كيف أشعلت أميركا الحرب الأهلية في لبنان

يراجع الكاتب وثائق أميركية أفرج عنها أخيراً وهو يسعى لدحض الرواية السائدة في لبنان عن سبب ومسار الحرب الأهلية اللبنانية.

كتاب "أميركا أشعلت حرب لبنان" للباحث أسعد أبو خليل

 

أميركا أشعلت حرب لبنان*

الكتاب: أميركا أشعلت حرب لبنان

المؤلّف: أسعد أبو خليل

الناشر: الفرات للنشر والتوزيع، بيروت  

الطبعة الأول - كانون الثاني يناير 2017.

مراجعة: حسن صعب

 

في الذكرى الـ42 لاندلاع الحرب الأهلية في لبنان، في 13 نيسان أبريل 1975، تبرز أهمية مراجعة كتاب "أميركا أشعلت حرب لبنان" لمؤلّفه اللبناني أسعد أبو خليل، وذلك لتحذير اللبنانيين والعرب، من الولايات المتحدة الأميركية التي لعبت إداراتها المتعاقبة دوراً مركزياً في إشعال الفتن والاضطرابات في كلّ بلد ترى فيه، أو فيما يحدث داخله من تحوّلات، خطراً محتملاً على مصالحها ومصالح حليفتها «إسرائيل».

يبدأ الكاتب أسعد أبو خليل، في المقدّمة (لا سفن انتظرت المسيحيين) بتوضيح طبيعة كتابه، الذي هو مراجعة نقدية شاملة ومفصّلة لكتاب جيمس ستوكر (ميادين التدخل: السياسة الخارجية الأميركية وانهيار لبنان: 1967 - 1976)؛ وهو في الأساس أطروحة دكتوراه قُدّمت في معهد الدراسات العليا للعلاقات الدولية والتنمية في جنيف، ويعتمد على الأرشيف الأميركي (المتشعب) المنشور.

كذلك يتعرّض الكاتب بالنقد لأطروحة ماجستير في جامعة أوسلو بعنوان «عرض جانبي خطير» - الولايات المتحدة والحرب الأهلية اللبنانية، 1975 ـ 1976، وهي غير منشورة.

كما راجع أبو خليل وثائق أميركية أفرج عنها أخيراً، وبعضها تابع للأرشيف الوطني الأميركي، والبعض الآخر صدر قبل أسابيع فقط، وهي نصوص (خاضعة للمراقبة والبتر، طبعاً من قِبل الحكومة الأميركية) لـ«التقرير الإخباري اليومي» الذي تعدّه المخابرات الأميركية لمكتب الرئيس الأميركي.

وهذا الكتاب هو – في رأي الكاتب - دحض الرواية السائدة حالياً في لبنان عن سبب ومسار الحرب الأهلية اللبنانية. وهدفه التعلّم من دروس هذه الحرب في مرحلة السلم، أو في مرحلة الحرب المقبلة.

في المقدّمة، كذلك، يورد الكاتب، الذي راسل المؤلّف جيمس ستوكر، ملاحظات أساسية عدة، مضمونها أنه لا يتبنّى وجهة نظر المؤلّف السياسية لجهة تجاهله أخبار القصف الإسرائيلي للبنان في الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين وتفاصيل قتل المدنيين وجرحهم؛ بالإضافة إلي تقليله من حجم الصراع الطبقي والجور الاجتماعي في المجتمع اللبناني قبل الحرب، والذي أدّى دوراً في اندلاعها.

وفيما يتعلّق بالأرشيف الأميركي، يُذكّر أبو خليل القرّاء في العالم العربي بجملة من الحقائق عن نشر الوثائق الأميركية، وأهمها تمسك الإدارات الأميركية بالسرّية ومعاداة الشفافية أكثر من باقي حكومات الغرب (وصولاً إلى إدارة الرئيس باراك أوباما).

ويفوق التقتير والتكتم في نشر الوثائق عن الشرق الأوسط السلالات الحاكمة هي نفسها على مدى أكثر من قرن من الزمن. وبناءً عليه، لا تريد الحكومة الأميركية أن تورّط وكلاءها وأدواتها أو تصيبهم بالحرج السياسي أو المخاطر.

