نوري اسكندر.. "ملفونو" حوار المحبة

لم يكن ما قدّمته الفرقة السيمفونية الوطنية السورية مجرّد "ذكرانية" عادية لنوري اسكندر، بقدر ما كان توثيقاً باذخاً لإبداع هذا الـ"ملفونو" (المعلِّم) الذي آثر أن يستقي ألحانه من جذورها السورية الضاربة في التاريخ.

بمناسبة مرور 40 يوماً على رحيل الموسيقي السوري العالمي  نوري اسكندر (1938 - 2023)، لم يكن ما قدّمته الفرقة السيمفونية الوطنية السورية في "دار الأوبرا"، أمس الثلاثاء، مجرد "ذكرانية" عادية، بقدر ما كان توثيقاً باذخاً لإبداع هذا الـ"ملفونو" (المعلِّم) الذي آثر أن يستقي ألحانه من جذورها السورية الضاربة في التاريخ، ويُطوِّعها في إنتاج موسيقى معاصرة، مُخَلْخِلاً أجناس المقامات الشرقية ليعيد تركيبها ومعالجتها وفق قوالب أكاديمية ذات صبغة عالمية. 

الروح التي اشتغل عليها اسكندر استلهمت الموسيقى والأغاني السريانية الشفاهية وأعاد تدوينها، ثم قام بتجويد مقاماتها صائغاً أيقونات لحنية شرقية بقوالب غربية، ومن ذاك "كونشيرتو العود والآلات الوترية" الذي افتتحت به الفرقة السيمفونية بقيادة ميساك باغبودريان أمسيتها، بعزف منفرد على العود للمبدع محمد عثمان، ذاك الكونشيرتو الفريد بتنقّلاته النغمية وحواراته والتي كانت أشبه بدرج صعدت من خلاله هذه الآلة الشرقية إلى فضاءات أوسع. 

وقفت آلة العود في هذه الآلة تدافع عن مكانتها الخاصة ضمن الآلات الوترية، من دون استجداء، ولكن بقدرة على اكتساب الثقة، عبر متواليات لحنيّة تبدو بسيطة للوهلة الأولى لكنها استطاعت بذكاء مبدعها أن تواكب بلاغة قوس تشيللو محمد نامق وبقية عائلة الكمنجات، كبيرها وصغيرها، بنقرات ريشة أنيقة، جعلت العزف على العود أشبه برجاءات ودعوة للإصغاء لروح هذه الآلة، تفاعل معها العازفون بتحية لزميلهم محمد عثمان بنقر أقواسهم على حامل النوتات.

المقطوعة الثانية التي قدّمتها الفرقة السيمفونية بعنوان "كونشيرتو التشيللو والآلات الوترية" لم تكن أقل أهمية، فهي مشغولة بالمنهجية ذاتها، مع محاولة لتطويع هذه الآلة الغربية ضمن المقامات الشرقية بأرباع نغماتها المؤسسة، وفق الأسلوبية السريانية المختلفة عن نظيرتها العربية.

يعتبر هذا الكونشيرتو من أصعب الكونشيرتات على آلة التشيللو، لكن محمد نامق بعزفه المنفرد، أصاب معنى الكفاح الذي تحيل إليه كلمة كونيشرتو، جاعلاً من عزفه زخرفة جميلة تُضاف إلى أيقونة ذاك اللحن، الأقرب في تصويريته الحماسية إلى معركة موسيقية يقودها التشيللو، واستحق نامق على فرادة أدائه تحية زملائه أيضاً وتصفيق جمهور دار الأوبرا السورية. 

مقطوعة الآهات التي قدّمتها الفرقة بمرافقة المغنية المتألقة لاميتا أيشوع استطاعت أن تنقل الشعر الصوفي الذي كتبه عزام كسيري، ويقول فيه: "يشهد الله أنني ما أزال.. بي شمعة تضيء المحال.. حين أرسلتها على النهر.. طاف الخيال"، إلى مصافٍ أكثر روحانية في التعبير عن معاناة الإنسان في خضم الحياة، وذلك عبر الأسلوب الموسيقي الحديث الذي اتبعه اسكندر في تعزيز هارمونيات شرقية، تجاور الصوت البشري للمغنية والكورال مع آلتي البزق والتشيللو.

وفي الآهات تبرز قدرة اسكندر في التوليف بين إيقاعية الشعر واللحن، وإعطاء الصوت أمداءه في التعبير، مستخلصاً كنوزه النغمية عبر تجاورات ما تجود به الحنجرة البشرية مع تجاورات أصوات الآلات بما فيها البيانو والمجموعة الإيقاعية والهارب، وهنا بلغت "أيشوع" أقصى درجات الإبداع في بلوغها مقاصد اللحن وإكسائه بقدرتها على غزل صوتها بما يليق بهذه التراجيديا التي ألّفها الملفونو السوري.

