نفسانيون: "ميلينيا" أو كيف تلتقي الفنون بعلم النفس

بمشاركة نخبة من المفكرين والكتاب والمتخصّصين النفسيين، تقيّم "نفسانيون" مؤتمرها الثالث في شمالي لبنان بشأن علاقة الفنون بالعلاج النفسي.

  • نفسانيون:

أقام "المركز اللبناني للعلوم النفسية والاجتماعية - نفسانيّون" مؤتمره الثالث، تحت عنوان: "ميلينيا: مرآة الانسانية"، في متحف "نابو" شمالي لبنان، وحشد له مختلف الطاقات والعناصر الفكرية والثقافية والفلسفية والفنية.

قدّم المؤتمر سلّةّ واسعةً من العروض، والمحاضرات، والاحتفائيات، رابطاً بين مختلف الحقول والمجالات والممارسات الإنسانية، استمرت يوماً كاملاً، واستوعبت زهاء 30 محاضرة وحواراً ومداخلة، شارك فيها كبار المفكرين والمتخصصين بعلم النفس وحقول الفكر المتعددة، منهم مخضرمون ومحدثون لبنانيون وعالميون، أصحاب مؤلفات، ومنهم مبتدعو طرائق جديدة وفق رؤىً خاصة بعلم النفس، وما يحيط به من جدل ونقاش واسعين.

وبدا واضحاً أن المؤتمر، الذي عُقد أمس الأحد، يفتح آفاقاً جديدة في مجالات تندرج في إطار ثقافي، بالاعتماد على الفنون من رسم ونحت ومسرح وموسيقى، كعناصر باتت تُستخدم علاجاً لحالات نفسية. لكن المؤتمر هدف إلى أبعد من ذلك، وهذا ما توضحه منسِّقة المؤتمر، الإعلامية ميسم صعب في تعريفها المؤتمر لــــ"الميادين الثقافية" كــــ "مؤتمر غير تقليدي يُعنى بدمج علم النفس والثقافة والفنون، مثل النحت والرسم والموسيقى والشعر"، متحدّثةً عن أهداف كثيرة للمؤتمر، قائلة: "لعلّ أهمّها إظهار الفن، والجمال، وتلاقيهما مع العلم، والتحليل النفسي، وإثبات مكانتنا، علميّاً وثقافيّاً". 

ورأت صعب أن "علم النفس يعتمد عموماً على كثير من الفنون في العلاج النفسي، ففرويد حلّل منحوتات دافنشي على سبيل المثال، واستخدم أعمالاً فنيّة لسوفوكليس مثلاً بتسمية العقدة بأوديب، ونحن نحلّل الأعمال الفنيّة في العلاج، ونحلّل رسوم الأطفال عندما لا يقولون ما يختبرونه من مشاعر وصراعات داخلية".

وقالت إن المؤتمر "هدف أيضاً إلى تقديم منصّة للخبراء والمتخصصين لتقديم أبحاثهم، وللفنانين لتقديم أعمالهم الفنيّة. أهدافنا جميعها تُغْني المعرفة، إذ لطالما كانت غاية مركز "نفسانيون"، وصل النخبة من المفكّرين بالطلاب والعامّة". 

من جانبه، قال علي الأطرش، مؤسّس "نفسانيون"، مع زوجته هبة خليفة، لــ "الميادين الثقافية" إن: "مركزه سعى كي يكون علم النفس أداةً للتغيير في المجتمع اللبناني"، وذلك "عندما لاحظنا، ونحن ما زلنا جامعيين، كيف تتجه أغلبية الطلاب نحو التخصص بالعلاج النفسي". 

آثرت مجموعة "نفسانيون" اعتماد الأبعاد العملانية، ويقول الأطرش، في هذا المجال: "بحثنا في المشاكل التي يعانيها المجتمع اللبناني، وسعينا خلال 7 أعوام لإقامة مشاريع ومبادرات لطرح ما لدينا، انطلاقاً من خصائصنا اللبنانية، فأقمنا معارض كتب، وأحضرنا نخباً محليّة وعالميّة لمواكبة تطورات العصر على مستوى علم النفس، وصولاً إلى اعتماد مفهوم، مفاده أن علم النفس ليس موجَّهاً إلى الطلاب أو المتخصصين فحسب، وإنما يمتدّ أيضاً ليشمل مختلف القطاعات المهنية والاجتماعية، ومختلف فئات المجتمع وطبقاته، مع أفكار تلائم أفكارهم في حملات توعية". 

