هل يصبح العالم كلّه سفّاحاً؟ لماذا انقسمنا حول "سفّاح الجيزة"؟

ما زال "سفّاح الجيزة"، وقبله العديد من الأعمال الدرامية المصرية، يثير الجدل حول أهدافه وأشكال تأثيره في الناس. لماذا ننقسم حول دراما الجريمة؟ وهل خوفنا منها مبرر؟

حالة من الجدل أثارها ولا يزال يثيرها مسلسل "سفّاح الجيزة" منذ بداية عرضه على منصة "شاهد" وحتى اليوم، فالقضية التي يثيرها مستوحاة من أحداث حقيقية صادمة، وقصة مؤثّرة عن سفّاح قتل عدة أفراد من عائلته في مصر. لكنّ النقّاد وكذلك الجمهور انقسموا حول المسلسل ولا يزال يتصدّر التريند في مصر والوطن العربي.

ربما مرّت هذه الحادثة مرور الكرام أمام الكثير من المصريين لكثرة ما حصل مشابهاً لها، عن أشخاص يقتلون عدة أفراد من عائلاتهم، لكنّ إبراز القصة في سيناريو أنجي أبو السعود والقصة للكاتب والمؤلف محمد صلاح العزب، بشكل فريد، مع إنتاج ضخم وإخراج لهادي الباجوري وموسيقى تصويرية مميّزة لكريم جابر، جعلت من المسلسل حالة خاصة أعادت الجمهور المصري ثانية لمتابعة مسلسلات درامية.

منذ بداية عرضه جذبت الأغاني الشعبية التي كانت في خلفية المشاهد انتباه المتابعين، لأنها أعادتهم إلى إحدى أجمل الأصوات الشعبية المنسية "بدرية السيد" بأغنيتها "العدل فوق الجميع"، وأصبحت "تريند" لعدة أيام، بخلاف بعض المشاهد التي لم تنتهِ حالة الجدل حولها حتى اليوم، مثل مشهد أحمد فهمي وهو يطبخ، أو داليا شوقي وهي في حالة انفعال وانهيار.

دراما الإجرام بين القيل والقال

  • أحمد فهمي في مشهد من
    أحمد فهمي في مشهد من "سفّاح الجيزة"

اعتاد الجمهور المصري منذ بداية تعرّفه إلى الفنّ قبل أكثر من 100 عام على دراما الجريمة، حينما كان يضجّ مسرح جورج أبيض وبديعة مصابني ونجيب الريحاني، لكن ربما دراما الإجرام كانت تأخذ طابعاً أخلاقياً كلاسيكياً، إذ كان لا بدّ أن ينتصر الخير في النهاية، وتتحقّق العدالة وينهزم الشرّ وتتحقّق العقوبة. 

لكنّ تلك النظرة بدأت تضمحل بمرور السنوات حتى أصبح لدينا دراما واقعية من الحياة العامة، مثل قصة ريا وسكينة الشهيرة والخُط الصعيدي وغيرها، انتهاءً بـ "سفّاح الجيزة" الذي أثار الخوف لدى البعض من إمكانية تقليد مثل هذا النمط، كما حدث في فيلم "بطل من ورق" بطولة ممدوح عبد العليم وآثار الحكيم.

لكن الناقدة الفنية منار خالد ترى أنه لا يوجد أي مشكلة من تقديم شخصيات السفّاح في الدراما، أو في السينما، فهي موجودة طوال الوقت شأنها شأن أيّ شخصية درامية عادية، حتى لو كانت مستوحاة من وقائع حقيقية، الوقائع جزء من مصادر المبدع وحقّ مشروع.

وقالت خالد لــ "الميادين الثقافية" إن هناك أمثلة في تناول قصص واقعية مثل شخصية سعيد مهران التي كتبها نجيب محفوظ في "اللص والكلاب" والقائمة على وقائع نشرت صحفياً، حرّكت داخل محفوظ شيئاً كتب منه رواية عظيمة، لافتة إلى أن هذه هي النقطة التي يتحوّل عندها الأمر من مجرد قصة حقيقية إلى عمل درامي بحتّ من حيث أداء الممثّل وطريقة الإخراج وعناصر الصورة وهكذا، بصفته دراما. 

وتعتقد أن المقارنة بين شخصية السفّاح الدرامية - التي تمّ تقديمها عشرات المرات، ليست وليدة فكرة جديدة أو اختراعاً - وبين ما يقدّمه رمضان والعوضي هي مقارنة ليست في محلها. أولاً لأنّ لكلّ عمل طبيعته، وثانياً، لأن العوضي يتبع النمط، نمط الشخصية، فيعيد تدويرها وتخضع لموسم رمضاني ضخم يتطلّب فيه وجود نموذج مثله إلى جانب باقي نماذج الأعمال الأخرى، بينما محمد رمضان على الرغم من تمسّكه بنمط ما في كثير من الأحيان، إلا أننا لا يمكن أن نضعه كلياً داخله، لأن هناك محاولات للخروج منه.