أما عن الوثائق التي ترد في كتاب ستوكر، فيقدّم أبو خليل سلسلة من الملاحظات عن السياسة الأميركية تجاه لبنان في الفترة المذكورة، ومنها أن الحكومة الأميركية كانت تصر على ألاّ تمر علاقتها بالحكومة اللبنانية عبر الطرق الدبلوماسية الرسمية، فكانت تصر على أن يعيّن الرئيس اللبناني (في عهدي شارل حلو وسليمان فرنجية) مستشاراً مقرّباً منه كي يتم معه التداول في الأمور البالغة السرّية في العلاقة بين الدولتين (مثال ميشال الخوري الذي كان رئيساً للمجلس الوطني لإنماء السياحة في حينه).

ومن الملاحظات أن الحكومة الأميركية والزعماء الموارنة كانوا يتحدثون بصراحة تامة عن نوازعهم الطائفية وعن حرصهم على الحفاظ على نظام الهيمنة الطائفية؛ لدرجة أن الحكومة الأميركية كانت شريكة فعلية وأساسية في حكم لبنان منذ عهد كميل شمعون. كما تكشف الوثائق أن مفاوضات لجنة الهدنة في الناقورة بين الوفود العسكرية اللبنانية وبين الوفود العسكرية للاحتلال الإسرائيلي لم تكن إلاّ ستاراً للمفاوضات والتنسيق السياسي بين حكومتي البلدين، وبتشجيع أميركي مباشر، وإلاّ لماذا امتدّت مفاوضات الهدنة منذ عام 1949 عقوداً طويلة؟

أيضاً، تكشف الوثائق أن الرئيسين اللبنانيين حلو وفرنجية كانا يحثّان الحكومة الأميركية على التدخل لمصلحتها وضرب المقاومة الفلسطينية في لبنان، ولتحقيق هذا الهدف كانت توجّه مساعدات الحكومة الأميركية تحت عنوان «دعم الجيش»!

وتبرز الوثائق كذلك العلاقة الوثيقة التي ربطت بين النظام السوري، في حقبة تدخله في لبنان، والحكومة الأميركية. أما الملك الأردني حسين، فكان دوره في دعم ميليشيات اليمين الطائفي وفي حثّ الحكومة الأميركية على دعم التدخل العسكري السوري في عام 1976، أكبر بكثير ممّا كتب أحد أو ظنّ عن تلك المرحلة، بحسب أبو خليل.

وتتحدث الوثائق عن أن مهمّة دين بروان (مبعوث الرئيس الأميركي جيرالد فورد) كانت تعزيز وضع ميليشيات اليمين ونقل ضمانة أميركية بدعمها ورفض هزيمتها في الحرب، وبما يكشف كذب الأسطورة الني نسجها فريق «الجبهة اللبنانية» المارونية عن مهمة براون بنقل المسيحيين خارج لبنان عبر سفن ستأتي إلى عرض البحر.

وكما حلّل رشيد خالدي في كتابه (حياكة الأزمة: الحرب الباردة والسيطرة الأميركية)، فإن الحكومة الأميركية تتحمل مسؤولية غير مباشرة في إشعال الحرب الأهلية في لبنان، لأنها تركت الصراع في الشرق الأوسط يستعر بعد حرب 1973 لحماية «إسرائيل».

أما المسؤولية المباشرة، فيستعرضها الكاتب في فصول كتابه، عبر دعم أميركا للميليشيات الكتائبية - الشمعونية ورعايتها، حيث أدّى حزب الكتائب تحديداً دوراً نشطاً في استمالة الحكومة الأميركية إليه.

بعد هذه النظرة العامة، يبدأ الكاتب في تفصيل بعض أفكاره حول وثائق الكتابين موضع المراجعة النقدية.

في الفصل الأول (لبنان شرطي أمن لـ«إسرائيل»)، اختار الكاتب هذه العبارة من رسالة سرّية للرئيس اللبناني شارل حلو إلى موشيه دايان، الذي هدّد حينها (في العام 1970) بتحويل لبنان إلى صحراء إذا استمرت عمليات الفدائيين في جنوب لبنان.

