"بناية ماتيلد" أكثر من حكاية بناية… إنها حكاية وطن

"بناية ماتيلد"، رواية ضلّت طريقها، فبدل أن تنقل واقع جريمة روّعت بيروت إبان الحرب، تحولت الى وصف دقيق لكل ما في المدينة عدا تلك الجريمة. فعبّرت بلسان الشخصيات عن اليومي والعادي ورسمت صورة عن لبنان المشتهى والمنسي في آن.

الأنا هنا وهناك والآن

رواية "بناية ماتيلد" للروائي اللبناني حسن داود.
الرواية: بناية ماتيلد

تأليف: حسن داوود

الناشر: دار الساقي  - بيروت – 2015

 

قراءة: وداد طه *كأنّما هو الله ينظر إلى الأحداث والشخصيّات الروائية نظرة العالم بكل التفاصيل والأحاسيس والأحداث، المتحكم بسيرها وسيرورتها، والمندرج فيها بكونه محرّكها الأول والأخير، يتّخذ حسن داود موقف الرّاوي العليم وهو ينقل لنا نصّه المكثّف "بناية ماتيلد" متّخذاً له شكلاً أدبيّاً ارتبط بالتّطور الاجتماعي والإنساني هو الرّواية.

وهي روايته الأولى، والتي صدرت عام 1983 عن دار الآداب ثم أعادت طباعتها دار الساقي عام 2016، أقف عند موضوع التطور الاجتماعي في قراءتي، لأنّ "بناية ماتيلد" حضور معقد وكثيف للصّور والنّاس وهي تمتزج في الذات، فيما الذات الكاتبة تتفوّق عليها وتنظر إليها منتصرة على إمكانية تماهيهما أو سيطرة الخارج بشخوصه وأحداثه الكثيرة والمعقدة عليها، وبذلك فهي تحرّك الاجتماعي ضمناً في عالمها وشكلها كذلك. إذ يمكنني أن أدّعي أن داود شكّل فصوله بناء على تشكّل وعي اجتماعي شخصي مقصود في الرواية.

    في فصول ثلاثة، يحرّك حسن داود عالم "بناية ماتيلد" كأنّه يقرأه من فنجان فيما يتناول قهوته الصباحيّة. نشعر أنّه أعاد تركيب الطبقات والساكنين إلى ما لانهاية، وأنه كتب عنهم بعدما شبع تفكيراً بهم، بل بعدما انسكبوا جميعًا أمام وعيه لهم، واسترجاعه لتفاصيل حيواتهم المختلفة والمتناقضة والبعيدة والصّائرة إلى مصائر متباينة، أرغمتها ذاكرة وفكر حسن داود على المثول لرغبته في تشكيل مصائرهم - رغم أنّه لا يبدو متدخّلاً فيها مطلقاً- مخفياً بذلك رغبة دفينة في إعادة تشكيل الواقع المعيش للسّكان وللحياة حولهم والوجود ونفسه، أو فلنقل مخفياً معرفة كلّية ورؤيوية لكل شيء.

   نراه خارج الأحداث وداخلها في آن، مستعيناً بوصف دقيق ومبهم أحياناً لكل شيء، عدا أمّه، التي تحضر في الفصلين الأوليين بكثافة، ثمّ تغيب بعد أن تترك بناية ماتيلد وراءها إلى غير رجعة، مستبقة الحرب والتغيّرات التي جاءت بها، صانعة المستقبل الذي مكّنه من رؤية البناية عن كثب حين غادرها.

 بتؤدّة يدخلنا داود إلى بناية لسيدة أرمنية تدعى ماتيلد، يسكنها ساكنون قدماء، يعرفون كل شيء عن حيوات بعضهم البعض، يتشاطرون الأحاديث والمزاج أحياناً وحتى أجزاء من بيوتهم المشرّعة على بعضها، كأنّما هم بيت واحد مفتوح على طوابق عدّة، بل ونظرة للجمال واحدة ينبهنا وينبههم لها في الفصل الأخير مجيء أحمد السبليني – أحد الشخصيات التي تقطن البناية قبيل الحرب أو أثناءها - والذي حين غيّر من مشهد الشرفة لفت نظر عمته أولى الساكنين وآخرهم إلى تلك الإمكانية لرؤية البحر، والتي غابت عنها لأنها كغيرها أغلقت نوافذها على تلك الزاوية من البيت.

