علوية صبح: أخاف فقدان ما ألفته

وجدت ملاذها في الورق. ربما الأمر كان تعويضاً عن عاطفة. كتبت نصّها الأول وكانت في التاسعة، لكنها لم تدخل في علاقة تكاملية مع النص حتى سن العشرين، حيث امتهنت الكتابة التي أصبحت جزءاً من هويّتها. علوية صبح، الروائية والكاتبة اللبنانية لا تزال على طلاق مع التكنولوجيا. كلما دنت من الدخول إلى هذا العالم ماطلت. هو الخوف، على ما تقول، الذي يقعدها عن مغادرة الورقة والقلم. صبح لا تمتلك موقفاً مُسبقاً من النص الالكتروني، لكنها تخاف فقدان ما ألفته لسنين. هنا نص المقابلة التي أجراها معها الميادين نت.

متى صارت علاقتك بنصّك متكاملة وواضحة الهوية؟

بدأت الكتابة في سن مبكرة. لكني طبعاً لم أكن وقتها قد وصلت إلى علاقة مع الكتابة لكي تصبح جزءاً من وجودي وهويّتي. فهذه العلاقة تصبح قوية مع الزمن. يمكنني القول إنني ومنذ كنت في العشرين من عمري، أضحت علاقتي بالكتابة تكاملية. فأنا قبل ذلك الوقت وتحديداً في سن التاسعة، كنت أكتب تعبيراً عن حاجة للكتابة. فكنت أحب أن أنطرح على السرير قبل النوم وأكتب. كتاباتي كانت نوعاً من المذكّرات والانطباعات. أذكر أني كنت صغيرة جداً عندما كتبت أول قصيدة بمناسبة وفاة عبد الناصر. تهيّأ لي أني مشلولة رغم أني لم أكن أملك وقتها أيّ وعي سياسي. ربما أكون تأثّرت بأخي الذي كان ناصرياً. فقد تمدّدت واعتقدت أني مشلولة وصرت أكتب. لا أتذكّر ما كتبت، لكن كانت لديّ حاجة دائمة للإحساس بالقلم والورقة البيضاء. فأنا إبنة العائلة الكبيرة التي تضم 10 أشخاص، كنت أشعر وسطهم أني أريد التكلّم على الورق. وعندما لا أفعل كنت أقوم بتقليد أفراد العائلة بأسلوب ساخر. 

عمّا عوّضتك الكتابة إذن؟

ربما كانت تعويضاً عن عاطفة. ربما كان إحساس. الآن أفكّر بهذه الطريقة. ففي ذاك العمر لم يكن لديّ هذا الوعي بمعنى الكتابة. إن الكتابة هي عالم أحب أن أتفرّد فيه وأشعر بوحدانية ما معه، وأن أعبّر من خلاله عن كل شيء. عن ألمي وسخريّتي وضحكي. لم تكن الكتابة امتهان بل حاجة. لكن خلال الحرب اللبنانية التي شاركت فيها وكانت وقتها المعارك في الجبل، وكنت صغيرة (19 عاماً) مع أني لا أملك أية خبرة عسكرية. كان الأمر حينها نوعاً من جنون الشباب. وصودف أن قُتل عدد من المجموعة التي كنت ضمنها. تأذّيت كثيرا من هذه التجربة حتى دخلت في اكتئاب، كانت دافعاً لأكتب أول قصيدة نشرتها في جريدة النداء. إطلعوا عليها ثم بعثوا لي لكي أمتهن الصحافة. وقتها، في سن العشرين، تحوّلت الكتابة عندي إلى مهنة. قبل أن أمتهن الكتابة كتبت كثيراً ولم أنشر. لكن مع دخولي عالم الصحافة تحرّكت في داخلي رغبة الكتابة، وخلقت عندي هواجس أخرى للتعبير عن نفسي، خاصة عالم الخراب الذي عشناه خلال الحرب، فصرت أنشر في جريدة النهار النصوص القصصية، وبالمناسبة كانت من أول النصوص المفتوحة. 