وقد حذّر حلو دايان من أن تدمير لبنان سيكون بمثابة تدمير إدارة شرطة حيفا؛ فضلاً عن أنه ليس في مصلحة «إسرائيل» تدمير الدولة الديمقراطية غير الإسلامية الوحيدة ذات التنوّع الديني في المنطقة.

وما يكتشفه المرء من الوثائق الأميركية الرسمية «حميمية» العلاقة بين حزب الكتائب و«إسرائيل». أما مسألة اضطراره مرغماً إلى الاستعانة بالشيطان، أي «إسرائيل»، في سنوات الحرب الأهلية لأنه كان معزولاً، فما هي إلاّ واحدة من أكاذيب الحزب الذي كان يتنعم باكراً بدعم خليجي وأردني وأميركي.

وتكشف الوثائق أيضاً الإلحاح (المذل) من قِبل قادة حزبي الكتائب والأحرار والرئيس اللبناني شارل حلو، على تدخل أميركي عسكري في لبنان، وعلى تقديم مساعدات عسكرية ومالية للميليشيات اليمينية المعادية للفلسطينيين والمسلمين، في مقابل التجاهل أو التحفظ وحتى الرفض الأميركي لهكذا طلبات، حتى حلول شهر تشرين الأول /أكتوبر من عام 1969؛ حين عقدت «مجموعة العمليات الخاصة في واشنطن» اجتماعاً خاصاً للتباحث في شأن التدخل في لبنان. وتركّز البحث على المفاضلة بين تسليح الجيش اللبناني وتسليح «الميليشيات المسيحية».

لكن، وبعد أن فقد الرئيس حلو الأمل في تدخل عسكري أميركي لمصلحة النظام الطائفي الحاكم في لبنان، قرّر التفاوض مع الفدائيين.

في الفصل الثاني من الكتاب (لبنان يبارك العدوان الإسرائيلي) تبيّن الوثائق الأميركية أن السفير الأميركي في لبنان، في عهدي حلو وفرنجية، كان شريكاً فعلياً في الحكم، لا بل كان المرشد الأعلى للرئيس اللبناني الذي لا يُقدم على خطوة من دون مشورته.

وعن الحرب الأهلية التي بدأت قبل موعدها، يقول الكاتب إنه كان واضحاً دور ميليشيات الكتائب والأحرار، وبمشاركة الجيش اللبناني وجهاز استخباراته - في افتعال الاشتباكات والقلاقل طمعاً بمزيد من الدعم العسكري الأميركي والإسرائيلي والعربي الرجعي.

ففي آذار/مارس 1969، فتحت ميليشيات اليمين الطائفي النار على قافلة سيارات لفدائيين عائدين من جنازة شهداء سقطوا في الجنوب اللبناني. ومع أن حزبي الكتائب والأحرار لم يتبنّيا العملية رسمياً، لكن كمال صليبي، في كتابه عن تاريخ لبنان، لام «القوة الأمنية اللبنانية»، فيما صرّح المسؤول الأميركي روبرت أوكلي أن كميل شمعون اعترف له بمشاركة مؤيديه فيها وحين غزا العدو لبنان، في مايو أيار 1969، صدر قرار عن مجلس الأمن يدعو «إسرائيل» إلى سحب قواتها. وما خفي عن الشعب اللبناني في حينه أن وقف إطلاق النار الذي حصل فيما بعد كان تتويجاً لاتفاق سرّي بين الحكومة اللبنانية (بشخص رئيس الجمهورية الذي لم يكن يستشير باقي المسؤولين في الدولة أو يعلمهم بما يقوم به مع «إسرائيل» والولايات المتحدة) والحكومة الإسرائيلية. وقد علمت واشنطن بذلك من تل أبيب التي أبلغتها عن تقديم الحكومة اللبنانية أفكاراً فذّة للتعاون بين الحكومتين في الجنوب.

ومن الأفكار الفذّة التي لاقت استحسان إسرائيل موافقة الحكومة اللبنانية على الغارات الإسرائيلية على لبنان، على أن تلتزم بعض الشروط التي اقترحها لبنان، ومنها: الامتناع عن قصف المدنيين وتدمير الممتلكات، وأن تُقام الكمائن الإسرائيلية ضد الفدائيين «في الليل»، وأن لا تذهب عميقاً في الأراضي اللبنانية أو تستعين بمدرّعات.

