من الفكرة إلى الدهشة.. معرض مشترك للنحاتين الرمحين ومراد

في معرض مقام في"غاليري زوايا" بدمشق، يقدّم النّحاتان لطفي الرمحين ووليد مراد 53 عملاً تستدعي كلّها الزائر إلى التقاط مكامن الجمال والعلاقة الخاصة التي تنظم الكتلة مع الفراغ.

  • من أعمال لطفي الرمحين
    من أعمال لطفي الرمحين
  • من أعمال لطفي الرمحين
    من أعمال لطفي الرمحين

الزائر لمعرض النَّحاتَين لطفي الرمحين ووليد مراد في "غاليري زوايا" بدمشق، والراغب في تفسير الدهشة التي تصيبه في كل عمل معروض من المنحوتات الـ 53، لا بد له من الغوص عميقاً، ومحاولة التقاط مكامن الجمال، والعلاقة الخاصة التي تنظم الكتلة مع الفراغ، التوتر مع الاستقرار، الجنوح التجريدي -إن صحت التسمية- مع صوفيّة الوجوه الحانية واتزانها وانسجامها.

وعليه التأمل كثيراً في آلية تَنَفُّس المنحوتات، وتَعَشُّقها بالضوء والظلال، وكيفية تحوُّلِها إلى ما يُشبه الرَّقَصَات بخطوطها وانحناءاتها وسطوحها المصقولة بعناية وإيقاعها الداخلي، سواء أكانت مادتها من الرخام أو النحاس أو الخشب أو البازلت أو الكروم، من دون أن ينسى بلاغة الفكرة الجمالية الحاملة لها، والحرية الكامنة في كل عمل من أجل الوصول إلى صياغات نهائية تنسجم فيها المنحوتة وروح الفنان، وتوقه للوصول إلى حال خاصة من النقاء، يُزيل فيها كل الشوائب العالقة بالمادة، محيلاً إياها إلى أعمال فنية تحمل في مضمونها بداهة البساطة وقوة الفكرة وجماليات الانسجام.

الممتع في جميع منحوتات الرمحين هو التوازن الدقيق في تحديد مركز ثقل الكتلة، فتحسّ بأنها مستقرة ولو ارتكزت فقط على نقطة صغيرة المساحة، حتى تبدو لكأنها راقصة باليه محترفة، بكامل رشاقتها وحيويتها وانتمائها إلى فضاء الحرية. 

بين التجريد والفيغوراتيف تدفقت منحوتات الفنان لطفي الرمحين الــ 13 مُحمَّلةً بطاقة تعبيرية هائلة، لا تركن إلى أسلوب، بقدر ما تستنطق هَوَسَه بالانطلاق نحو فضاءات من الدَّهشة، مع حُرية في تحوير الأشكال، تبدأ من مشاعره وتنتقل إلى نُسغ المادة بين يديه، مُحدِثاً تآلفاً أنيقاً وجاذبية عالية بين أعماله والناظر إليها، بحيث يدفعك إلى تأملها من مختلف جهاتها، والسعي لالتقاط مصادر إلهامه لها. مرَّةً ترى جسد امرأة، بلا رأس ولا قدمين، مصلوباً بشكل أفقي بين عارضتين من الكروم، وفي أخرى تميل في جلستها بخطوط هائلة في سلاستها مع ما يشبه التاج على رأسها، ويلمع النُّحاسُ المُتشكِّلة منه في اندغام عميق بين المادة وشكلها. وفي ثالثة تقف وكأنها مُغطاة بغلالة من خشب، بينما في عمل آخر مُصاغٍ من الكروم، عالي التعبيرية، يُصبِح الإنسان شِراع ذاته، وهو متَّكئ على صارية أقرب إلى عُكَّاز، ورأسه ينحني نحو الأرض، وفي منحوتة خشبية أخرى، يجعل الرمحين الإنسان ككائن أسطوري برأس أفقي وعنق طويل وجسدٍ مستلقٍ بأرجل ممتدة على هواها، أو بعينين مغطّاتين بشباك، فيما تستفز حواسك منحوتته الرخامية التي تُجسِّد امرأةً تكشف عن بعض مفاتنها، بتفاصيل غاية في الدِّقة، تاركةً لعين المتلقي وخياله حريةَ إكمال المشهد، حتى لكأنك تشعر بأنها تتحرر شيئاً فشيئاً من أسرها داخل الرخام. 

الممتع في جميع منحوتات الرمحين، إضافة إلى قدرتها على خلق علاقة حميمة مع الرائي وإدخاله في متنها مباشرةً، هو التوازن الدقيق في تحديد مركز ثقل الكتلة، لاسيما في المنحوتات كبيرة الحجم، فتحسّ بأنها مستقرة ولو ارتكزت فقط على نقطة صغيرة المساحة، حتى تبدو لكأنها راقصة باليه محترفة، بكل رشاقتها وحيويتها وانتمائها إلى فضاء الحرية. 

وفي حديث خاص بـ"الميادين الثقافية" قال الرمحين عن أسلوبه المتجدد: "أعتقد أن بحثي المتواصل هو السبب، فأنا أحب أن أكتشف بالتشكيل، وهذا هو الأمر المهم بالنسبة إلي، لا سيما أنني أعتبر التكرار موتاً، إلا إن حَمَلَ التكرار بعض التجديد الذي يشكل إضافة ما، وفن النحت بالأساس فن حر من غير الجائز حصره ضمن تصنيفات محددة وتوصيفات مُلزِمة".  