المواكب لتطورات العصر وللجدليات بشأن إشكالياته، يدرك هموم منظّمي المؤتمر انعكاساً للهموم الهائلة التي بلغتها الانسانية على يد الحداثة، فحاولوا توظيف ما أمكن من قدرات وطاقات وأسلحة، لعلّهم يضيفون علاجاً إلى جانب العلاجات الكبيرة للمشكلات المتفاقمة، كإفراز للحداثة الوافدة على أكتاف الثورة الصناعية الغربية، بلوغاً لذروة التدمير مع عصر ما بعد الحداثة، تكنولوجياً ورقمياً. 

  • نفسانيون:
    الشاعر أدونيس والدكتور جان داود

المشكلات التي يعانيها الانسان تراكم تاريخي لتعقيدات العصور المتفاقمة دائماً، منذ خروج الإنسان من حياة الحرية المطلقة زمن مرحلة "المشاعة - الأمومة"، والدخول في عصر الزراعة، وبدء تأسيس فكرة السلطة والسيطرة، وتطورات مفاهيمها وقوانينها بما عقّد الحياة البشرية، فانعكست صراعات داخلية فيه، اكتسبت مع الحداثة تسمية "علم النفس"، لتكون الوسيلة التي تجهد لرتي ما أحدثته الحداثة من تمزّق في الذات الإنسانية. لذلك، يمكن فهم الجهد الموضوع في "ميلينيا" كاسم للمؤتمر. لكن ما الذي تشير إليه "ميلينيا"؟ 

تقول صعب إن "ميلينيا مصطلح يشير الى آلاف الأعوام. وعبر العصور. استخدمنا هذا المصطلح مع عبارة "مرآة الإنسانية" لأنّنا أكدنا أن علم النفس والفن يعبّران عن الذات الإنسانية، وكلاهما يعزّز الإبداع الذي يُظهِر بدوره جوهر النفس وحقيقتها".

المؤتمر هو الثالث على التوالي لمركز "نفسانيّون" بعد مؤتمرَين سابقَين، كما تقول صعب، وهما "آغورا" و"قلق في الحضارة"، مضيفةً أن المركز "يواكب كل الدراسات والتطبيقات في مجال الصحة النفسيّة، وعلم الاجتماع، بالإضافة الى العلوم الأخرى".

مستضيف المؤتمر وأحد مؤسسي "نابو"، جواد عدرا، تحدث في الافتتاح رافضاً الانتماءات الفئوية، وكيف وضع العالم العربي أمام 3 خيارات: إمّا التوجه الديني والجهاد السياسي، وإمّا التوجه الغربي الأميركي الالتحاقي، وإما الغربة الاجتماعية السياسية، قائلاً إن "نابو" تأسّس كمساحة لمناقشة هذه الخيارات، والأسئلة المتعلقة بها، ولكتابة تاريخنا الواقعي، ولتعميق حبنا هذه البلاد". 

محاضرات وفعاليات

  • نفسانيون:

جذب المؤتمر عدداً من المؤهلين والكفوئين في لبنان والخارج، وفي مقدمهم المفكّر والنفساني والرئيس الفخري لـ"نفسانيون"، البروفسور مصطفى حجازي، الذي تناول في مداخلته "سيكولوجية الإبداع: تعريفاً وعمليات وبعض تطبيقات".

أما عباس مكي، نائب رئيس المشرق للمجلس العالمي لعلماء النفس، ورئيس مركز تبيين إنترناشونال، فتناول موضوع "وجع الانسان ما بين الأركيولوجيا والتاريخ: التعبير بالفن وعلى الأريكة"، مستخدماً تشريحاً ضوئياً لنظرته عبر الشاشة.

