وليد مراد يحاور الحجر: حين يغيّر الهواء مغزى الشكل

ينهل وليد مراد من الواقع أحياناً، فينحت سمكةً سوداء أو ثوراً بملامح مصقولة. لكنه في أغلب أعماله يتخلى عن المنشأ الواقعي متجهاً نحو تجريدات بالغة الحساسية في فهم مغاير للمعنى.

يواصل الفنان السوري، وليد مراد، حواريته مع الحجر في معرضه المقام بصالة "زوايا" في دمشق، معززاً رشاقة تكويناته التي تُؤْثِر إبقاء ثقل الكتلة في أسفل منحوتاته، تاركاً تفرعاتها تنطلق نحو الأعلى، وكأنه بذلك يُحرِّر خامات الصخور التي اشتغل عليها من جاذبيتها المعتادة، مع التأكيد على خفّة كينونتها بين يديه، بحيث يرتكز بحثه التشكيلي على خلخلة الهواء الداخلي للمادة التي يشتغل عليها، والمثابرة على إتاحة المجال لتمتلك كل منها جناحيها الخاصين.

ما يؤكد عليه مراد هو الانتقال من صلابة الحجر إلى رهافته، وتنقية الكتلة من فوائضها، والسماح لها بأن تتنفس باستمرار، مزيلاً صفة "الصَّمّاء" عنها، جاعلاً إياها مُتَحدِّثة بطلاقة عن صيرورتها ومسيرة تكوينها، بما يتضمنه ذلك من تلوينات جمالية، ليس فقط على صعيد الكتلة والفراغ، الخطوط والأشكال، الترابط والانسجام، الحركة والسكون، بل عبر التركيز على إيقاعية تلك التكوينات أيضاً، إلى درجة تبدو معها تلك الأعمال الفنية أشبه براقصات في الفراغ، لا سيما منها التي تترابط فيها الانثناءات والتشابكات، بحيث تكاد لا تُصدِّق بأن مادتها الرئيسية هي الحجر الصلب أو الرخام.

أعمال تحمل معها كل عناصر إبهارها، من ليونة الخطوط، إلى السطوح المصقولة بعناية صائغ، مروراً برشاقة التكوينات، وتحررها من سطوة واقعيتها الماضية نحو بهاء حاضرها الفني، كل ذلك يجعلها متدفقة بالجَمال ومُحمَّلة بطاقة تعبيرية هائلة، تستمد جوهر معناها من قوة التجريد التي حققها النحات "مراد"، مستخرجاً ماهيات جديدة للشكل تعيد تحديد العلاقة مع الواقع وتحيله إلى عالم أكثر نقاءً وانسجاماً وجمالاً.

المتتبع لمنحوتات المعرض سيتلمَّس ما يشبه مفتاحات صور متكررة، ليس على صعيد الشكل فحسب، وإنما من خلال إيقاعات دقيقة بين الكتلة والفراغ، بين الظل والنور، وبين الثقل والخفّة. الأمر الذي يدفع المتلقي إلى مطالعة العمل من جهاته المختلفة. إذ يشعر أنه بتغيير زاوية النظر إلى المنحوتة فإنه يكتشف معانٍ جمالية جديدة، وهو ما أتاحته إمكانية تدوير بعض الأعمال الموضوعة على محور من التَّمعُّن بكثافات متعددة للشكل ومعادلاته الوجودية المتغيرة.

وبين الرخام بتعريقاته وألوانه المختلفة، والحجر بسواده الفاحم، والبرونز والنحاس بلمعانهما البهي، تتعدد الخامات التي اشتغل عليها "مراد"، لكنها تتشارك جميعها بفلسفة فنية واحدة، تتخلص بالانطلاق من الشعور الداخلي للفنان وعاطفته تجاه ما ستبوح به الكتل الصَّماء، وكيف سيتمكن من استنطاقها جمالياً، ضمن حواريات متعددة، لا تستكين للسَّهل، بقدر ما تسعى للنَّبش في كينونة المادة، والارتقاء بها تعبيرياً، بناءً على تأمُّل حثيث فيما ستؤول إليه لغة الحوار ذاك من بلاغة استثنائية، بغض النَّظر عن قلة مفرداتها، وكأن الموضوع أشبه بتلخيص مكثَّف للجوهر، واستنبات المعنى وفق أسلوب خاص.     

في بعض الأعمال تظهر قدرة مراد على تحويل الصخور إلى خطوط ليِّنة وكأنه يرسم على الفراغ بقلم حبر صيني، وأحياناً تبرز قدرته على مداورة الشكل من خلال إزاحة الصلابة والتَّحكُّم بها لتصبح منحوتته أشبه ببتلات وردة متراتبة بجانب بعضها، وفي أعمال أخرى يتجه نحو شفافيات متقنة تظهر من خلال العلاقة بالفراغ المحيط، ويُرَقِّص بعض منحوتاته على إيقاعات حيوية لتصبح أقرب إلى راقصة باليه مشدودة القوام.

ينهل الفنان السوري وليد مراد من الواقع أحياناً، فينحت سمكةً سوداء أو ثوراً بملامح مصقولة. لكنه في أغلب أعماله يتخلى عن المنشأ الواقعي متجهاً نحو تجريدات بالغة الحساسية في فهم مغاير للمعنى، فيظهر الكثير مما يشبه حرف النون في احتضانه الأمومي، وأحياناً يُشعرُك ببلاغة الرفض من خلال تشكيل يشبه "لا" تنثني ألفها على لامها بطريقة راقصة، ويطوي جناحي بعض أعماله كيمامة تخفي رأسها، وفي جميع منحوتاته يُغيِّر الهواء مغزى الشكل.

في حديث مع "الميادين الثقافية" مع الناقد التشكيلي غازي عانا، أوضح أن علاقة وليد مراد بالحجر قديمة، وارتبطت بداية بالتزيين والجماليات، لكنها تطوّرت قبل سنوات باتجاه آفاق جديدة ارتبطت بالجماليات التعبيرية كقيمة، مستفيداً من خبرته الطويلة بتلك الخامة النبيلة، معتمداً الصياغات المتنوّعة والمتحرّرة من أية قيود أكاديمية، أو أسلوب يمكن أن يحدّ أو يشوّش على خياله وطموحه لإبداع أو إنجاز ما يرغب من تشكيلات نحتية في فراغات متحرّرة من الجاذبية، وملتزمة بحدود المنطق بالعلاقة بين الكتلة وفراغها الداخلي، واستقرارها على القاعدة، مراعياً التوازن والنهوض الحيوي والرشيق للعمل كحضور لائق ولافت تشكيلياً وتقنياً.

وأضاف عانا: "تعرّفنا أكثر على وليد النحات في معرضه السابق قبل حوالي سنة بمشاركة صديقنا المشترك النحات لطفي الرمحين، وكان عرض فيه بحدود 20 عملاً بخامات وصياغات متنوعة تميّزت بلطفها وحيوية تشكيلها وغنج ارتقائها، وهذا ما لاحظناه أيضاً في هذا المعرض للنحات الشغوف، الذي تحول اهتمامه بالأحجار إلى هواية وغواية وعشق للنحت الذي وصل به الأمر إلى حد الهوس الجميل والمحبب".