في الفصل الثالث من الكتاب وعنوانه (مفاوضات سرّية مع إسرائيل في عهد فرنجية)، يكشف المؤلّف عن تلقّي لبنان في العام الأول من عهد سليمان فرنجية مساعدات عسكرية أميركية بقيمة خمسة ملايين دولار، بناءً على طلب سابق من فرنجية، الذي تعزّزت حظوته لدى الإدارة الأميركية بعد مجازر «أيلول الأسود» في الأردن.

بعد ذلك بدأ الحكم الجديد في لبنان بالتعامل بقسوة أكبر مع الفدائيين، حيث أمر فرنجية بنشر نحو 3000 جندي للقيام بدوريات على الحدود لمنع «الاعتداء» على الكيان الإسرائيلي الغاصب، في حين كان سلوك الفدائيين متحفظاً بعد هزيمة أيلول/سبتمبر في الأردن (1970).

غزت «إسرائيل» جنوب لبنان في أيلول/سبتمبر 1972. وبدلاً من الرد على عدوان «إسرائيل»، نشر الجيش اللبناني جنوداً في الجنوب، وأقام حواجز لتقييد حركة الفدائيين، وأعلم الضابط اللبناني موسى كنعان، الحكومة الأميركية أن الجيش يتلقّى الأوامر مباشرة من فرنجية، متجاوزاً رئيس الوزراء صائب سلام.

وفي بداية عام 1973، أبلغ وزير الخارجية اللبناني خليل أبو حمد السفير الأميركي أن الحكم في لبنان يجري مفاوضات سرّية مع «إسرائيل»، وأن مسودّات لأوراق عمل جرى تبادلها بين الطرفين، لكن من دون التوصل إلى اتفاق، في حين حافظ لبنان على سرّية المفاوضات، حتى عن الجانب الأميركي!

في الفصل الرابع (بروز دور «تاجر الموت» اللبناني)، يتحدث أبو خليل عن إيكال فرنجية إلى الجيش اللبناني، واستخباراته تحديداً، أمر تسليح وإعداد ميليشيات الكتائب والأحرار وميلشيا الرئيس اللبناني نفسه («جيش التحرير الزغرتاوي»)، فيما نشرت جريدتا «نيويورك تايمز وواشنطن بوست» مقالات في التسعينيات من القرن الماضي عن قيام «الاستخبارات المركزية الأميركية» و«وكالة استخبارات الدفاع» في الفترة نفسها بتسليح هذه الميليشيات.

وهنا يرِد اسم اللبناني - الأميركي سركيس سوغانليان (وكنيته الأميركية «تاجر الموت») في تسليح وإعداد الميليشيات اليمينية في لبنان (وكان سركيس مقيماً في لبنان آنذاك)، وهو اعترف قبل وفاته بأن جميع عملياته في شحن السلاح كانت عبر «علاقة وثيقة جداً جداً جداً بحسب تعبيره - بأجهزة في الحكومة الأميركية رفض أن يُسميها (لكن الصحافة الأميركية أشارت إليها بأنها «وكالة الاستخبارات المركزية» و«وكالة استخبارات الدفاع» التابعة لوزارة الدفاع الأميركية).

في الفصل الخامس (شمعون و«المعركة الأخيرة» ضدّ اليسار اللبناني)، تتحدث الوثائق التي كشف عنها «ستوكر» عن «الكسندر رافيو»، الذي كان على صلة وثيقة بأجهزة استخبارات ودفاع لبنانية، والذي تحدث عن «مشاريع مسيحية» لاستيراد 50 ألف كلاشينكوف بلغاري عبر تاجر السلاح سوغانليان، للتحضير لهجوم «لإزالة الوجود الفدائي» من لبنان.

كما يشير ستوكر إلى تقرير استخباري أردني (مشبوه) سرّبه مسؤولون لبنانيون إلى مسؤولين أميركيين، ويحوي تفصيلات عن تهريب «كميات كبيرة من السلاح»، الخفيف والثقيل، إلى مدن في منطقة الشوف لتوزيعها على «مجموعات يسارية.

