"من الأعلى" روايةٌ ألمانية في الفلسفة والوجود

الكاتب يتفوّه بما لم يقدر على المجاهرة به في حياته. يُشرّح السلطة، وينقد العنف، ويطرح أفكاره في الموسيقى والحياة، ويجرؤ على وسم النظام الاجتماعي الذي سايره بالتفاهة المطلقة.

  • رواية
    رواية "من الأعلى" لسيبلي ليتشاروف

سيبلي ليتشاروف (1954) واحدة من أهم الأصوات الأدبية اليوم في ألمانيا، ومن خلال روايتها "من الأعلى" الصادرة عن دار فواصل في دمشق (ترجمة حسن صقر)، توظّف عملها كأستاذة في الفلسفة لجهة جمالية جعلت من الفن مدار الرواية وحديثها. ذلك أنها تبحث في وجود النفس ما بعد الموت، وتفكّك علاقة الإنسان معها بعد أفول الجسد. 

ولعلها في هذه الجزئية تذكّرنا بالبرهان الذي وضعه ابن سينا (980-1037م) تحت اسم الرجل المعلّق في الفضاء، فالراوي رجل ميتٌ، وهو أستاذ في الفلسفة، ويقصّ لنا حياته السابقة في فضاء قوامه الخواء، من غير أن يشعر بأدنى احتكاك أو تماس، وبلا شكوك إزاء وجوده. 

وهو هنا لا يتجهُ إلى إثباته، بل يبدو ذلك أمراً مسلّماً به. في حين تقف ذكرياته له بالمرصاد، وتشكّل منبعاً خلّاقاً للسرد، بينما يحوم فوق مدينة برلين. وهنا نقع على نسقٍ آخر يوظّفُ الأمكنة التي غادرها، لتمسي الشوارع والبيوت والحدائق خلّاقة للذكرى، ما يعيدنا إلى مثال ابن سينا حين يتجرّد الراوي من كلّ ما علق به في حياته إلا نفسه بما فيها من مخاوف وأحزان ومشاعر.

تطفو أنا الراوي نحو الأعلى، إلا أن شعوره بكينونته الجوفاء لا يقصّر من فضوله. وعلى الرغم من عجزه عن إطلاق الأصوات أو التأثير بما حوله، نجده عازماً على الثرثرة أوقاتاً، والانضواء في كنف الصمت أوقاتاً أخرى. 

هكذا نسمعه يفكّك الحياة تحت ظلال الموت، ممتلئاً بالسأم والحزن، يكتشف تبدّل ذاته، والموتَ الذي على الرغم من جعلِهِ خفياً، منحهُ هبة التخلّي عن خداع النفس كما في حياته السابقة، ويمتلكُ قدرة على مواجهة حقائق أشاح بوجهه عنها: فهل خانته زوجته مع أعز أصدقائه؟ نعم، يعترف بذلك بصورة تخبرنا أننا نستطيع تجاوز الحياة بكثير من الصمت، وهل عاش ساخطاً على أبويه؟ وذلك لا نشكّ فيه. 

إذ على مدى الرواية نجده غير قادر على استذكار لحظة جميلة، أو استنطاق شعور ودودٍ تجاههما. هكذا يتخلى الراوي عن مخاتلة نفسه، إذاً يصير الموتُ خلّاقاً، ويمنحه رؤية بعيدة عن رؤاه السابقة في الحياة، كما لو أنه يخلق سبيلاً للشعور بحياة جديدة؛ حياة تخلقه وتجعل منه إنساناً مختلفاً. وبامتلاكه وجوداً أكثر جلاء عن ذي قبل، نجده يطرح الأسئلة التي تستعيد عيشه السابق بكل ما قاساهُ من آلامِ ونكران، وكأنّ الحياة بكل ما فيها بقيت في ذاكرته البرهان الوحيد على وجوده.