التشفير في كل زاوية من الرواية، في كل لمحة استطاع داود أن يلفت نظر القارئ إلى اجتماعي ما ينتقده، أو ينقله ويترك لنا عبء نقده أو انفلات إمكانية تغييره منّا، فيما هو قابع ينظر ويحلل ويترك لنا خيبة عدم القدرة على شيء حتّى رؤية ما استطاع هو أن يلمحه في تلك البناية الممتدة على خمسة طوابق.

يشرّح داود النفسيّات من خلال الوصف الدّقيق للأحاديث بين النسوة، للصّباحات المتكررة، للمخبوء تحت الألسنة، وفي القلوب حين لا تقدر على القول أو لا تعي أو تملّ المحاولة.

  عمته تحتل مساحة من الرّواية، وهي من دون هويّة محدّدة لأنها من دون اسم، رغم أنّها المحرّك الأول لمعظم الأحداث أو للوصف. بيتها، مجيئها المبكر إلى بناية ماتيلد، احتلالها للبيت وتسلّطها على كل شيء وكل لفتة وتفصيل فيه ولساكنيه، زوجها، أولادها، زياراتها للجيران، أحاديثها مع مدام لور، شخصية أخرى يكثر ذكرها، موقفها من زوجها وحبيبته، ومن جدّه وعمّه الآخر الفاشل أو الذي عاش حرّاً من نقد الجميع وصورة البطل الموضوع في مخيلة العائلة.

"كانت عمّتي وحدها في البناية..." هكذا تبدأ الرّواية، جملة يقولها الزائر، أي الرّاوي وهو الكاتب حسن داود، حين يقف على الشرفة يتأمّل الماضي ويستعيده بدقّة ودهاء مخيلة طفل يريد أن يلهو بالزّمن ويمتلكه.

" كانت عمّتي وحدها في البناية..." يكرّر الجملة نفسها في الفصل الأخير أكثر من أربع مرات بصيغ مختلفة آخرها يرتبط بالذاكرة حيث يقول: "ما عدا عمتي التي بقيت وحدها في البناية، في الطّابق الخامس العالي، كأنّه جناح في فندق ساحليّ قديم"، وهي ذاكرة مثقلة بالمكان، لم تنجُ منه.

ولا نعرف إن كانت جملته تشفّياً أم توقّفاً عند بقاء عمّته في بناية تداعت حجارتها وساكنوها معاً عبر الزّمن، فراحوا يتساقطون بالموت أو الفرار أو الرّحيل، كما راح المكان – البناية - يتهاوى بفعل الرّحيل، والساكنين المتجدّدين دونما انقطاع ولأسباب متباينة، كالحرب، وأحيانّا غامضة كذلك الذي سكن مع ماتيلد في شقّتها ثمّ قتلها من دون أسباب واضحة ومن دون ندم.

أقول تشفّياً في عمة جعلها الخاسر الوحيد في بناية باعها ساكنوها الواحد تلو الآخر، فيما بقيت هي متشبّثة بما طلبته، عالمة بكونها ستخسر أمام المالك مهما فعلت، لأن تلك العمّة تحكّمت في أمّه وحاربتها تلك الحرب النسوية الباردة، فيما رأينا أمّه تخطو بعيداً ومن دون أن ترجع النّظر وهي تبتعد عن ذلك المكان، في محاولة للانتصار للأم أمام ظلم العمّة وتسلّطها على حياتها. هذا ممكن ولكن الأكيد أن داود في وصفه المتقن، كان يصف المجتمع اللبناني كلّه، بعاداته المترهلة وفكره الذي هو بحاجة إلى إعادة ترميم أو بيع نهائي كما بناية ماتيلد المهترئة.

  لم نشعر أن الحرب مرّت من هناك، فالوصف لها كان وصفاً عابراً فيما أحداث الحياة اليومية للسّكان تسير وتتشابك وتتعالق بطريقة متناغمة، تعبّر عن انسجام الناس رغم اختلافهم، عن طبيعتهم الساذجة أحياناً، عن رغبتهم في أن يكونوا أفضل مما هم عليه في الحقيقة إذا ما دعت الحاجة، عن تمسّكهم بقيم الجيرة رغم سلاماتهم العابرة على السلم، عن هروبهم من اليومي بأي ثمن، عن أحلامهم البسيطة، وخوفهم من التغيير حتى وإن كان تغييراً طفيفاً لديكور لن يلحظه أحد ولاحتى من غيّره، عن استسلامهم لرأي الغير فيهم وخوفهم منه في آن، عن تحوّل كل ما هو فوق العادة بنظر الإنسان إلى شيء ممل مع الزّمن، عن الجريمة والحب، اللذين يقعان خلف باب واحد، بل وفي قلب واحد يتلاصقان ولا فرق مكانياً بينهما في النفس البشرية...

