"نقيق".. كيف نصنع من "خراب الدورة الدموية" عرضاً مسرحياً؟

ينبش نص "نقيق" في ذاكرة الألم، وهواجس النفس البشرية في زمن الحرب السورية.

  • من عرض
    من عرض "نقيق"

جميلٌ جداً ما حققه عرض "نقيق" للمخرج عجاج سليم من استحضار الروح اليانعة للشاعر الراحل رياض الصالح الحسين، بكل ما يعنيه ذلك من جعل الخشبة حمَّالة أوجه، وقادرة على استكناه الطاقة الكامنة في قصائد صاحب "بسيط كالماء.. واضح كطلقة مسدس" السهلة الممتنعة، وفق رؤية مسرحية حداثوية، تمزج بين الأداء التمثيلي والغنائي والراقص، بغية تصوير مقولة قد تبدو بسيطة للوهلة الأولى، لكنها تحمل في جوهرها تعقيدات العالم كله، فحواها يتمحور حول أن "الإنسان في سوريا يعيش لكنه عاجز عن الحياة".

ينبش نص "نقيق" المُبهر لروعة سنبل، التي حازت عليه المركز الأول في مسابقة "الهيئة العربية للمسرح" عام 2020 بعنوان "الخيال والكتابة خارج النمط"، في ذاكرة الألم، وهواجس النفس البشرية في زمن الحرب، مُحاولةً أن ترسم صورة بانورامية عن خيالات الأسى المديد، وانكسارات الأحلام، ومداورة الحياة للاستمرار فيها.

كل ذلك وفق لهاث في الحوارات وتطوير الحدث الداخلي، والتركيز على جوّانيات نفسية للشخصيات واختلالات ذهنية ناجمة عن الرغبة في النسيان، ومجابهة الخوف والاضطرابات الجسيمة، والتصدي للموت والفراق والغيابات المؤرقة.

وللتصدي لهذه المناخات الكابوسية، اتكأت سنبل على شعرية رياض الصالح الحسين، ولا سيما قصيدته "رقصة تانغو تحت سقف ضيّق"، جاعلةً من نصِّها كثيفاً بالمعنى، ولا يهدأ في تصعيده، وصولاً إلى ملامسة شفافية شعرية آسرة كتلك التي جاءت بمنزلة استذكارات لشخصياتها وهي تُردِّد "قلبي سائغٌ للقضم..." أو عندما قالت في مواجهتها للموت "عندما تأتي إليَّ لتدمر حياتي.. فالرجاء أن تدمرها بلطف.. ثم قُلْتُ للموت: لا تقترب مني كيلا تعود إلى أمك بعنق مكسور"، فبالرغم من الخراب العميم ما زال هناك رجاءٌ ما "فمن الممكن جدّاً.. أن تنفلق ذرّة واحدة على الأقل.. لتنسلّ منها زهرة بيضاء" والقول لحسين.

استطاع المخرج سليم تلقُّف تلك الحساسيات في عرضه، وبين الحلم والواقع، المأمول والمُحقَّق، التذكر والنسيان، نسج توليفته عن مي (ريم زينو) خريجة كلية الطب، زوجها المسافر من ويلات الحرب، وغير الراغب في العودة إلى هذه البلاد التي تأكل أبناءها بشراهة، بمن فيهم ابنهما فراس الذي التهمه انفجار في حديقة عامة، لتبقى مي مع حماتها وفاء (ندى العبد الله)، تعيشان على فتات الذاكرة والآلام المتكدسة في تفاصيل حياتهما، لنكتشف بعد مرور أكثر من منتصف العرض، الذي استمر لما يقارب الساعة، أن مي هي المقعدة نتيجة الانفجار الذي أودى بحياة ابنها وليس وفاء، وأن ما تابعناه في بداية "نقيق" ليس سوى انهيارات في البنى النفسية للأم المفجوعة.