وعند سؤالنا هل يكون ثمة فكرة ما قبل بدئه بالنحت، أوضح الرمحين: "ليس بالضرورة أن يكون بذهني شيء محدد قبل البدء بالعمل، ربما تكون هناك حالة أبدأ بها، وبعدها كل شيء قد يؤثر فيّ وبإنجازي المنحوتة: الهواء، البرودة التنفّس الصاعد والهابط، التعب، وغير ذلك من المؤثرات. أحياناً المادة التي أشتغل عليها سواءً أكانت خشباً أم كروم أم رخاماً، قد تُقدِّم لي دليلاً لطريقي نحو العمل، لكن ليس بالضرورة أن ألتزم ذاك الدليل، أو أن أسلك ذاك الطريق. قد أمشي فيه قليلاً، ثم أُغيِّره، فالمهم عندي أن كل ذلك ينبغي أن يتلاءم وما أفكر فيه، وألا أرضخ لمتطلبات الطبيعة، بل لمشيئتي الخاصة". 

  • من أعمال وليد مراد
    من أعمال وليد مراد

أما منحوتات وليد مراد فإن حيويتها حاضرة بقوة، إذ تتحول صلابة الرخام والحجر إلى رهافة من نوع خاص، بحيث تبدو مادةً مطواعة بين يديه، لا سيما في علاقتها بالفراغ، والتناغم بين بُنْيَتِها العامة والاهتمام بالتفاصيل الصغيرة.

تتراكب في بعض أعمال مراد طبقات المادة تاركة عين المتلقي للبحث في أكثر من مستوى عن الاستقرار الشفيف بين الكتلة والفراغ، وجماليات الاتكاء على نقطة صغيرة في أسفل العمل مع القاعدة.

إذ تتخلى الكتلة الكتيمة عن كونها صمَّاء، وتتحوَّل إلى عمل فني كثيف في بَوحِهِ، وانعتاقه من ثِقْلِه، خصوصاً بعدما تغلغل الهواء في ثناياه، فبات مُشبعاً بالمعنى، وهو ما يتضاعف عند النظر إلى كل عمل من زوايا مختلفة، وخصوصاً منها تلك المنحوتات التي تؤكد العناصر الشكلية الخالصة، والمتحرّرة من النموذج الطبيعي، والتي تبدو بمجملها نتاج تفكير عميق في صيرورة المادة، واحتمالات تكوُّنها، من دون تحميلها وزناً فكرياً زائداً، وإنما تجريد المادة من فوائضها، وتفكيك شيفراتها الوراثية، وتنقيتها بأكسجين التجربة والحذف المستمر، ما يحيلها في النهاية إلى متعة بصرية باهرة، بخطوطٍ غاية في الإتقان، والتواءات مُحْكَمة التوازن كأنها قطعة موسيقية، مع محاولة تقشير طبقات الزمن للوصول إلى الهيولى الأولى للشكل.

هكذا ترى في منحوتة رخامية ضخمة وجهاً ينضح بالحزن متجهاً نحو الأسفل، وفي أخرى يَتَقَنطَر الرُّخام تاركاً وجه إنسان في المركز محاطاً بحنان الفراغ العظيم، وتُحيلنا منحوتات مراد الأخرى إلى جسم سمكة، وجسد ثور، وكائنات أسطورية، وتتراكب في بعض أعماله طبقات المادة تاركةً عين المتلقي للبحث على أكثر من مستوى عن الاستقرار الشفيف بين الكتلة والفراغ، وجماليات الاتكاء على نقطة صغيرة في أسفل العمل مع القاعدة، وذلك في منحوتاته الرخامية والحجرية أو المصبوبة من النحاس.

وعن تجربته الخاصة، لكونه لم يدرس الفن أكاديمياً، وتأثره بفن الرمحين أوضح مراد في تصريح لـــ "الميادين الثقافية" أن حكايته مع الحجر قديمة جداً تعود إلى عام 1975، إذ يمتلك منشرة حجر وكسَّارات في صيدنايا.

  • من أعمال وليد مراد
    من أعمال وليد مراد

وفي عام 1995 تعرف إلى الفنان لطفي الرمحين، ونشأت بينهما علاقة قوية، وباتا يلتقيان في مشغله، يقول: "أحسست أن لدي موهبةً في النحت، وكان بطرس الرمحين أخو لطفي، مديراً لأكاديمية في النحت، نصحني عندما سألته،  كيف من الممكن أن أبدأ  النحت، بقوله: هناك ثلاثة أمور عليك الانتباه إليها، أولاً أن تختار ماذا ستنحت وتطبعه في ذهنك، ثانياً اختيار الكتلة، ثالثاً أن تكون يدك خفيفة على الحجر، بمعنى أن تتعامل مع قسوة الحجر بمرونة لتُخرج منه شيئاً جميلاً، ومن تلك النقاط الثلاث ابتدأت، وحتى الآن أرى أن النحت هوايتي الجميلة التي تفرحني، وأمارسها بمحبة واضعاً في مخيلتي تصوراً عما أريده، ثم أبدأ بتفريغ الحجر من زوائده، محاولاً الدخول في العمق والتفكير في العمل النحتي من جميع سطوحه، فلولا ذلك لما استطعت إخراج الشكل الذي أبحث عنه".