ويتوقف أبو خليل عند تعرّض معروف سعد لإطلاق نار في صيدا، في شباط/فبراير 1975، في أثناء تظاهرة سلمية ضد شركة «بروتين» التي كان كميل شمعون يرئس مجلس إدارتها، لتندلع بعد أشهر من هذه الحادثة الحرب الأهلية، بعد ارتكاب ميليشيات الكتائب مجزرة حافلة عين الرمانة الشهيرة.

وفي تقرير للاستخبارات المركزية الأميركية في ربيع 1975، توقّعت الوكالة أن يصبح النظام اللبناني الجديد، في حال سقوط نظام فرنجية، يسارياً خاضعاً لنفوذ المسلمين، وأكثر تعاطفاً مع الفلسطينيين والدول العربية «الراديكالية». كما توقّعت احتلالاً إسرائيلياً طويل الأمد لقسم من لبنان في حال حدوث تدخل عسكري إسرائيلي.

في تلك المرحلة عاد الإلحاح اللبناني في طلب مساعدات عسكرية أميركية. فطلب كميل شمعون، بصفته وزيراً للداخلية في حكومة رشيد كرامي، مساعدات عسكرية لقوى الأمن الداخلي، ووضع الصراع اللبناني في سياق الحرب الباردة؛ وأعلم شمعون الأميركيين أن السفارة السوفياتية «تدعم الفلسطينيين واليساريين بينما تفتقر الحكومة اللبنانية إلى دعم في المعركة الأخيرة ضدّ اليسار اللبناني».

لكن ورد آنفاً أن التسليح الأميركي للميليشيات اليمينية كان يجري خارج نطاق الدبلوماسية الأميركية، وإن كانت السفارة الأميركية في بيروت على علم به.

 

ماذا كان الكولونيل مورغان يفعل في بيروت صيف 1975

(ماذا كان الكولونيل مورغان يفعل في بيروت صيف 1975؟) هو عنوان الفصل السادس من الكتاب، وفيه يتحدث أبو خليل عن علم مسبق للحكومة الأميركية بنيّات ميليشيات اليمين اللبناني لإشعال الحرب الأهلية. فقد أعدّت الحكومة الأميركية عن سابق تصوّر وتصميم - تسليح هذه الميليشيات وتجهيزها منذ ما قبل اندلاع الحرب بسنتين في الأقل.

كان سركيس سوغانليان المسلّح الأبرز لميليشيات «الأحرار» و«الكتائب» وكان يستعمل اسم الحكومة الأميركية في أعماله ومعاملاته.

واللافت في الوثائق الأميركية هو الدور النشط للنظام الأردني في دعم ميليشيات اليمين اللبناني وفي الترويج لتدخل النظام السوري في الحرب لاحقاً.

لكن لم يتطرّق ستوكز في كتابه مطلقاً إلى قضية الكولونيل إرنست مورغان الذي خُطِف في لبنان في تموز/يوليو 1975 وأطلِق سراحه بعد 13 يوماً. وقد طالبت المنظمة التي خطفته (قريبة من الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين - القيادة العامة) بفدية، عبارة عن أطنان من الأرز والطحين ومواد غذائية للفقراء في منطقتي المسلخ والكرنتينا؛ وقد دفعت السفارة الأميركية قيمة الفدية سراً لمموّل حملات كميل شمعون وتسليحه، الثري اللبناني بطرس الخوري.

وكانت الصحافة اللبنانية اليسارية (كما ورد بالتفصيل في التقارير الأميركية المنشورة بعد خضوعها للرقابة) قد اتهمت مورغان بالعمل لحساب الاستخبارات المركزية الأميركية، وأنه كان في مهمة لتسليح الميليشيات اليمينية.

وفي نهاية هذا الفصل، تتحدث الوثائق الأميركية عن مطالبة الملك الأردني حسين بتدخل عسكري أميركي في لبنان، كحال الميليشيات اليمينية والكيان الإسرائيلي «لمنع تهاوٍ ممكنٍ للقوات المسيحية».

وفيما كانت فرنسا مؤيّدة لتدخل عسكري سوري، عبّرت الحكومة الأميركية عن قلقها من أن هكذا تدخل قد يؤدّي إلى تدخل إسرائيلي مقابل، و«إلى حرب شرق أوسطية»، حسب قول لهنري كيسنجر في حينه.

