نجيب سرور ناقداً: طه حسين لم يفهم المعري ومنهج فرويد إسفاف!

"اشتبك" فكرياًَ مع طه حسين والعقاد وفرويد وغيرهم "وسخر" منهم.. ماذا تعرفون عن نجيب سرور؟

أحب الكثيرون نجيب سرور وإبداعه، الذي يشتبك مع الكثير من القضايا، لكنّنا قررنا في "الميادين الثقافية"، بمناسبة ذكرى وفاته، أن نكشف عن المنجز النقدي الذي تركه، والذي لم يقلَّ جرأةً عن منجزه الإبداعي، فمن غير نجيب سرور بإمكانه أن يشتبك مع طه حسين وعباس العقاد وفريد النقاش وعبد الله عبد الدائم ويخطئهم و"يسخر" من بعضهم؟

لم تغِب الجرأة أبداً عن إبداع نجيب سرور (1932 - 1978)، بل بلغت ذروة تحطيم "التابو" الأخلاقي في "الأميات"؛ وكان الاشتباك هو كلمة السر الدائمة في كل ما أنتجه، إلى درجة أنّه قدّم مراجعات قوية للمنهج النفسي، وسخر من فرويد، واستخرج نظرية جديدة من مسرحية "هاملت" لشكسبير.  

طه حسين لم يفهم رسالة الغفران لأبي العلاء المعري

  • طه حسين
    طه حسين

تمنّى نجيب سرور أن يصطدم العقاد بطه حسين في قضيةٍ ما، وكان يتصوّر أنَّ هذه المعركة بينهما ستمنحنا الكثير من الثمار التي يمكن أن يفيد منها الأدب العربي. ولعلَّ هذا الخيال النقدي هو ما ميّز منجز سرور النقدي، حيث مزج أدوات الناقد وثقافته من جهةٍ، وخيال المبدع من جهةٍ أخرى، وهذا الخيال هو ما منحه الجرأة ليتّهم طه حسين بـ"عدم فهم رسالة الغفران لأبي العلاء المعري"، الذي لطالما ارتبط اسم حسين به. 

كاد هذا الصدام أن يحدث بالفعل حين كتب العقاد عن الخيال في "رسالة الغفران"، وبدأت الحكاية حين وصفها بأنّها ليست نفحةً من نفحات الوحي الشعري التي يعجز الشعراء عن إنتاج مثلها، وغير ذلك من القصص التي يخترعونها اختراعاً، وأضاف أنّه لا يرى أي ضرورة لأن ينظر لمثلها كأنها عمل من أعمال توليد الصور والبأس، وعلّق العقاد في النهاية بأنّ "ليس في قولنا هذا غبن للمعري، أو بخس لرسالة الغفران". 

وفي نفس الوقت يؤكد العقاد أنَّ "رسالة الغفران نمط وحدها في آدابنا العربية، وأسلوب شائق ونسق ظريف في النقد والرواية، وفكرة لبقة لا نعلم أن أحداً سبق المعري إليها"، بينما رأى نجيب سرور أن "طه حسين بارد الأعصاب"، لأنه حين استفزّته هذه الكلمة ردَّ بأنَّ "العقاد كاتب جيد، ويحتاط لنفسه جيداً، لكنّه يخادع الجميع عن طريق مزج الحق بالباطل، فأثبت للمعرّي شيئاً من خيال، وأنكره عليه في الوقت نفسه"، وتابع أنّه لن ينخدع بما يفعله العقاد بالطبع، وأنه لا يدري كيف تورّط كاتب مثل العقاد فيه. 

من الواضح أنَّ "عميد الأدب العربي" تخلّى عن شيءٍ من هدوء أعصابه حين قال "سنة سودة"، كما يقول العامّة، إذا اعتبرنا أنَّ أبا العلاء شاعراً عادياً، بينما يرى الأوروبيون أنفسهم أنَّ دانتي لم يبلغ مكانته إلا بكتابته "الكوميديا الإلهية"، التي تأثّر فيها بـ"رسالة الغفران". 

رأى نجيب سرور في هذا الخلاف نموذجاً لإمكانية الصدام بين الطبيعة العقلانية للعقاد والطبيعة الفنية لطه حسين، والغريب أنَّ سرور رأى أنّه من الطبيعي أن يفهم العقاد ما يعجز عنه طه حسين، مهما كانت الصلة النفسية والروحية بين طه حسين وأبي العلاء المعري، بل إنّه يشكك في فهم طه حسين لأبي العلاء وبالذات لـ"رسالة الغفران"! 