أما عن تقليد أشخاص لهم، فهذا برأيها، غير مقنع وغير مبرّر، لأنه في النهاية هذا فنّ، ومهما وصلت درجة تدنّي الشخصية تبقى شخصية درامية وواجب تقديمها ما دامت توفّرت فيها سمات ودوافع، وكلّ من يقلّد يتحمّل النتائج، لكنْ ليس على الممثّل لوم، ومن حقه الكامل تقديم ما يراه مناسباً ومحبّباً إليه، والسفّاح خصيصاً ليس في صفاته ما يستهوي تقليده. 

بل إنّ المسلسل قدّم له خلفيّة طفولية "مبرّراً دراميّاً" لأفعاله، ليس كلّ من يحيا اليوم مرّ بها. فهو شخصية مرّت بأزمة ما، ترتّب عليها فعل درامي، يعاقب عليه القانون داخل المسلسل وخارجه، فأيّ تقليد في ذلك سيميل إليه المتفرّج، وحتى إن مال، فما ذنب العمل الدرامي في الأمر، وتساءلت خالد "وهل يحتاج السفّاح لمشاهدة مسلسل كي يصبح سفّاحاً؟".

أصبحت دراما الجريمة، خاصة الواقعية، تستهوي المنتجين حالياً، لكنّ خالد ترى أن ذلك تعميم ظالم، فهذا القول كما لو كان يؤكد أنه ليس هناك غيرها على الساحة، بينما نحيا في ظل دراما متنوّعة، رغم ضعفها على مستويات فنية عديدة، لكنها تبقى متنوّعة ولا تنحصر جميعها داخل سياق عنيف فقط. فالعنف ثيمة درامية، وما المانع من تقديمها إذا توفّرت الإمكانيات؟ إلى جانب الثيمات العائلية والعاطفية والسياسية وغيرها، مضيفة أن كلّ عمل درامي قادر على التأثير على لا وعي المتفرّج، حتى وإن كان رومانسياً، فهي عملية تفاعلية لا يمكن تجريد حساسيتها أو مدى تأثيرها، وصاحب الدفة والمتحكّم الأول في مدى حدود تأثيرها هو المتلقّي ذاته، وإلا سيصبح العالم كله سفّاحين، أو ستصبح الدراما جميعها أبطالها ملائكة.

سُنّة الفنون

  • ريا وسكينة
    ريا وسكينة

من قال إن الفنون تتحدث فقط عن الأمور الإيجابية ولا تبرز مشكلات المجتمع؟ الناقد الفني أمجد جمال قال إن الفن الحقيقي هو ما يبحث دوماً عمّا وصفهم "النماذج غير السوية وغير الطبيعية التي لديها دهشة أو غرابة"، فهذه هي سنّة الفنون.

ويرى جمال في حديث مع "الميادين الثقافية" أن نموذج المجرم ليس نموذجاً حديثاً يتِمُّ تقديمه للمشاهد. فقد تمّ تقديم شخصيات مثل ريا وسكينة وسفّاح النساء وغيرهم. كما أنّ أشهر فيلم قدّمه هيتشكوك كان "السفّاح"، وهذا لم يساعد المختلّين عقلياً على تقليده كما يظن البعض، أو حتى ساعد أشخاصاً من مجتمعات مأزومة مجتمعياً واقتصادياً على تقليده. كما أنه ليست هناك ضمانة عند تقديم أعمال تحتوي على العنف أن يقلّدها أشخاص، فنحن نشاهد منذ سنوات طويلة هذه الأعمال ولم نجد من يقلّدها، فليس معنى أن يشاهد شخص ذلك فهو يقلّده فوراً، فهناك تربية وتعليم.

ولم يرحّب بفكرة أن هناك أشخاصاً قد يقلّدون نموذج الرجل المجرم المحبوب، مثل بعض أعمال محمد رمضان أو أحمد العوضي، لكنه قال إن هناك مجرمين بالفطرة موجدين بالأساس، وليسوا منتظرين لنموذج بلطجي يتمّ تقديمه على الشاشة لتقليده، فهناك مجرمون على مدار الحقب التاريخية المتنوّعة.

وأضاف: "لم أرَ أيّ عمل فني فيه عنف مطلقاً يشجّع الناس على تقليده، بل دوماً يبرز أن ذلك ليس أمراً طبيعياً".

تقليد الأبطال في الدراما واقعياً

ربما نشاهد بعد انتهاء عرض كلّ مسلسل لمحمد رمضان أن قلّده بعض الشباب في تصفيفة شعره أو ملابسه، أو حتى تناولوا مقاطعه على "تيك توك" مع تقليد أدائه وحركاته، لكنْ لأيّ مدى يكون تقليد الشخصيات الدرامية ممكناً؟

تجيب الطبيبة النفسية نهال زين قائلة: "لا أعتقد أنّ ذلك من الممكن أن يؤثّر في شخص بهذا الشكل، لكن لو كان هناك أحد لديه ميول معادية للمجتمع وانحرافات سلوكية، فهو ليس بحاجة إلى مشاهدة فيلم أو مسلسل ليعطيه أفكاراً لتنفيذها، هو نفسه تكون عنده سمات اضطراب الشخصية المعادية للمجتمع أو السيكوباتية وليس بحاجة لاقتراحات".