ومما اشتغل عليه اسكندر وصار علامة فارقة في الموسيقى ما أسماه "حوار المحبة" وفيه استطاع إدغام الموسيقى الدينية السريانية مع نظيرتها من الابتهالات الإسلامية، وفق صيغة تأملية تدرس التأثيرات والاشتقاقات اللحنية، بحيث تمكّن من جمعهما معاً وجعلهما ضمن سيرورة واحدة.

حوار المحبة قدّمته الفرقة السيمفونية مع كورال المعهد العالي وجوقة الفرح لمؤسسها الياس زحلاوي، وغناء منفرد لريبال الخضري الذي غنى منها قصيدة "يا واهب الحب" من كلمات ياسر حمود ويقول فيها: "يا واهب الحب... يا الله، أطلق يديّ.. فما بيني وبينك سوى الجوى.. ولستَ تدركني وإن أدركتَ زكريا.. لك أعبائي، ولي لوناً، ولي لوناً ليس مرئيا.. لكلّ الألوان مقدِّساً مسحورا.. وفي المتاهات عنك باحثا.. في كل الأكوان لك هامسا.. أدرِكْني... يا مدركاً زكريا. يا صاحبَ الأسرار.. ألم يحن الوقت بعدُ، لتبوحَ لي بأسراري.. يا صاحبَ الأسرار". 

هذه المقطوعة الصوفية امتازت بإيقاعاتها ودراميتها العالية، وجاء صوت خضر ليعزز تلك الدرامية بتنقّلاته بين طبقات القرار والنغمات العالية، وبعد رحلة في زخم اللحن، تختتم المقطوعة بتكبير "الله أكبر، ليسوعك ورسولك محمد يا الله" أدّاه باقتدار نور زيتون مع تهليل الكورال ليعيده الخضري بطريقته الخاصة، وتكون نهاية الحفل بذروة درامية غاية في الجمال مع أصوات المنشدين تبتهل "يا الله.. السلام". 

يذكر أن الأمسية افتتحت بفيلم وثائقي من إنتاج "دار الأوبرا" وبصوت مديرها العام المايسترو آندريه معلولي، تضمّن قراءة في مسيرة نوري اسكندر الإبداعية وشهادات لكل من سمير كويفاتي والأب الياس زحلاوي والفنان دريد لحام والموسيقي محمد عثمان.

وفي كلمة مؤثّرة لسوسن اسكندر، ابنة الراحل، قالت: "نورٌ حقيقي أنت يا نوري.. به عاندت الجهل والظلام فأشعلت في قلب كل من رافقك وكل من صادفت أملاً وفرحاً وأسئلة كثيرة. نورٌ حقيقي وقدرةٌ باهرة على الإمساك بزمام اللغة، في إجلاس الكلمات وإبداع اللحن البسيط الكامل، اللحن الذي ينفد إلى الوجدان ويسكن الذاكرة، ويعبر بنا بانسيابية تسرق الوقت وتجتاز حواجز الزمن، فتردّد صدى نغمات شعبية مغرقة في القدم، محملةً بالحكايات القديمة وسرير العربات النازحة المحملة ببقايا الأيقونات والكتب، لتوقظ الوقت المنصرم منذ آلاف السنين، وتحكي أصالة هذه الأرض وعراقتها".

وأضافت: "من هذا العمق ولد نوري اسكندر ليحمل معه ألحانه وثقافته السورية، منطلقاً منها إلى عوالمه وتجلياته السحرية، لإيمانه المستمر بأن الموسيقى التراثية ضرورة للتأسيس لموسيقى معاصرة، ليخلق حوارات آلية جدلية تفاعلية في الأجناس والمقامات، ذات مضامين جديدة تعكس جدلية الحياة وتطور المجتمعات والأديان في أرض الرسالات الهادفة إلى تمجيد خالق واحد في وطن واحد".

وتابعت: "نوري الأب المربي الداعم الملهم والسند، يا من علّمتني الفضول واندهاش البحث عن السؤال وعن الأعماق والجوهر، وعن الجمال والروعة في ثنايا التفاصيل الصغيرة، وزرعت فيّ الحب والأمل والإيمان بالاستمرار والتفاني في العمل ومن دون استسلام"، قبل أن تختم بالقول "أبي أعلم أن روحك معنا تشدو من خلال جسور نورانية تثملنا وتتركنا نترنّح في حالة روحية في مزيج من نشوة طربيّة ومتعة حسية، شكراً لك أيها السوري الأصيل المتواضع النبيل على كل ما قدّمت ويكفيني فخراً أنك أبي ونوري مدى الحياة".