من حلب إلى دمشق.. التغيير بالموسيقى

"إن كان ثمة تغيير نريد إحداثه في عالم اليوم فالطريقة الوحيدة هي الموسيقى". هذه العبارة تلخص رسالة كورال وأوركسترا ARPA الحلبي في الأمسية التي احتضنتها كاتدرائية سيدة النياح بدمشق.

"إن كان ثمة تغيير نريد إحداثه في عالم اليوم فالطريقة الوحيدة هي الموسيقى"، هذه العبارة للموسيقي جيمي هندريكس تلخص رسالة كورال وأوركسترا ARPA الحلبي في الأمسية الكلاسيكية التي احتضنتها كاتدرائية سيدة النياح للروم الملكيين الكاثوليك (كنيسة الزيتون) بدمشق. إذ عبر 10 مقطوعات من عصر النهضة والباروك والكلاسيك، وبين الموسيقى والغناء بقيادة المايسترو جميل البيطار، استعدنا جماليات تعود إلى ما يزيد عن 600 عام.

بدأت الأمسية بصلاة "يا رب ارحمنا" من ألبوم "لبركة المساء" التي لحنها فليكس مندلسون عام 1833 وبرزت من خلالها مدى فهمه الفطري المبكر للتداخل اللحني والهارمونيا والتلوين الأوركسترالي، حيث بدأت بخطين موسيقيين ما لبث أن غذَّاهما صوت السوبرانو مايا دباغ بصلاة "يا رب ارحم دعاءنا واملأنا بروحك.. يا رب ارحم واكتب وصاياك في قلوبنا.. يا رب أصغِ لنا"، مع وقفات موسيقية لا تلبث أن تتعزز بروحانية عالية في الأداء.

المقطوعة الثانية كانت عبارة عن الحركة الأولى من قدّاس فرانز شوبرت بعنوان يا رب ارحم/kyrie وفيها يبرز مزاج تعبُّدي خاص بالموسيقي النمساوي الذي اختزن في ذاكرته مخاوف طفولته من غزو نابليون للنمسا، وانعكس ذلك على أعماله ومنها هذا القدّاس، الذي أدَّاه كورال أوركسترا ARPA بشفافية آسرة، وكأنه ترداد لصدى معاناتهم في حلب تحت القذائف وتفجيرات الحقد، وكان من آثارها وفاة المايسترو الأب الياس جانجي الذي كان يدير الفرقة قبل أسبوع من حفل لهم على طريق خناصر.

تبع ذلك مقطوعتان موسيقيتان الأولى روندو للمؤلف الفرنسي جان جوزيف موريه، والثانية هورنبايب/رقصة المزمار لجورج فريديريك هاندل من الموسيقى المائية، وكلاهما أبرزا طاقات الآلات الوترية من تشيلو وكونترباص وجوقة الكمانات، لاسيما في أجوائهما الاحتفالية التي تليق بـ"متحف للذاكرة" كما يراهما العديد من نقاد الموسيقى.

المزمور 110 "يشرب من النهر المجاور للطريق.. لذلك يشمخ برأسه منتصراً" من ألحان هاندل أيضاً أظهر من خلاله الكورال تناغماً هائلاً وانسجاماً وتوازناً وانضباطاً  بين طبقات الأصوات الأربعة "ألتو، سوبرانو، باص، تينور"، تلاه المزمور 42 "كما يشتاق الأيل إلى مجاري المياه، هكذا تشتاق نفسي إليك يا الله" لـ"جوفياني بييرلويجي باليتسرينا" والذي أداه الكورال بأسلوب "الآكابيلا" بالتركيز على جماليات الصوت الابتهالي من دون مرافقة الآلات الموسيقية، إذ طالما اعتقد "منقذ الموسيقى الكنائسية" كما يدعو النقاد المؤلف الإيطالي، إلى التخفيف من الأسلوب البوليفوني المزخرف أكثر من اللازم لأنه يجعل كلمات الصلاة مبهمة أكثر منها مفهومة.

