاك المعدنية على سطوح الصفائح، وتحويل الأسلاك والشرائط المعدنية إلى نماذج عن أنصاب ومنحوتات من نحاس.

ويقول حليم جرداق: "تعكس تجاربي الفنية فلسفة لغة الأشكال، التي تخاطب أعماق النفس البشرية، أي لغة الحركة الشعرية القادمة من "قصيدة الأزياح"، أي "الزيح كصوت والزيح كحلم"".

في أواخر خمسينيات القرن الماضي، سافر جرداق إلى باريس، حيث انتسب الى المدرسة الوطنية العليا للفنون الجميلة، والتحق بأكاديميّة "لا غراند شوميير" وأكاديمية "اندريه لوت". ونال عام 1961 الجائزة الأولى للحفر في المدرسة الوطنية العليا في باريس. وكان من أوائل من انتسبوا إلى جمعيّة الفنّانين للرسم والنحت في بيروت عام 1959.

خلال عمله وإقامته بطرابلس، يذكر سلطان أن جرداق قام بتزيين أحد المقاهي بألواح النحاس المحفور على طريقة "الغرافور"، ويبدو أن هذا المقهى تعرّض لتغيرات أفقدته جدران جرداق الفنية.

في عام 1963 تعمّق جرداق في دروسه في ميونيخ وعاد إلى باريس حيث أقام 3 معارض وعاد عام 1966 الى بيروت، مظهراً تجاربه الفنيّة الحديثة.

لجرداق عدد من الأبحاث والكتابات والإصدارات الفنية، أبرزها "عين الرضا" (دار النهار، عام 1995)، و"تحولات الخط واللون: الدوافع النفسية والفكرية وراء الاتجاهات الفنية الحديثة" (دار نوفل، عام 2000).

من الصعب الإحاطة بحليم جرداق في سطور، ويبقى من الروّاد الذين تركوا بصماتهم في تجارب الحداثة المهمّة، التي مرّ فيها الفنّ اللّبناني في مراحله المعاصرة.