أما أستاذ علم الاجتماع، سعيد صادق، فيرى أنّ دراما الجريمة والعنف لها دور توعوي وتحذيري ومهم للمجتمع، كنوع من الحماية المسبقة من تلك الجرائم، والتعرّف إلى العنف ومبرّراته التي تعرضها  الدراما. أما عن تأثيرها على الجمهور فيعتقد أنه يختلف من فرد لآخر لكنها ليست تبريراً لأيّ عنف أو جريمة، مضيفاً أنّ الاعتقاد بأنّ من يشاهد جريمة في فيلم أو مسلسل يطبّقها في الواقع في اليوم التالي، هو أمر خاطئ.

وأضاف صادق أنه أحياناً يكون العنف في الدراما تنفيساً لأيّ ميول عدوانية عند الأشخاص وليس سبباً لها، مبرّراً ذلك أنّ من يرتكب جريمة يكون عادة قد خطّط لها منذ مدة طويلة لأسباب وظروف خاصة به، والدراما ليست السبب وإلا كنّا رأينا آلاف حالات القتل عقب أي مسلسل أو فيلم عنيف.

انتقادات متنوّعة للمسلسل

بغض النظر عن الحالة التي لا يزال يثيرها أبطال مسلسل "سفّاح الجيزة" مثل حالة السخرية والهجوم على الممثّلة داليا شوقي، والأداء الذي رأى بعض المشاهدين أنه مفتعل وغير واقعي، إلا أن الناقد الفني رامي المتولي لديه رأي مختلف.

يرى المتولي أن المسلسل يثير حالة جدل إيجابية رغم الأداء الضعيف لأبطاله الرئيسيين: أحمد فهمي وباسم سمرة، فهما كما وصفهما "ميس كاستينج" أي غير مناسبَين لدوريهما، مضيفاً أن أحمد فهمي ممثّل ضعيف وإمكانياته وأدواته الفنية والتمثيلية ضعيفة للغاية، وقدراته التعبيرية بوجهه والتي عليها الاعتماد بشكل رئيس في المسلسل هي شبه منعدمة لديه، والأداء الحركي كذلك، ونبرة الصوت أيضاً. أما باسم سمرة فهو ممثّل جيد، لكن في حال توظيفه من مخرج لديه وعي وخبرة، وهذا لم يحدث في هذا المسلسل، وهي نقطة ضعف معروفة لدى هادي الباجوري.

أما عن تقليد الناس لشخصية المجرم فيرى المتولي أن الفن دوره التوعية، لافتاً إلى أن الواقع لديه نماذج أسوأ من التي يتم تقديمها على الشاشة، ودائماً ما يتأثّر المبدعون بالنماذج الموجودة في الواقع ويمزجونها بالخيال فتظهر أعمال فنية جيدة.

أما عن أعمال محمد رمضان والعوضي وأيّ فنان آخر يقدّم شخصية المجرم في السينما أو الدراما، مثل أحمد السقا وكريم عبد العزيز وباسم سمرة، فهذا انعكاس للواقع وهذا مطلوب للعملية الفنية، خاصة إذا كانت هذه الأدوار موظّفة بشكل جيد، سواء تجارياً أو فنياً.

بينما الخوف من انتشار جرائم نتيجة عرض مسلسل "سفّاح الجيزة" فهو لا يتفق مع هذا الطرح، ويرى المتولي أن المسلسل ينظر إلى المريض النفسي من ناحية منصفة، خلافاً لفترة الأربعينيات والخمسينيات التي كانت تنظر إلى المريض النفسي بصورة هزلية، مع تعمّد السخرية منها وتسطيح دور الطبيب أو الاختصاصيّ النفسي، وهذا ما فرّغ الفكرة من محتواها، على عكس السنوات الأخيرة التي ظهرت فيها شخصية المريض النفسي بصورة أقرب للواقع. 

وبالطبع يتم تفريغ الشخصية على مراحل، فمن الممكن أن يكون العمل جريمة مثل "سفّاح الجيزة" فيتم اختيار شخصية البطل سايكو، أو يكون المسلسل نفسه توعية بالأمراض النفسية، مثل مسلسل "خلي بالك من زيزي"، فهو يقوم بالتوعية بمرض اضطراب فرط الحركة وتشتّت الانتباه ADHD، إذ يوعّي الناس حول المصابين به من الأطفال أو الشباب.

وختم الناقد الفني رامي المتولي حديثه مع "الميادين الثقافية" بالقول إنّ علينا عدم تحميل الفنّ ما لا يحتمل، فلا يوجد أحد سيقلّد عملاً فنياً، العمل الفني هو انعكاس للواقع.