السجن ما بين المحنة والمنحة

قرأت مبكراً كتاب "صهر الوعي" للأسير المفكر وليد دقة، وفيه أدركت أن السجن ليس مجرد مكان اعتقال يسعى لتقييد الأجساد، بل هو أداة من أدوات الاستعمار الهادفة إلى تحطيم الإرادة وكسر روح الأسير.

  • السجن ما بين المحنة والمنحة
    السجن ما بين المحنة والمنحة

كأي فلسطيني ولربما كأي إنسان شهدت حياته وقائع الاحتلال والاستعمار والاضطهاد، حملت مخيلتي صوراً مبكرة للسجن ولحياة الأسير فيه، وكيف تمضي سنين عمره وأيام حياته داخل الغرف المظلمة والمفعمة بروائح اليأس والقنوط، فصورة السجن كانت تختزل لدي بمشهد رجال يفترشون الأرض، غارقين كلٌ في أحلامه وأماله وآلامه، وكان لواقع غيابي عن تلك التجربة وعن كل من اختبرها أثر في تكريس صورة السجن البائسة لدي.

ومع بداية اختباري للاعتقال قرأت مبكراً كتاب "صهر الوعي" للأسير المفكر وليد دقة، وفيه أدركت أن السجن ليس مجرد مكان اعتقال يسعى لتقييد الأجساد، بل هو أداة من أدوات الاستعمار الهادفة إلى تحطيم الإرادة وكسر روح الأسير وتحويله إلى جسد ميت لا حراك فيه ولا إنتاج له، ومع مضي السنين  داخل أسوار السجن انكشفت لي تجربة الاعتقال كتجربة إنسانية فيها من القهر والكبت، وفيها أيضاً فرص وعطايا وهدايا، ويبقى الأمر معلقاً ومشروطاً بقدرة الأسير على اغتنام ما في الأزمة والمحنة من منح ممكنة.

وجدت في أسري فرصةً ووُفقت لاغتنامها، فأنا اليوم وبعد مضي 7 سنوات ونصف داخل الأسر استطعت تحصيل درجة البكالوريوس في الخدمة الاجتماعية، ثم درجة الماجستير في الشؤون الإسرائيلية، في ظروف اعتقال تخلله الاضرابات والنقل التعسفي والمرض، وكل ما يمكن أن يعد به السجن من ويلاتٍ وعذاب، واليوم أزعم أني بت أمتلك من مفاتيح الحياة ومهارات العيش الكثير مما افتقدته قبل اختبار الاعتقال والأسر.

لذلك يصعب الحكم على التجارب الإنسانية من خارجها، وهذا ما يدفعني إلى الزعم بأن دروس الحياة الفلسطينية لا بد أن تشتمل على فقه الأسر، إن لم يكن باختباره المباشر فعلى الأقل بالوعي به وبإدراك معناه ومعنى أن تكون أسيراً فيه، وهنا لابد من التأكيد أن اشتمال تجربة السجن على فرصة لا تعني بالضرورة دعوة إلى الوقوع بالأسر، وإنما هي بالأساس إشارة إلى إمكان الحياة والأمل والعمل في ظل انسداد الآفاق وتقييد المستقبل.

لعل في مثل هذه القراءة بالسجن حكمة تمس وعي الفلسطينيين الواقعين تحت نير الاحتلال والاستعمار في مختلف أدواته القمعية، حكمة مفادها أن الحياة لا تنقطع في ظروف القهر، بل علها تبتدأ بالفعل من هناك، إذ يمتلك الفرد فينا وعيها المغلوف بالوجع وجراحنا الملمومة والملتحمة بالأمل وإرادة العافية عبر مقاومة الاحتلال والاعتقال وكل ثغر يريده الاستعمار.