  • عباس العقاد
    عباس العقاد

والأجرأ من ذلك أنَّ سرور اعتبر أنّه من السذاجة أن يؤخذ عمى طه حسين، واشتراكه مع أبي العلاء في محبسه، أو محبسيه، دليلاً على قدرة طه حسين على فهم أبي العلاء؛ فقد يشترك اثنان في عاهةٍ من دون أن  يشتركا في الفكر! وأضاف أنَّ قراءةً واحدةً لـ"صوت أبي العلاء" لطه حسين، تدلّل على أنّه أبعد كثيراً من أبي العلاء في الفكر وفي الطبيعة وفي الآفاق. لم يكن إذن طه حسين بأقدر على فهم أبي العلاء من العقاد العقلاني، في رأي سرور. 

كذلك لم يهرب العقاد من مقصلة نجيب سرور، الذي رأى أنَّ رؤية العقاد لأبي العلاء منقوصة، فهو في تعليقه الموجز على "رسالة الغفران" لم يقل لنا إن كانت قصيدةً من القصائد الكبرى (التي يفتن في تمثيلها الشعراء)، أو إن كانت قصة، حيث علّق سرور ساخراً: "ولكن يا أستاذنا العقاد، ما هي؟ وما عساها أن تكون؟". 

في النهاية يرى سرور أنَّ العقاد لم يكن عاجزاً عن الردّ على طه حسين، خاصّةً أنَّ الأخير أخطأ فهم العقاد، وقوّله ما لم يقل. ومن هنا لا بُدَّ أن تكون بواعث الصمت لدى العقاد أقوى من بواعث القول والإضافة والشرح، تماماً كبواعث الصمت لدى أبي العلاء، خاصّةً إذا تذكّرنا أنَّ أبا العلاء لم يكن يناقش داعي الدعاة، بقدر ما كان ينسحب من المناقشة خطوةً بعد خطوةٍ، في كلِّ مرّةٍ تجدَّدت الرسائل بينهما.

شبّه سرور العقاد بداعي الدعاة، إذ صمت في نهاية مناقشته للمعري، ويرى سرور أنَّ هذا الصمت هو عمل سياسي بالأساس، وعلّق قائلاً: "هرب العقاد من المناقشة كما هرب أبو العلاء، حين يقول مخاطباً داعي الدعاة: قال العبد الضعيف العاجز أحمد بن عبد الله بن سليمان:أول ما أبدأ به، أنّي أعد سيدنا الرئيس الجليل المؤيد في الدين – أطال الله بقاءه – ممن ورث حكمة الأنبياء".

منهج فرويد إسفاف!

  • سيغموند فرويد
    سيغموند فرويد

لم ينحَز نجيب سرور في حياته إلى شيءٍ بعد الناس، سوى انحيازه إلى الفن والفنانين، وهو ما ظهر في اشتباكه مع المنهج الفرويدي في تفسير الفن، في مقالاته مثل "وثيقة شكسبيرية هامة"، و"مفاهيم في الفن"، التي اشتبك فيها مع الناقد عبد الله عبد الدائم، حيث ردَّ عليه بأنَّ الفنانين بالتعريف الفرويدي هم "فئة من الناس ذوو دوافع أنانية فطرية متأخرة، لم يستطيعوا تحقيق دوافعهم في الحياة الواقعية، فعادوا مهزومين ليحققوا دوافعهم هذه بطريق أخرى، هي طريق الفنون".

اعترض سرور على تصنيف فرويد للفنانين نوعياً كزمرة الحالمين والعصابيين، ورأى أنّه لا يوجد إسفافٌ في وصف الفن والفنانين أحطّ من هذا الإسفاف، وأضاف أنَّ أي فنان يحترم نفسه يجب ألا يقبل أن يشتمل تعريفه على وصفه بأنّه منحطّ الدوافع ومهزوم، وعلى وضعه بين الحالم والمجنون.

وانتهى سرور إلى أنَّ هذا التصوّر يكوّن بين الفنان والواقع شعوراً بالعداء، ثم حسبه أن يَقنع بعالمٍ آخر لا صلة له بالواقع ولا ارتباط، عالم مغاير، قوقعة، قمقم يحوطه الدخان وتلفعه ظلمات اليأس والضبابية.

 
ألف ليلة وليلة وعنترة والهلالي والزير سالم ليست حكايات شعبية! 