توترات كثيفة رصدها سليم عبر مزاوجات بين غناء إيناس رشيد لقصائد صاحب "خراب الدورة الدموية"، ورقص أليس رشيد التي جسدت قرينة مي في هواجسها وأرقها وهذياناتها المديدة، وبين شخصية الضفدع (وليد الدبس) الذي أصابه العشق مع الطبيبة منذ دروس تشريح الضفادع وتنخيعها ليسكن قلبها ودماغها، ويظهر في تخيُّلاتها بكامل حيويته ونشاطه، بدل صورته كمشلول بعد ضرب نخاعه الشوكي في المختبر، لنتابع ما يشبه تبادل أدوار، وفق متواليات حُلمية وكابوسية، خاصةً مع شلل جسد مي وشللها الذهني الناجم عن رفضها لمآلات واقعها المرير.

ووفق صيغة جمالية تآلفت مجريات الأحداث على الخشبة مع شاشة سينما (المادة السينمائية زين حيدر) مكونة من ملاءات سرير مي، والذي تحوَّل إلى منصة عرض وفق تقنية المسرح داخل المسرح، انتقلت فيه مي إلى ضفدع في مختبر الحياة، بينما الضفدع المتجسد بات هو المشرف على الاختبار، ليتحول "الخوف اللزج" كما وصفته المسرحية إلى تركيبة مسرحية، تتواءم فيها السينوغرافيا بعناصرها المختلفة من ديكور إنجي سلامة وأحمد العلبي بمجسماتها الكبيرة والشفيفة، وإضاءة ليوناردو الأحمد المتوائمة مع توتر الأحداث، وأيضاً الموسيقى بمناخاتها الجمالية بين تانغو حيوي ونغمات متشنجة (توليف إياد عبد المجيد)، والاتكاء أحياناً على ما يشبه "خيال الظل"، بحيث يبقى التوتر سيد الموقف بين المرجوّ والمتحقق على أرض الواقع.

السلاسة في أداء الممثلين كانت نقطة قوة تضاف إلى جماليات العرض، لا سيما في الانقلاب الحاصل من الشلل إلى الحركة، ومن المُسيطر إلى المُسَيطَر عليه، من الرقص إلى السكون، ومن الغناء إلى الصمت، إذ كانت  مُحرِّكات التصعيد الدرامي  على أشدِّها، والمتناقضات ترسم بهاءها، بميزانسين لا يهدأ، وتفعيل لكل مساحة خشبة مسرح الحمراء الدمشقي الذي امتلأت جميع مقاعد صالته في العرض الأول لنقيق، وكأنه بذلك يحقق كلمة المخرج عجاج سليم على البروشور، والتي اقتبسها من رياض الصالح الحسين: "الشارع ضيق عندما نبكي.. قليل عندما نشتاق"، إذ إن الجمهور السوري دائم اللهفة لعروض تحاكي شغفه بأبي الفنون، وتحكي عن آلامه وآماله، فكيف إن كان ذلك بمحاكاة لشعرية صاحب "وعل في الغابة" الذي قال في رقصة تانغو: "قلبي سائغ للقضم.. ويتحرك ببطء على بلاطك الشوكي أيتها الأرض.. أيتها الأرض الممتدة من الموت بجدارة.. على نصال الخناجر.. إلى الموت بجدارة أشد.. بواسطة حبل يتدلى من شجرة زيتون مغبّرة.. أيتها الأرض المعبأة بالأخاديد.. المطلية بالحصى والرصاص.. المرتدية عباءة من جسور تصل دائماً: بين القبور والموتى؟

بين الجرح الأبيض القانوني.. والجرح الأسود الخارج على القانون.. بين القفص الفضيّ الجميل.. والقفص الذهبي الجميل أيضاً.. أيتها الأرض المكفّنة بالصور الملوّنة لتيمورلنك.. وسالومي..... وأنا مسلّح بقلبي.. قلبي السائغ للقضم.. باستطاعة أية امرأة أن تمدّ يدها إلى صدري.. وتسحب قلبي منه بمرونة.. وهذا ما حدث تماماً:

ثمة امرأة وضعت قلبي.. قلبي السائغ للقضم.. في كأس صغير.. وأضافت عليه قليلاً من الماء والسكَّر.. وكان بودّي أن أسألها بمرارة: لماذا شربت قلبي على أنه عصير برتقال.. ولم تأكليه على أنّه برتقالة؟.. ولكنها –على الأرجح.. كانت ترقص التانغو تحت سقف ضيّق!".