معروف عنك أنك لست على علاقة بالتكنولوجيا. فما سرّ اعتكافك عن الانتقال إلى العالم الالكتروني ومن ضمنه الكتابة على الحاسوب؟

هنالك رعب من كل شيء الكتروني. يمكن القول إنني لا زلت "على الحطب". ما الضير في ذلك؟ الحطب جميل. نار الحطب أفضل من نار الغاز. قد تكون مشكلتي الحنين. فأنا آلف ماضيّ وعاداتي. أخاف أن أنسلخ عنه. فأنا أخاف مثلاً أن أبدّل المكان الذي أكتب فيه، كما أخاف تغيير الأصدقاء. الالكترونيات عالم يُرعبني. أخاف ألا أفهمه. أن أضيع فيه. حتى هاتفي الخلوي لا يزال على الطراز القديم. بصراحة لا أدري ما سرّ هذا الكمّ من الخوف. حتى الورق والدفتر والقلم، يجب أن تكون من النوع والهيئة نفسها. بالرغم من أن كتاباتي جريئة جداً وشجاعة، إلا أني ارتعب ما أن أفكّر أني على وشك تغيير طقوسي من الكتابة. لعلّي أخاف من الفشل، ولذلك فإني أظل أماطل. فأنا كلما انتهيت من كتابة رواية، أقول إني سأدخل عالم التكنولوجيا في روايتي المقبلة، لكني حتى الآن ما زلت أؤجّل. أنا من النوع الذي يُربكني أيّ شيء. أخاف أن أفقد طريقة التفكير. فالورقة البيضاء تُسحرني. الحبر الذي يسيل على الورق كأنه يسكب لك كلاماً لا تعرف من أين أتى. أحياناً أتخايل أن الحبر هو الذي ساقني ولست أنا. هناك متعة عارمة تكون على الورقة التي أكتب عليها وتمتلىء ثم أحذف ثم أضيف ما أريد. لكن هذا يكلّفني وقتاً صار يدفعني إلى التفكير المستمر لتعلّم الكتابة على الحاسوب.

 

هذا يعني أن الفائدة التي قد تُحسب من أيّ انتقال مُحتمَل هي توفير الوقت؟

الكتابة الإلكترونية أسهل، لكن الحميمية تبقى على الورقة. خوفي هنا تحديداً، أن أفقد هذه الحميمية، وألا أستطيع التحديق طوال الوقت في شاشة. لا أدري بماذا يمكن أن أفكّر وأنا قدّام شاشة. فأنا التي على قطيعة شبه كاملة مع العالم الالكتروني، لا أردّ بنفسي على بريدي. 

بعض أصدقائك من الكتّاب والشعراء والصحافيين انتقلوا إلى الكتابة الالكترونية بشكل تام، هل من الممكن أن يكونوا قد تكبّدوا خسارة ما جرّاء ذلك؟

لا أبداً. أصدقائي الذين أعرفهم وخاضوا تجربة الانتقال من الورق يحدّثونني عن سحر الكمبيوتر. يبدو أن الإنسان يألف الأشياء وبمقدوره مع الوقت أن يغيّر طقوس الكتابة. أن يتمكّن من التفكير أمام شاشة وليس أمام ورقة بيضاء. بعض أصدقائي يخبرونني عن سحر الشاشة وصوت لوحة المفاتيح. هذه طقوس جديدة. قد يشعر الكاتب وهو أمام اللابتوب بنفس متعة الورق، قد يكون في الأمر إغواء أكثر. قد يكون علينا جميعاً أن نهجر الورق، لكن الورق من الشجر، وأنا أحب الشجر ولذلك أحافظ على الورق. 

لكن للكتابة الالكترونية طقس واحد. هل صحيح أن هذا قد يحيل فعل الكتابة من دون تراث؟

أتصوّر أن هذا الشيء سيصبح مقبولاً مع الوقت. فكل إنسان يألف طقوسه حتى يضحى التعبير من خلالها جميل. ثم إنه لا يوجد شيء إسمه تراث هنا. فالتراث ليس جامداً. موقفي من الكتابة الالكترونية لا ينبع من علاقتي بالتراث. فالتراث مثل الذاكرة متحرّك ومستمر، ولا أريد أبداً أن أهاجم الكتابة الالكترونية، وأقول إنه لدي موقف من الحاسوب. فموقفي شخصي جداً وينبع من علاقتي بيديّ والورقة والحبر وبنفسي على مدى سنين طويلة شكّلت حياتي وهويّتي وإحساسي بوجودي. الانتقال من الورق لا يعني أبداً أننا نخون التراث.