في الفصل السابع (سلاح للكتائب والأحرار من «إسرائيل» وأميركا وأوروبا)، يقول المؤلّف إن الساحة اللبنانية تحوّلت، حتى قبل أن تبدأ الحرب، إلى ساحة صراع بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في حقبة احتدام الحرب الباردة. وقد تطوّعت الميليشيات اليمينية في لبنان لخدمة الأجندة الأميركية والإسرائيلية. والذي غفل عنه كتاب جيمس ستوكر أن بيروت كانت تعج بأقذر رموز العمليات الخارجية للاستخبارات المركزية الأميركية.

وبموازاة التسليح الأميركي (غير الرسمي) للميليشيات المسيحية، مع الامتناع عن تلبية الطلبات الملحّة من قِبل قادة هذه الميليشيات لتدخل عسكري أميركي مباشر، كما يرد في الوثائق الأميركية على لسان كيسنجر، فقد توالت التقارير عن تسليح إسرائيلي لهذه الميليشيات، التي تلقّت «كميات كبيرة» من بنادق إم-16، وبعضها أميركي المنشأ وكان مشحوناً إلى «إسرائيل».

وإضافة إلى الحكومة الأميركية ذكرت تقارير أميركية أن شحنات سلاح من بلجيكا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا، كانت تصل إلى الميليشيات المسيحية، مع تظاهر الحكومات الأوروبية بالبراءة أمام الدعوات الأميركية للتخفيف من شحن السلاح «غير القانوني».

في تلك المرحلة، تزامن التدخل العسكري السوري في لبنان، لإنقاذ سليمان فرنجية من خلال «الوثيقة الدستورية» مع حدوث انشقاق بين النظام السوري من جهة والحركة الوطنية وحلفائها في المقاومة الفلسطينية من جهة أخرى.

وتذكر الوثائق الأميركية أن كيسنجر حذّر إسحق رابين، وزير الدفاع الإسرائيلي، من عواقب التدخل الإسرائيلي رداً على دخول وحدات من «جيش التحرير الفلسطيني» من سورية إلى لبنان. وقال رابين لكيسنجر إن الحل يكمن في تقسيم لبنان «DE FACTO»، أي بحسب الأمر الواقع.

ويشير المؤلّف هنا إلى أن كرونولوجيا الحرب الأهلية كما ترد في الوثائق الأميركية تدحض بشكل قاطع الرواية الانعزالية الرسمية عن أن الميليشيات اليمينية لم تشعل الحرب، بل كانت تدافع عن نفسها ضدّ مخطط منظمة التحرير لتوطين الفلسطينيين في لبنان، حيث لم يرد في أي من تقارير المحادثات بين الانعزاليين والدبلوماسيين الأميركيين أيّ تعبير عن قلق من مخطّط للتوطين.

في الفصل الثامن، وعنوانه (كيسنجر: تدخل «إسرائيل» قد يؤدّي إلى وحدة عربية عملنا طويلاً لمنعها)، حاول كيسنجر المماطلة في الحوار مع دمشق حول تأييد تدخلها العسكري في لبنان، محذّراً إياها من تدخل مضاد قد يؤدّي إلى احتلال أجزاء واسعة من جنوب لبنان و«ربما» أجزاء أخرى خارج الجنوب.

فيما وضعت حكومة العدو من جهتها، أول مرّة، شروطاً يمكن في حال توافرها القبول بتدخل عسكري سوري في لبنان.

وفي اجتماع عقِد في البيت الأبيض في 24 آذار/مارس 1976، توصّل كيسنجر إلى قناعة بجدوى التدخل السوري «المحدود» كأفضل حل للقضاء على منظمة التحرير الفلسطينية، مع خشيته من حصول حرب عربية - إسرائيلية في جنوب لبنان تؤدّي إلى «حصول ما عملنا طوال هذه السنوات بالضبط لمنعه، أي خلق وحدة عربية».

لكن لم يكن القرار الأميركي بدعم التدخل السوري بديلاً من استمرار الدعم الأميركي لتسليح الميليشيات اليمينية عبر «إسرائيل» وسواها.

