موجات الحر لا تأتي صدفةً: "القاتل الصامت" يخنق أوروبا
تضرب موجة حرّ مبكرة قلب أوروبا، كاشفة هشاشة المدن أمام تغيّرات مناخية لم تعد استثناءً. بين مدارس مغلقة ومستشفيات تختنق، تفتح المتنزّهات أبوابها ليلاً، وتغلق المعالم الكبرى نهاراً. ليس هذا صيفاً عادياً، بل هو فصلٌ يعلن انهيار التوازن المناخي!
-
سائح يبرد نفسه في نافورة "تروكاديرو" بجوار برج إيفل بسبب موجة حر صيفية مبكرة تضرب باريس (تصوير: رويترز)
حين ترتفع درجات الحرارة إلى ما فوق الأربعين في قلب القارة التي تقول إنها "صاغت الحداثة"، وتُغلق المدارس وتُفتح المتنزهات ليلًا لكل طارئ، لا يكون الأمر مجرد تقلب مناخي موسمي، بل هو إعلانٌ فجّ عن تفكك النظام البيئي كما نعرفه. ولكن، وكما اعتادت الحكومات على اختراع مسكّنات للكارثة، يجري تحويل المأساة إلى "حدثٍ طارئ" عابر، وكأن هذه النيران لم تكن مشتعلة في خرائط العلماء منذ عقود.
القاتل الصامت: نظام مناخي يلفظ أنفاسه
وصفت الأمم المتحدة موجة الحر الأخيرة في أوروبا بأنها "القاتل الصامت". لكنها، كعادتها، تصف من دون أن تُدين.
فتكرار الظواهر الجوية القصوى – من جفاف قاتل في السودان إلى فيضانات في باكستان، مروراً بحرائق الغابات في كندا – لا يُقرأ كإشارات تحذيرية من نظام بيئي يتفكك، بل كأرقام في تقارير تقنية تُمزَّق بين مكاتب الأمم المتحدة ومراكز الأبحاث الأوروبية. ومثلما تصف الحروب بأنها "نزاعات"، والمجاعات بأنها "أزمات غذاء"، تُحوَّل الكارثة المناخية إلى مسألة "إدارة".
الحرارة تواصل تسجيل ارتفاعات قياسية في دول جنوب أوروبا وتبلغ ذروتها في الأيام المقبلة.. وفي #باريس السلطات الفرنسية تقفل برج إيفل مع توقع بلوغ الحرارة 41 درجة. فيما ستبلغ 43 مئوية درجة في أجزاء من #إسبانيا.https://t.co/nyIuxZ4lMj
— قناة الميادين (@AlMayadeenNews) July 1, 2025
وأشارت المتحدثة باسم المنظمة كلير نوليس إلى أنّ شهر تموز/ يوليو كان تقليدياً الشهر الأكثر حرّا ًفي العالم في النصف الشمالي للكرة الأرضية، لكن تسجيل موجات شديدة في هذا الوقت المبكر من الصيف يبقى أمراً استثنائياً على الرغم من أنه ليس غير مسبوق.
وأضافت، في مؤتمر صحافي في جنيف، أنّ الحرارة الشديدة "تُسمّى على نطاق واسع القاتل الصامت"، ولا سيما أنّ الإحصاءات الرسمية لا تعكس عدد القتلى من جرّائها بشكل كامل، على عكس ظواهر مناخية أخرى مثل الأعاصير.
Paris could see temperatures of 45°C next week, taking into account the heat island effect, with tropical nights also. Europe and the Mediterranean are experiencing the fastest warming in recorded human history. Hard not to ask: what will 2035 look like at this rate? pic.twitter.com/oRBPDBwLSX
— Peter Dynes (@PGDynes) June 28, 2025
إن ارتفاع درجات الحرارة، وفق المنظمة العالمية للأرصاد الجوية، هو نتيجة مباشرة للنشاط البشري. لكن هذه العبارة، رغم صحتها العلمية، تُستخدم كستارٍ رمادي لإخفاء "القاتل الحقيقي": نظام الإنتاج الرأسمالي المتوحّش، الذي يرفض الاعتراف بأن انبعاثاته وثقافته الاستهلاكية هما أصل البلاء.
"باريس الحمراء": حضارة بلا ظلّ
باريس، التي صدّرت للعالم الثورة الصناعية والثقافية، أُعلنت في حالة تأهّب قصوى من "الدرجة الحمراء". لا بسبب هجوم إرهابي أو تمرّد شعبي، بل بفعل حرارة لم يعد الإسفلت قادراً على امتصاصها. المدينة المعروفة بكثافتها الحضرية وقلّة مساحاتها الخضراء، باتت ضحية نموذجها نفسه.
أُغلقت المدارس، وتوقّف استخدام السيارات الملوثة، وأُغلق الجزء العلوي من برج إيفل، ذلك الرمز الحديدي الذي بات كالموقد في قلب المدينة. 1900 مدرسة أقفلت أبوابها، وكأن التعليم لم يعد ممكناً في ظل هذا اللهيب.
Europe's extreme heat wave is expected to peak in the days ahead, with temperatures topping 40 degrees celsius in parts of France, Spain and Portugal.
