مهرجان القاهرة للمسرح التجريبي.. ذكاء اصطناعي وأفلمة مسرحية

القفزة إلى الأمام تحقّقت منذ العرض التمهيدي الذي وضع الإنسان في صراع وجودي مع مصفوفات الذكاء الاصطناعي، من يتحكم بالآخر؟ ومن هو الأقدر على السيطرة؟ ومتى يكون فاعلاً ثم لا يلبث أن يتحوّل إلى مفعول به؟

لم يكن افتتاح "مهرجان القاهرة الدولي للمسرح التجريبي" بدورته الثلاثين تقليدياً. إذ فاجأ جمهور القاعة الكبرى في دار الأوبرا المصرية باستخدامات مغايرة لمفهوم التجريب، مع الاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي في عرضه التمهيدي، إلى جانب أفلمة المسرح في عرض "تشارلي" (تأليف الدكتور مدحت العدل، قصة وإخراج أحمد البوهي، وإنتاج شركة سي سينما)، الذي حقَّق للمرة الأولى حضوراً للمسرح الخاص في افتتاح مهرجان رسمي ترعاه وزارة الثقافة المصرية.

هذا ما أكده سامح مهران، رئيس المهرجان، في كلمته التي أوضح فيها أن: "المسرح في تقدُّمه كان التعبير الأوضح عن الخروج من تنظيم اجتماعي إلى تنظيم اجتماعي آخر، ومن اتجاه معرفي إلى اتجاه معرفي مغاير. وبالتالي فالمسرح المنحاز إلى الماضي، إنما هو مسرح يتبدى لنا كميت يتكلم، فمن لم يغادر ماضيه لا ماضي له".

وأضاف: "لا تغيير في المجتمعات من دون التجريب، فمن لا يجرّب يغلق الدائرة من حوله، ليظل يدور ويلهث داخلها مقطوع الأنفاس، ويموت مختنقاً بالعزلة والصمت. صحيح أن كل فعل تجريبي سواء في الفن أو العلم، إنما يتم بالرجوع التمهيدي إلى الوراء، لا بقصد تقمّصه أو استنساخه، لكن بهدف القفز إلى الأمام بشكل أفضل وأكثر قوة وثقة".

القفزة إلى الأمام تحقّقت منذ العرض التمهيدي الذي وضع الإنسان في صراع وجودي مع مصفوفات الذكاء الاصطناعي، من يتحكّم بالآخر؟ ومن هو الأقدر على السيطرة؟ ومتى يكون فاعلاً ثم لا يلبث أن يتحول إلى مفعول به؟ كل ذلك ضمن توتُّرات جمالية تحققت من خلال شفافيتين يتموضع بينهما الممثلون، ولُعبة إضاءة مُبهِرة أحاطت بهم من جميع الجهات.

وبين الفعل وردّه يتحوَّل الفضاء المسرحي إلى منبع للمشهديات الساحرة، والمُمثِّلون إلى صُنّاع جَمال، وكأنهم ينحتون الفراغ حولهم بأزاميل من نور، مُتحرِّرين من دائرة الزمن وكينونتهم الفيزيائية التقليدية، واضعين الصِّراع في انبثاقات جديدة للوجود، وجاعلين ما كان غير مرئيٍّ سابقاً بصيغته المشهدية المُعبِّرة.

تكثيف درامي مُذهل وسلاسة في الطرح وبساطة أنيقة، انتقلت من العرض التمهيدي إلى فقرة التكريمات التي تخلَّت عن الخطابيات المُمِلة في مقابل تقديم لطيف للمكرّمين بطريقة مسرحية تنقلهم من الكواليس إلى الخشبة، ليتلقوا دروع التكريم من وزيرة الثقافة المصرية نيفين الكيلاني.