"لماذا أظلّ محتجزاً بين القمر والأرض هكذا، كما لو كنت معلّقاً بمسمارٍ في الكون؟ ماذا عليّ أن أقدّم لكي أصبح مرئياً للحظة واحدة؟". يثقل الفراغُ نفسَ الراوي، وتنوء لغته تحت عبء المعرفة. يصيبه تجوالهُ فوق الأمكنة التي عاش فيها برغبة بالرحيل، ويسهم اكتشافه لحقيقة أصدقائه وزوجته ليصابَ بأعباء نفسية مضنية. 

يشكّل كلّ حدثٍ يراقبه بمثابة انتزاعٍ من عالم ذاته المشبعة بالذكريات. ذلك النكوص لإعادة عيش الأحداث المؤلمة، ومن بعده الرحيل إلى خواء عالم الموت وسكونه، يشعرهُ بالرهبة. هكذا تضعنا ليتشاروف أمام مأزق الكائن في وجوده؛ بين أن يختار الحياة بثقل حقائقها، وبين العودة إلى عالم الوحدة الأبدي. 

الأمر الذي يطرح لدى الراوي أسئلة تبقى معلّقة من غير إجابات، ولربما كانت الإجابة في ذهن كل قارئ للرواية: فما الذي ينتظره الموتى؟ وما الذي يريده الأحياء؟ كل تلك الأحاجي تسجّل العلاقة بين عالمين يتأرجح الوجود بينهما من غير أن نغفل عن قدرة الراوي على تشريح الطبقات الاجتماعية في مدينته. 

"إنه عالم تغني فيه الحماقة" هكذا يستعرض حياة اللاجئين فيها، وبقوة غير معهودة يتفوّه بما لم يقدر على المجاهرة به في حياته. يُشرّح السلطة، وينقد العنف، ويطرح أفكاره في الموسيقى والحياة، ويجرؤ على وسم النظام الاجتماعي الذي سايره بالتفاهة المطلقة. إنها نفسٌ كاملة وحية. نفسٌ قادرة على كل ملكات التفكير والحكم والنقد بعيداً عن حِمى الأجساد والمادة. ومنها يجوس الراوي طرقاً فكرية بين الداخل والخارج، ويجعل من الكلمات وسيلة لتبقي على وجوده، ومن اللغة سبيلاً للهروب من الاضمحلال والتلاشي.

تجد الكاتبة في انهماكِ بطلها في العبث غايته، ولعل اختيارها لبطلٍ عمل قبل مماته أستاذاً في الفلسفة، جعل من ذلك الغوص في العدمية أمراً ليس غريباً عنه. وهو ما يدفعه لإنقاذ ما يتبقّى من ذكرياته قبل حدوث ما أسماه الانهيار التام. لذا نجده يبحث عن العبرة لحكايته، في وقت تنطفئ فيه كل الأجوبة، وتعود إليه رغبة للعودة إلى الحياة، وكأن كل العمى والتحجّر الذي عاشه فيها لم يمنعاه عن حبّ العيش والتوق إليه. 

وهنا لا نهاية تذكر لحكايته، بل يبدو الراوي معلّقاً كما نفسه التوّاقة للعودة إلى التجسّد، الأمر الذي يطرح في نهاية القصة قضية تشتبكُ بعلاقة الوجود بالزمن، وصلات الكاتب بالماضي والحاضر من غير أن يتضح لما هو قادم أدنى علامة. هكذا تستمرّ ليتشاروف في صياغة أسئلتها حتى آخر كلمات الرواية، وتذهب لاستنباط العلل وطرحها على مائدة النقاش لتخلص بنصّ فلسفي له أن يعرف الوجود ويبحث عن معناه". 

هل يريد أحدهم أن يبيّن لي بأن الحياة يمكن أن تكون أسوأ من الموت؟ وبأن عليّ أن أحسب نفسي سعيداً لأني تخلّصت منها، لأن الأمر يتعلق بتجاوز فارغ لا أكثر؟ سئمتُ هذا الهروب المخادع إلى ما هو قدريّ ومحتوم. إنها مجرد مواساة شكلية لأدخل إلى مركز مظلم يُحيل كل شيء إلى زوال، لكنه قد يكون فخاً. من يدري؟".