ثم عرض مؤلّف "المنهج الشمولي" جان داود، الذي شرح فكرة "فاعلية اللعب والفن الإبداعية في تحصين الوعي، والنهوض المستدام"، شروحاً رمزية غرافيكية لتوضيح فكرته.

وكذلك رأت عميدة كلية الآداب والعلوم الإنسانية، هبة شندِب، أن المؤتمر مناسبة مهمة لتبادل الأفكار والاستنتاجات البحثية بشأن الأساليب التي يمكن من خلالها أن تؤثر الفنون في علم النفس، وتساهم في فهمنا للعقل البشري وسلوكنا، فبنظرها "الفن والموسيقى لهما القدرة الرائعة على التأثير في أحوالنا النفسية والعاطفية والاجتماعية، وهما يفتحان أفقاً جديداً لفهم عميق لعقولنا وقلوبنا".

عرّاب "نفسانيون"، الشاعر والمفكّر أدونيس، أجرى بدوره حواراً مع المحللة النفسية حورية عبد الواحد، تمحور حول إشكالية الإبداع في المجتمعات العربية. وأداره زاهي وهبي. 

المؤتمر كرّم الفنان الراحل وديع الصافي، بحضور نجله أنطوان الصافي، الذي قدم مداخلة عن الفنون المعاصرة، ورأى أن من يعرف الموسيقى يلمس الترابط بينها وبين علم النفس، قائلاً إن "هناك لغة مشتركة غير عادية يمكن تلمّسها ولها دور باللاوعي". وحذر من الموسيقى الحديثة التي يضمِّنونها أبعاداً حزينة، وإيقاعات عشوائية تدمّر الروح البشرية، ثم قدّم الصافي أغنية "لبنان يا قطعة سما" عزفاً على البيانو تكريساً لمفهوم ترابط الفنون وعلم النفس.

كما تناولت الدكتورة لينا رياشي حداد "الموسيقى بين الترفيه والعلاج"، بينما عرضت الدكتورة أندرا سلفاراجا "العلاج بالموسيقى عند تقاطع الفن وعلم النفس للتحول الشخصي"، قبل أن يتحدث البروفسور غوستافو شولتز غاتينو عن النظرية والتطبيقات للعلاج النفسي عبر الموسيقى. 

ولأن للشعر مكانته في علم النفس، تحدّث عن ضرورته في عصر الذكاء الاصطناعي الشاعر والزميل زاهي وهبي، الذي رأى ان الشعر له صلة بجوهر الوجود الإنساني، ويمكن أن يكون ضمادةً لجراحٍ، وبلسماً لأوجاع. 

أما الدكتور جايوسيب ألبانو، مدير متحف سيغموند فرويد في لندن، فألقى مداخلةً بعنوان: "الفن برؤية فرويدية"، وحضرت المنشدة ورئيسة المعهد العالي للموسيقى الدكتورة هبة القوّاس، لتتحدث عن قوة تأثير الصوت.

وكانت كلمة لدارين عمّاش عن "العلاج والفن في العصر الرقمي"، وللدكتور جان بيار نخلة، الأستاذ في الجامعة اللبنانية، الذي تناول الإبداع الفني في بعده الفلسفي، ثم تحدث الدكتور إيلي أبو شقرا عن "دور الفن في تشكيل النفس الإنسانية، وتطرقت الدكتورة مارلين حداد إلى "التحليل النفسي في المرآة".

وألقت بالفرنسية البروفسور دنيا علوش بعنوان: L'art, la sublimation et le Folie، وكذلك الدكتورة ألين حسيني عساف: De la mere a son enfant: la berceuse, uneformation de l'inconscient.

وأخيراً، تحدّثت الدكتورة ليلى عاقوري ديراني، رئيسة نقابة علم النفس في لبنان، وهي أول نقابة من نوعها في العالم العربي، عن أهمية الحسّ الجمالي في تطوير النفس البشرية، ومساهمته في التعبير عن النزاعات الداخلية والتفوّق عليها.