رحلات في حجرة الكتابة

كيف نصير أبديين على الطريقة الأوسترية؟

رواية "رحلات في حجرة الكتابة" للكاتب بول أوستر

إن من يعرف بول أوستر "مخترع العزلة"، سوف يتوقع قسطاً من الغرابة ما أن يمسك عملاً له ويهمّ بقراءته، وهذه الرواية (رحلات في حجرة الكتابة الصادرة عن منشورات المتوسط بترجمة سامر أبو هواش) ليست باستثناء، بل وتتجلى فيها القاعدة "الأوسترية" أكثر وأكثر.

تبدأ الرواية مباشرة بتحديد الشخصية المركزية، على الأقل كما يبدو؛ شيخ يرتدي بيجاما مقلّمة ويجلس محتاراً جاهلاً بوضعه المكاني والنفسي، يفترض له الكاتب اسم "السيد بلانك" لتحاشي استخدام كلمة "الشيخ"؛ لكنه تحاشٍ ينقضه أوستر بين حين وآخر ربما لاستمرار بلبة هوية هذه الشخصية في أذهاننا.

مكان الحدث حجرة غريبة، يعجز ساكنها عن تحديد ماهيتها، غرفة مشفى أو بيت أو سجن؟ أشياؤها القليلة محددة برقع تسميها (لصاقة باسم طاولة على الطاولة، مثلاً) لسبب مجهول.

في الحجرة كاميرا وآلة تسجيل توثقان كل ما يحدث. وبعد دقائق من بدء السرد سيبدو كما لو أننا نصير نحن ــ القراء ــ الكاميرا والآلة، أو المتلقين لنتائج تقاريرهما.
نبقى لوقت طويل في سياق الحكاية غير مدركين حقاً لماهية هذه الشخصية، التي تتعرض لأعراض جسدية متباينة، دوار وإنهاك، تناول حبوب، غيابات للوعي، نسيان، زيارات لممرضات وشرطي وطبيب ومحامي، بالإضافة إلى شكل الحجرةـ

كل الخصائص تفترض أكثر من سيناريو. هل بلانك مريض في مشفى، مسجون في حجرة مغلقة، جزء من تجربة ما اختارها طوعاً، أو حتى ميت؟ كل هذا مترافقاً مع تناقض بارز يطرأ على ذهن بلانك المشوش؛ هل هو متهم أو ضحية؟ "قلبه طافح بإحساس بالذنب، وفي الوقت عينه لا يمكن التخلص من شعوره بأنه ضحية ظلم مروع".

في الحجرة كذلك طاولة عليها كدسة أوراق ومجموعة من الصور الفوتوغرافية. لاحقاً نستعين معه بهذه البيانات لاكتشاف المزيد عنه وعن الشخصيات التي يتوالى ظهورها، لاسيما أنه يبدو مثل شخص فاقد للذاكرة، أو الذاكرة القريبة على الأقل (لمحات من طفولته البعيدة تستمر بالقفز إليه عبر الرواية).

على سبيل الفضول، أو كمحاولة لفهم وضعه المجهول، له كما لنا، يبدأ بلانك بقراءة الأوراق على المنضدة. وما أن يفتحها حتى ينفتح مدى رواية أخرى تسير جنباً إلى جنب مع الرواية الأصل. فيما يقرأه بلانك تظهر شخصية سيغموند غراف، وبلاد تسمى الكونفدرالية (يُصرَّح لاحقاً أنها مجرد تورية لأميركا). غراف هذا، بعد أن خسر عائلته، يسافر إلى الأراضي الغربية حيث ينتشر "البدائيون" لقمع تمرد، ثم يكتشف أنه ضحية خدعة من دولته نفسها وينتحر.

البدائيون يتعرضون لمذابح ومؤامرات لتفريقهم و"إعدام صامت". ثمة تشبيه واضح مقصود يقفز إلى الذهن هنا؛ البدائيون بالنسبة للكونفدرالية هم الهنود الحمر بالنسبة لأميركا. 
الواضح أن أوستر بإدخاله هذه الـ"رواية ضمن رواية" إنما أراد الإبقاء على حيرتنا عارفاً بلا شك أننا سنربط بلانك بغراف ونظنهما واحداً؛ احتمال يحضر ويغيب خلال فصول طويلة من الرواية مع استمرار بلانك بالقراءة ببطء سردي متعمد، ثم إتمامه الرواية شفهياً من ذاكرته (نتساءل كيف، دون جواب). بعد مدة ملائمة، مدركاً أنه حقق غايته، يدفع أوستر ببلانك للسؤال: "هل غراف هو أنا؟" ليأتي الجواب لنا وله: "لا، هي مجرد قصة من نسخ خيال كاتب اسمه جون تراوز". يظهر في مخيلتنا تداخل جديد؛ هل هذا الكاتب هو بلانك أو هو أوستر نفسه؟.