والمكرمون هم الكاتبة الأوغندية أسيموي ديبوراه كاوي، والمخرج المصري ناصر عبد المنعم، والناقد العراقي عواد علي، والرئيس التنفيذي لهيئة المسرح وفنون الأداء في السعودية سلطان البازعي، وجلال حافظ المتفرغ بقسم الدراما والنقد المسرحي في مصر، والسينوغراف المصري حازم شبل، والمخرج المصري خالد جلال، والمسرحي الإماراتي محمد العامري، ومدرب التمثيل البريطاني جايلز فورمان.

عرض الافتتاح "تشارلي" استطاع أيضاً أن يستأثر بالاهتمام بتجريبيته الخاصة، إذ لم يكتف بموضوعه عن حياة أيقونة السينما الصامتة تشارلي تشابلن (1889 - 1977) ونقلها إلى خشبة المسرح، وإنما استخدم تقنيات سينمائية ولا سيما المونتاج، لتأكيد قوة الشخصية، والتركيز على أفعالها، وتكثيف الأحداث واختزالها، إضافة إلى ما تتيحه من سلاسة في الانتقال عبر الزمن، وتقديم حدثين بتاريخين مختلفين في الوقت ذاته، وغير ذلك.

ومن خلال الدمج بين الغناء والرقص والحوار، تم استعراض أبرز الملامح الإنسانية التي أدَّت إلى تحقيق "الظاهرة التشابلنية"، ابتداءً من أحلام تشابلن طفلاً بأن يصبح نجماً مشهوراً، إلى علاقته مع والدته هانا التي غذَّت روحه بقصصها وغنائها، مروراً باضطراباتها النفسية ومرضها ثم وفاتها، وأيضاً صلته بأخيه سيدني الذي تحوَّل من معارض لأحلام تشابلن إلى سند وداعم له.

في السياق ذاته، قدَّم العرض سيرورة هواجس صاحب "أضواء المدينة" والصعوبات التي اعترضت حياته الفنية، من تحكُّم رأس المال الإنتاجي، إلى سطوة رجال السلطة ومكتب التحقيقات الفيدرالي (أف بي آي)، ومحاولاتهم تحجيمه بذرائع مختلفة، منها أنه شيوعي ومناهض للولايات المتحدة وغير ذلك، مروراً بتحالف الصحافة مع الأمن لتشويه صورته أمام جمهوره، بتحريك الماء العكر حول علاقته مع زوجته الأولى، ومرة باتهامه بتخليه عن أبوَّته تجاه ابنه، وثالثة عدم انخراطه مع بلاده في الحرب العالمية، وغيرها مما أثارته بشكل كبير الكاتبة هيدا هوبر، المتخصصة في أخبار المجتمع والنجوم، وغير ذلك الكثير.        

وعبر صيغة أفلمة مسرحية استطاع المخرج أحمد البوهي تكثيف 88 عاماً من حياة صاحب "الديكتاتور العظيم"، بمختلف جوانبها الفنية والإنسانية، مستغلاً كل مفردات السينوغرافيا من ممثلين وديكور وإضاءة وأزياء وماكياج وموسيقى، ومُسَخِّراً تقنيات السينما في التقطيع والإسقاط وتحديد حجم اللقطة والتركيز واللعب بالزمن والتحكم بسيرورة الحدث وتثويره أو التخفيف من توتره... لتحقيق حيوية مبهرة لعرضه الذي انتمى بشكله الفني إلى مسرح البرودواي الذي يكافح الملل بالبهرجة المشهدية والاستعراضات وتحريك كل شيء على الخشبة لتعزيز الحياة فيها، ودفع المتلقّين للتفاعل مع ما يشاهدونه.

يذكر أن عرض "تشارلي" من بطولة: محمد فهيم، نور قدري، أيمن الشيوي، داليا الجندي، المطرب هاني مصطفى، روان الغاب، إضافة إلى 50 فناناً من الممثلين الشباب والراقصين، ألحان إيهاب عبد الواحد، وتوزيع نادر حمدي، وتصميم الاستعراضات لعمرو باتريك، وملابس ريم العدل، وديكور حازم شبل، وإكسسوارات محمد سعد.