تقع الحرب فيما النسوة العجائز متراخيات المؤخرات على مقاعدهن والعوانس فقدن الأمل والأطفال يلعبون في حدائق مهما تغيرت ملامحها، فلا يرون فيها إلا فسحة للّعب. أجل، تقع الحرب صدفة، ولا أحد فعلاً يفكر فيها، الكلّ مشغولون بالحياة وبالموت، بمراقبة الآخرين والسعي إلى معرفة ثرواتهم إن وجدت.

 ولا أحد يترك بناية ماتيلد من ساكنيها بسبب الحرب، ولا بسبب روائح الموت التي انبعثت من شقّة الروسية العفنة أو انتقال مهجرين جدد إليها ولا حتى إذا ما وقعت جريمة وفاحت رائحة الدّماء على الأدراج، وشعرت النّسوة أنّهن مراقبات وخائفات من تشابه هندسة بيوتهنّ مع بيت القتيلة ماتيلد، فالحرب استثناء هناك ولا قيمة إلا للحظة الرّاهنة، والكل مشغول وساعٍ إلى شيء ريثما تتوقّف المدافع، التي لا نسمع صوتها، بل نلمح أثرها في الوصف، غباراً وبعض شظايا الزّجاج على سرير طفل واهتزازت في الحيطان تذكر بصلابة الحائط أكثر من قوة القذيفة القريبة...لا شيء هناك في بناية ماتيلد إلّاها..الحرب تمرّ وتبقى هي.

وما جعل السّاكنين يبيعون ويتركون المكان هو المالك، الذي قيل إنه هو من سبّب الانفجار، وأنه من وضع تلك القنبلة التي قطعت أوصال الأدراج ومنعت العمّة من متابعة زياراتها إلى بيت مدام لور، العمّة التي لم تفقد ديناميّتها أبداً والتي بقيت وحدها في بناية ماتيلد تتشبّث بمبلغ تعلم أنها لن تناله، بعد أن تنازل السّاكنون واحداً تلو الآخر للمالك الذي "استدرجهم واحداً واحداً". هذا المالك المبهم الهوية غموض مضاف إلى بناية ماتيلد المشرعة على الخارج، الواضحة، العالية، والتي لم يغيرّ ساكنوها معالمها إنّما كانوا يكتفون ببعض التغييرات السّطحيّة والتي صارت مع الّزمن طبقات من الطّلاء المتآكل السّريع التساقط أمام هبة هواء يأتي بها شبّاك عتيق ترك مفتوحاً أو أهمل إغلاقه.

وحده بيت عمّته في الطابق الخامس من بناية ماتيلد العتيقة، يذكّر بلبنان المشتهى والذي راح يذوي وتذوي معالمه مع الزّمن، زمن الآنيّة والصّفقات التي ينجزها محامون جدد يسعون إلى الرّبح وهم يبيعون الماضي دونما تطلع إلى كل تلك التفاصيل التي عيشت فيه، والتي حفظتها وانتشلتها من تلك اللحظة المستمرة من زمن الحرب الرّخيص وإلى الآن ذاكرة ألفت المكان ورأته أجمل ممكن حاصل...كأنّه جناح في فندق ساحليّ قديم، قد يبيعه أصحابه ويكسبون ثروات إما لجهلهم لقيمته الحقيقة أو لعلمهم أنهم سيبنون غيره يشبه زمنهم. لكنّه، أعني ذلك الفندق الساحليّ القديم أبداً يبقى علامة في التاريخ والذاكرة لأنّه لا يتكرّر.

 بيت عمته الذي انكمش من بناية اتسعت للجميع وانفتحت على الجميع وطبعت الجميع بذائقتها، وحده بقي من بناية ماتيلد الشاهدة على التحوّلات المجتمعية والنفسية والقيمية التي عرفها لبنان والإنسان فيه، كم تشبه ماتيلد هذا الوطن! وكم يشبه بيت عمّته الأنا.