نقدٌ غبّ الطلب

التسويق شيء والنقد شيء آخر مختلف تماماً. التسويق يُدرَّس، وكذلك النقد. التسويق مهنة، لكن النقد ليس كذلك. النقد فعلٌ إبداعيٌّ متى تحوّل إلى مهنة فَقَد جدواه ومعناه وعِلّة وجوده.

بينما تغرق فلسطين في دماء بنيها منتظرةً الخلاص من جلجلتها العظيمة، وتعيش دول عربية كثيرة أوضاعاً مأسوية خطيرة، ينأى صنّاع الفنّ العربي عن الواقع طلباً للنجاة بأنفسهم من غضب السلطات الحاكمة والمتحكمة في كل أشكال الإنتاج. 

عشرات المسلسلات التلفزيونية التي عُرِضت خلال شهر رمضان شكّلت متاهة حقيقية للمشاهدين؛ القليل منها تناول موضوعات ذات صِلة بالحياة اليومية للناس، فيما البقية تدور في الحلقة المفرغة نفسها (راجع مقالة الكاتب "دراما الخواء")، مقابل غياب لأي شكل من أشكال النقد الجدي الكفيل بالمساهمة في رفع سوية تلك الأعمال، ومصارحة المنتجين والمؤلفين والمخرجين والممثلين بحقيقة أعمالهم وموضوعاتهم المكررة والمستنسخة عن بعضها البعض أو عن أعمال تركية ومكسيكية وسواها من مسلسلات تقتصر على قصص الحب والخيانة وعالم الجريمة والمخدرات. صحيح أن هذه الموضوعات جزء من الواقع، لكن الواقع لا يقتصر عليها.

لماذا يغيب النقدي الجدي والبناء؟

لأن وسائل التواصل الاجتماعي أوجدت جيوشاً من المجندين في خدمة هذه النجمة أو تلك وهذا الممثل أو ذاك، كفيلة بتعطيل أي قراءة نقدية جادة وتحويل أي جملة نقدية إلى حرب "سوشالميدية" بين "فانز" هذا النجم و"فانز" تلك النجمة، ينال الناقد نصيبه من السباب والشتائم التي يجيدها أولئك "المعجبون"، ويتطور الأمر أحياناً إلى "حروب افتراضية" قطرية بين بلدين بحسب جنسية النجوم المتنافسين، بحيث لا يعود أي ناقد جاد راغباً في الخوض في هذه المستنقعات الموحِلة.

لكن السبب الأهم يكمن في تلك الظاهرة المؤذية التي تضرب مصداقية الفعل النقدي من أساسه، وهي ظاهرة "النقّاد الموظفين"، أي أولئك الذين توظفهم شركات الإنتاج كمسوقين لأعمالها. إذ نقرأ لهم مدائح طنّانة رنّانة في حق الأعمال الصادرة عن الشركات التي يعملون لديها حتى قبل بثّ تلك الأعمال. هذه الظاهرة التي تخلط بالحابل بالنابل جعلت الناقد موظفاً، معطلةً جوهر دوره الفعلي، وحوّلته من ناقد إلى مُسوِّق أو مُروِّج. وترويج المفاهيم الخاطئة، كما تعلمون، أكثر خطورة من ترويج الممنوعات. 

التسويق شيء والنقد شيء آخر مختلف تماماً. التسويق يُدرَّس، وكذلك النقد. التسويق مهنة، لكن النقد ليس كذلك. النقد فعلٌ إبداعيٌّ متى تحوّل إلى مهنة فَقَد جدواه ومعناه وعِلّة وجوده. التسويق ليس عيباً، لكن العيب تسميته نقداً.

النقد ليس مقالة تُكتَب، أو علامةً تُمنَح، ولا هو قراءة عابرة في كتاب أو مسلسل أو عرض مسرحيّ، إنما هو قبل ذلك كله حركة معارضة إبداعية لها أن تبدي رأياً وترفع صوتاً أو تطلق صرخة احتجاج، وأن تسعى إلى زرع الشكّ حيث اليقين، والتوجّس حيث الطمأنينة، والقلق حيث السكينة، والعاصفة حيث الركود. 

ليس في النقد من يقين أو صواب، ولا مقدّس ينأى عن التفسير والتأويل، أو أرض حرام لا تطأها قدماه. ولئن كان النصّ الإبداعي سلطة بمعنى ما، فإن النقد هو المعارضة الضرورية لهذه السلطة.

يظن بعضهم، وبعض الظنّ إثم هنا، لا من محاسن الفطن، أن مهمة النقد تنحصر في الشرح والتفسير، وفي ترجمة ما التبس عند الفنان ومقاصده، وأن النقد يتوجه إلى الجمهور دون سواه، ويشرح له ما استعصى عليه. في هذا جزء من وظيفة النقد ولا شك، لكنه ليس الجزء الأهم على الإطلاق. النقد ليس ترجماناً محلّفاً في مكاتب المنتجين يعمل في سبيل الترجمة والشروحات.

النقد يتوجه أولاً إلى النصّ الإبداعي نفسه، يؤشِّر ولا يدل، يومئ ولا يحكي. النقد يرصد، يتابع، يضع يده في العمارة الإبداعية، وله أن يقسو قسوةَ المُحبّ، لا أن يتسامح. يكوي بناره الحارقة كل جرح لا ينفع معه دواء، وليس للنقد أن ينام على حرير المُنجَز والسائد، ولا مراعاة ما يعرفه الناس ويكتفون به، ولا ما يطلبه المستمعون والمشاهدون والقرّاء. النقد منحاز دائماً وأبداً إلى كل جديد يبزغ في مواجهة السائد والذوق العام.