هكذا نعود لإلى النقطة صفر في حيرتنا.

مع توافد الشخصيات، يقوم بلانك بصنع قائمة لأسمائهم، يضيف إليها اسم من يأتي إلى غرفته أو أي اسم يرد في الحديث. القائمة تشبه قائمة افتراضية في ذهن القارئ ذاته تزداد مكوّناتها مع تقدم السرد. شخصيات من ماضي بلانك أو من حاضره، يجري الربط بينها لاحقاً بصلة قرابة أو أخرى. تحمل كل شخصية حكايتها معها ونتفاً من حكاية بلانك نفسه التي تبدأ بالتراكم أكثر فأكثر في إدراكنا. وهكذا نعرف لاحقاً سبب الشعور بالذنب الذي يعانيه؛ لقد أرسل الكثيرين في مهام خطيرة أدّت إلى موت العديد منهم، بينما عانى بسببها آخرون لكن نجوا. الناجون، لسبب ما، هم زواره في الغرفة ذاتهم.

 قريباً من انتهاء الرواية تبرز شخصية المحامي، دانيال كوين، لتصحح مسار أفكارنا، وتثبّت بدقة الزمان، المكان، والشخصية قبالتنا؛ بلانك مسجون في الحجرة، ويتنظر محاكمة في تهم عديدة (النصب، التآمر، الاعتداء الجنسي وغيرها) واحتمال إعدامه قائم.

في مرحلة متقدمة من الرواية، يتبدل فجأة تموضع الرقع على موجودات الغرفة، لكن بلانك يبدأ بإعادة ترتيبها، (يضع لصاقة "جدار" فوق الجدار بعد أن كانت قد غُيّرت إلى "مقعد" وهكذا)؛ عملية يسمّيها أوستر "ترميم التناغم في كون ممزق". تبدو أهمية ذلك في أنه يشبه، إلى حد ما، ما كنّا ــ كقراء ــ نرغب بفعله منذ أول القراءة، ونكون على وشك إتمامه عمّا قليل.

إن عمليات مثل هذا الترميم، واستخدام عبارات مثل "السرد"، "أيها القارئ" أكثر من مرة، تتضمن إشراك القارئ في اللعبة السردية، ضمن تقنية تسمى أدبياً "metafiction"، أو ما يسمى "ما وراء القص"، ولهذا غايته كما يتضح في نهاية الرواية.

بعد انكشاف مصيره، على الأقل كما نعتقد، ينظر بلانك إلى السقف "وبينما يتأمله، يتراءى له أنه يحدق بورقة بيضاء". هنا تتضح ملامح "حجرة الكتابة" التي يبدو أننا كنا جميعاً سجناء فيها مع بلانك. يفتح بلانك مجموعة أوراق جديدة وفي صفحتها الأولى يقرأ، مدهوشاً مثلنا، العنوان العريض ذاته "رحلات في حجرة الكتابة". ثم يتابع قراءة صفحات أولى هي الصفحات الأولى ذاتها التي طالعتنا في أول هذه الرواية. هكذا يندمج بلانك معنا، ويصير -كما يقول أوستر- "واحداً منّا الآن ... نحن الأخيلة الملفّقة لعقل آخر".

هنا يطرح أوستر خلاصته وحبكته المتوارية طويلاً؛ إن هذه الأخيلة تعيش أكثر من صانعها "الكاتب"، إذ تمنحها الكتابة (ميزة أن تكون مكتوبة) أبديتها "وتُروى قصصها دوماً حتى بعد موتها".

في الخاتمة، يبرز أوستر جليّاً، يسلّم مفاتيحه ويحدق بنا في العين من دون مواربة بأفعال ضمير متكلم واضحة: "أنوي ترك بلانك في الحجرة حيث هو"، "وما دام في الحجرة ذات النافذة المقفلة والباب الموصد، فلن يموت أبداً، ولن يكون سوى الكلمات التي أكتبها على صفحته".

الآن يسدل الستار بطريقة شبه مسرحية "الأضواء تنطفئ"، ويبقى لنا الدهشة أمام غرابة هذه الحبكة وجدّتها. نفكر في كثير من الاحتمالات قد يكون أبرزها ثلاث: أن نعيد قراءة الرواية من بدايتها، أن نحصل على أبديتنا على طريقة أوستر "بأن ننكتب" ونصير "بلانكاً" لكاتب ما، أو أن نفرّ من حجرة الكتابة ورحلاتها العجيبة إلى غير رجعة.