— CNN International PR (@cnnipr) July 1, 2025
The hot, dry conditions have also triggered wildfires.@MelissaBellCNN is in Paris, and explains why this is so unusual. pic.twitter.com/yaNgU5Rk3D
المفارقة المؤلمة أنّ الدول التي أُجبرت على التكيّف مع القصف والدمار – في غزة أو لبنان أو الخرطوم وغيرها – كانت دوماً توصف بأنها عاجزة عن "مواكبة الحداثة". أما حين تتهاوى البنى التحتية في باريس وليون وبروكسل أمام موجة حر، فلا يُقال إن أوروبا "عاجزة"، بل يُقال إنّ "الطقس متطرف".
مشاهد قاسية… ولغة ناعمة
في ليون، المرضى يُتركون في غرف بلا مكيّفات، وسط نوافير مياه خارجة عن الخدمة، وبخّاخات ماء لا تكفي حتى لشجرة. في بروكسل، يغلق معلم الأتوميوم أبوابه، ويُعاد تعريف الحرّ كخطر أمني.
في روتردام، يخرج الأطفال من مدارسهم ظهراً، لا لأن الحرب تدقّ أبواب المدينة، بل لأن الشمس تفعل ذلك.
ما يُقال عن "الحرارة غير الاعتيادية" هو، في جوهره، اعتراف غير مباشر بأننا دخلنا مرحلة ما بعد التغيّر المناخي. لم يعد الاحترار خطراً مستقبلياً. نحن فيه، وهو فينا.
لكن بدلاً من مساءلة النظام الذي قادنا إلى هذا الجحيم، يجري الحديث بلغة تكنوقراطية مريحة: "علينا التعايش مع درجات حرارة قصوى"، وكأن التكيّف مع الانهيار قدرٌ بيولوجي. وهكذا يُترك المواطن الأوروبي بين خيارين: إمّا التكيّف مع "الموت الحار"، أو الإنكار!
#europe : Heat Dome Grips Europe
— Thomas Reis (@peakaustria) July 2, 2025
Much of the European continent is currently affected by record-breaking high temperatures as a heat dome sits over Western Europe. Heat domes are high-pressure systems which trap hot, dry air in place over an extended period and continue to… pic.twitter.com/6NLp8iEyWo
المعرفة موجودة… لكن الإرادة غائبة
أقرت المتحدثة باسم المنظمة العالمية للأرصاد الجوية: "كل وفاة بسبب الحر لا داعي لها، لدينا الجاهزية ولدينا الأدوات".
هذه الجملة تختصر المأساة الأخلاقية التي نعيشها. فالمعرفة موجودة، والحلول البديلة للطاقة كذلك، لكن ما لا يوجد هو الإرادة السياسية لإحداث تغيير جذري. السبب؟
لأن هذا التغيير سيتطلّب كسر بنية اقتصادية تُمجّد النمو على حساب الحياة.
تُذكّرنا هذه اللحظة بما قاله المفكر الماركسي فريدريك جيمسون: "أسهل على الناس أن يتخيّلوا نهاية العالم من أن يتخيّلوا نهاية الرأسمالية". وهذا تماماً ما نراه اليوم: مدن أوروبية تغلي، أطفال يُخرجون من المدارس، مرضى يختنقون في المستشفيات، والأجهزة الرسمية تطالبنا "بالتكيّف".
درجات حرارة وتاريخ منسي
عالمة المناخ في مرصد "كوبيرنيكوس"، سامانتا بورغيس، أكدت أن ما يحصل "غير اعتيادي" ويعود في جذوره إلى التغيّر المناخي. لكن هذا الاعتراف لا يكفي. فالتغير المناخي ليس مجرّد ظاهرة فيزيائية، بل هو نتيجة مباشرة لقرارات سياسية واقتصادية وبيئية. من المصانع، إلى محطات الوقود التي دمّرت سهول العراق، إلى ناقلات النفط التي ملأت البحار.. كل ذلك مرتبط بسلسلة واحدة من الجشع الممنهج.
A heatwave has engulfed Europe, with temperatures reaching 46C in Spain, left almost the entirety of France under a weather alert and caused mass evacuations in Türkiye as fire rages in the region.
— CGTN Europe (@CGTNEurope) July 1, 2025
Scientists have said that human-induced climate change is making such heatwave… pic.twitter.com/avTKGu4SKw
إن العالم الذي كان يضحك على ارتفاع درجات الحرارة في الشرق الأوسط، يكتشف الآن أن شتاءه لم يعد شتاءً، وصيفه تحوّل إلى غرفة غليان.
مناخنا ليس سلعة
إذا كانت هذه الموجة المبكرة إعلاناً عن صيف لن يُحتمل، فإن ما بعد الصيف سيكون أشد. لا لأننا لا نملك التكيف، بل لأننا لا نملك الشجاعة لمواجهة أصل المشكلة. إن مناخ الأرض ليس سلعة في سوق البورصة، وليس "تحدّياً بيئياً" يُناقَش في المؤتمرات. المناخ هو الحيّز الذي نعيش فيه، والأمان الذي فقدناه.
اقرأ أيضاً: أوروبا في حالة تأهب قصوى.. وموجة الحر تغلق قمة برج إيفل في فرنسا
وفي النهاية، فإن السؤال الحقيقي ليس: "كم ستبلغ درجات الحرارة؟" بل: "كم من الوقت يمكن للبشرية أن تستمر في هذا المسار من دون أن تحترق بالكامل؟".