تم إرسال دين براون كمبعوث أميركي خاص إلى لبنان، في مهمة لدعم التدخل السوري في وجه المقاومة الفلسطينية وقوى اليسار. وهو حمل تحذيراً لكمال جنبلاط مفاده أن الحكومة الأميركية ستضمن خسارة الحركة الوطنية الحرب في لبنان في حال لم «يسهّل» المساعي الأميركية، وكي ينعزل عن منظمة التحرير. أما الهدف الأساسي الثاني لبراون، بحسب كيسنجر، فهو مساعدة المسيحيين، حيث يقول لمبعوثه براون: «لا نستطيع أن نكسر ظهر المسيحيين. لا يمكن أن ينهاروا أمامنا».

وما يفاجئ هنا، بحسب أبو خليل، أن رواية الوثائق الأميركية عن مهمة براون في لبنان تتناقض كلياً مع الرواية التي روّج لها زعماء الجبهة الانعزالية، والتي تزعم أن بروان عرض سفناً لترحيل المسيحيين عن لبنان. والعكس هنا هو الصحيح؛ إذ إن براون قدم إلى لبنان لطمأنة قادة المسيحيين وتقديم المزيد من المساعدة لهم، ولإنقاذهم من الهزيمة.

لقد كانت أكذوبة السفن الأميركية لترحيل المسيحيين تعبيراً عن خيبة زعماء الانعزالية من حجم الدعم الأميركي لهم، وطبيعته.

(جردة إسرائيلية أوّلية بتسليح الميليشيات الانعزالية)، عنوان الفصل التاسع من الكتاب، وفيه يتابع المؤلّف الحديث عن مهمة دين براون ولقائه «الودّي» مع كمال جنبلاط؛ وكذلك مواقف زعماء الموارنة الإيجابية من زيارة براون، عكس تصريحاتهم العلنية.

في تلك المرحلة، كانت علاقة الميليشيات اليمينية بالعدو الإسرائيلي تنمو وتتعاظم، وكان الإسرائيليون يُطلعون الحكومة الأميركية، بالتفصيل، على علاقتهم بالميليشيات وتسليحهم إياها. وتورد وثيقة أميركية تفاصيل مثيرة عن جزء من المساعدات العسكرية الإسرائيلية التي تضمّنت مدافع هاون ورشاشات متوسطة وذخائر وأجهزة اتصال.

من جهته، بدأ كيسنجر يعرب عن سروره من مسار الحرب الأهلية في لبنان، باعتبار أنها ستفيد المصالح الإسرائيلية والأميركية معاً، وأن النظام السوري سيفرض سيطرته على منظمة التحرير على حساب ياسر عرفات وحركة «فتح»، مع أن الحكومة الأميركية كانت راضية عن سلوك عرفات «المعتدل» في الحرب الأهليلة.

أما في موضوع الانتخابات اللبنانية، فقد فضّل المبعوث الأميركي دين براون، الياس سركيس على ريمون إده، من دون أن يصرّح بذلك علناً؛ كون إده كان قد اتهم «إسرائيل» وسوريا (ودولاً أخرى) بنيّتها تدمير لبنان.

في الفصل العاشر، والأخير، يكشف الكاتب عن دور مزدوج وخطير للملك الأردني حسين، الذي لعب دور المسوّق للتدخل العسكري السوري في لبنان، لدى الأميركيين والإسرائيليين، بموازاة تقديمه أطناناً من الأسلحة للميليشيات الانعزالية. وفي اجتماع مع القائم بالأعمال الأميركي في بيروت، عبّر كميل شمعون عن شديد تأييده لدولة «إسرائيل»، وشكر للحكومة الأميركية موقفها الداعم للمسيحيين من خطر استيعاب المحيط الإسلامي لهم أو سيطرته عليهم.

وفي الختام، يدعو الباحث أسعد أبو خليل اللبنانيين والعرب إلى الاعتبار ممّا كشفته هذه الوثائق الأميركية السرّية عن حرب السنتين في لبنان (1975 - 1977)، حول الدور الأميركي - الإسرائيلي الخطير في إشعال وتأجيج تلك الحرب، والتي تظهر الحروب الحالية في المنطقة عدم اتعاظ الكثيرين من ماضيها القريب.

 

حسن صعب كاتب لبناني.