  • نجيب سرور
    نجيب سرور

انشغل سرور كذلك بالرد على من يقول عن الحكايات والأقاصيص الشعبية أنّها مركبات من صنع الخيال، يحاول الإنسان عن طريقها إطفاء غلّته وإرواء حرقته، وأنّها مسكّنات لا أكثر. 

واعتمد في دفاعه ذلك على التفريق بين الأقاصيص الموسومة بالشعبية، وبين تلك المصنوعة  أو "المطبوخة" للشعب بقصد تطمين الطبقة التعيسة، خاصّةً أنّها تحقق دوماً عكس ما يشتمل عليه الواقع، وهي تمنّي البائسين بالثراء، وتعزيهم بما تقصّه عليهم من الآمال السيئة، التي ينتهي إليها أصحاب النعمة والجاه، وهي ترسم لساكني الجحيم الأرضي فردوساً سماوياً ينعمون فيه، ويصف سرور هذه الأقاصيص بأنّها "ليست شعبية بالمعنى الحقيقي للكلمة"، بل يرى أنّها "ليست من الأدب الشعبي في شيء!". 

ويرى أنَّ ظهورها جاء مع ظهور محترفي الأدب الذين انفصلوا عن الجماهير العاملة، وارتبطوا بالطبقة الحاكمة، فعبّروا من خلال هذه الأقاصيص عن الأفكار والمفاهيم التي يُراد لها أن ترسخ في أذهان المحكومين. 

ويفرّق بين هذا اللون المطبوخ من الأقاصيص، وبين لونٍ آخر تلقائي من الأدب الشعبي المرتبط بالشعوب العاملة، لأنّه صادر عن رغبة جماعية عامة وإعلان صارخ عن وجود تناقض، وهنا يتبلور لبّ الخلاف الذي لا يحتمل المساومة أو الصلح في المسألة الأدبية، بين أنصار "الفن للفن" وأنصار "الفن للحياة". 

وثيقة شكسبيرية هامة: مع التجديد وضده! 

في مسرحية "هاملت"، تحضر إلى القصر الملكي إحدى الفرق التمثيلية الجوّالة لتعد أمام الأمير هاملت ما اعتادت أن تقدمه من عروض ذلك العصر، التي شهدها هاملت منذ صغره. هذا ما يلتقطه القارئ والمتفرج العادي. 

أما ما انشغل به سرور هو أنَّ حديث "هاملت"، قبل لقائه بالممثلين وأثناءه وبعده، يُعتبر وثيقة فنية هامة، شاهدة على عصر شكسبير ومسرح ذلك العصر، وأنَّ شكسبير في هذا الجزء من مسرحيته يكاد يقدّم ما يقرب من النظرية الكاملة في الإخراج والتمثيل على السواء. 

إن هاملت هنا، من وجهة نظر سرور، هو الذي يقوم بمهمة المخرج، لكأنَّ شكسبير يتحدّث في هذا الجزء من المسرحية عن المسرح في أيامنا هذه. 

وقد عُرِف سرور بانحيازه إلى التجديد، وهو ما ظهر في دفاعه عن الشعر الحديث، لكنَّ انحيازاته كانت دائماً ما تنبني على أسس فنية وقيمية واضحة، بينما كان رأيه في المسرح المصري أكثر قسوةً، فكان على سبيل المثال يفسّر كلمة "نص مسرحي" بأنَّ هناك بالضرورة نصّاً "غير مسرحي"، واعتبر بأنّها تلك النصوص التي لا يتوفر فيها الحد الأدنى من المقومات الدرامية، بالمعنى المصطلح عليه!

يتأسّف الشاعر المغامر على حجز مثل تلك النصوص غير الدرامية مكاناً على خشبة المسرح، مختبئةً خلف أقنعة التجديد والطليعية والتجربية والتسجيلية والوثائقية... وغالباً ما يكون مصير هذه النصوص هو الفشل. 

تميّز حُكم نجيب سرور بأنّه كان نهائياً باتّاً وقاطعاً، يشبه طبيعة صاحبه الذي لم يحبّ المواراة أو ادّعاء الموضوعية في غير محلها. 

أودع نجيب سرور معظم ميراثه النقدي، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، في مقالاته التي نشرها في العديد من المجلات العربية مثل "الآداب" و"الرسالة الجديدة"... واهتمت "الميادين الثقافية" بالإشارة إلى هذا المنجز في ذكرى وفاته، لعلَّ الفكرة تكون محفّزة لأحد الباحثين، فيعدَّ مشروعاً متكاملاً أو كتاباً في هذ الشأن.