مقطوعة سيدة الأحزان أو كما هي معروفة بالأم ستابات لجيوفاني باتيستا بيرغوليسي جسدت من خلالها أوركسترا ARPA أحزان السيدة مريم العذراء على صلب وحيدها، وسمعنا من خلال الآلات الوترية صوت الألم والمناجاة وكأنها تقول "اجعلني أشعر كما شعرت، واجعل روحي تتوهج وتذوب"، فعلاً تحقق الذوبان في الموسيقى من خلال هذه المعزوفة، لننتقل بعدها إلى المزمور 51 من تلحين أنطونيو لوت وفيه تتراكب الأصوات فوق بعضها مع فوارق زمنية لغناء ذات الكلمات، وكأنها تضرُّع مُكرَّر وإمعان في الاسترحام من الخالق "ارحمني يا الله كعظيم رحمتك.. وبحسب كثرة رأفتك امحُ مآثمي".

"سلام للجسد الحق الذي وُلِدَ من مريم... كن معنا في محنة الموت" وهي ترنيمة قديمة من الطقوس الكنسية تتم تلاوتها في خدمة القداس، لحَّنها موزارت بطريقة تأملية تربط المؤمنين بالمعنى التعويضي للألم، لذلك تركت في الأمسية، على الرغم من مأساوية لهجتها، شعوراً غامراً من السلام المستنير، بحيث يمكن أن نقول عنها تطهيرية بالمعنى الأرسطي، لاسيما مع التوافقات اللحنية التي أبدعها المؤلف النمساوي، وخروجه عن ضبط النفس التقليدي لموسيقى الكنيسة التي سادت في عصره.

انتقلت بعدها الفرقة لمقطوعة أداجيو للإيطالي تومازو ألبينوني ذات الإيقاع الهادئ واللحن الانسيابي الشاعري، ومنها إلى الختام بصلاة "نؤمن بإله واحد" من ألحان أنطونيو فيفالدي المؤرفة من أربع حركات، تنتقل من النغمات البسيطة للمرنمين في الحركة الأولى، مع مواكبة معززة للكمانات والتشيللو، لتتعزز نوع محاكاة من محاكاة درامية لفعل التَّجسُّد، وفيها الكثير العنفوان، الذي يبلغ ذروته في لحظة الحديث عن الصلب، أما الحركة الرابعة فتعتمد على تهدُّج موسيقي مشابه للحركة الأولى، بعد حديث قانون الإيمان عن القيامة، لتنتهي بما يشبه دعوة للتأمل.

وعن سبب هذه الخيارات الموسيقية أوضح المايسترو جميل البيطار في تصريح خاص بــ "الميادين الثقافية" بأن تلك المقطوعات تعبر عن رجائنا بقيامة سوريا ونهوضنا مما نحن فيه بعد الأيام الصعبة التي مرت علينا.

وقال"نحن لم نرض أن نيأس ونرضخ للظروف، بل كنا نحاول التعبير عن أملنا ورجائنا بقيامة سوريا ورحمة ربِّنا، لذا هذه النصوص تعبر عن حالنا ورسالتنا، التي هي رسالة سلام ومحبة من حلب إلى دمشق بعد سنوات حرب صعبة جداً".

وأضاف أن ما قُدِّم هو من أصعب أنواع الموسيقى، وأنه تم تجاوز الصعوبات جميعها بالاجتهاد والتمرين المتواصل والدؤوب، إذ يقول: "طيلة أشهر كان هناك الكثير من التعب والتركيز والإصرار لإخراج هذا الحفل بهذه الطريقة المميزة، سواء لموسيقى عصر الباروك أو للمقطوعتين من عصر النهضة، خاصةً أن النسيج الصوتي لهذه المواد الموسيقية نقي جداً، لأنه كان يُكتب أساساً ليُقدَّم في الكنائس".