مهى بيرقدار: الورقة سماء، فكيف أغادرها؟

لم تتخل مهى بيرقدار عن الورقة والقلم. "العمر ما عاد محرز"، تقول الشاعرة السورية بعد مسيرة أدبية طويلة، لا تزال تجد موئلها في الورقة والقلم ولا يمكن أن تغادرهما. هذه العلاقة المستمرة لن تضعها بيرقدار جانباً لتجلس أمام الماكينة (الحاسوب) كما تحب أن ت|ُطلق عليه. فالورقة سماء، وهي الوحيدة القادرة على أن تمتص وجع بيرقدار وحلمها، وتعكس كل جمالية تراها في الدنيا. هنا نص المقابلة التي أجراها معها الميادين نت.

  • مهى بيرقدار: الورقة سماء، فكيف أغادرها؟
    مهى بيرقدار: الورقة سماء، فكيف أغادرها؟

 

 

عشبة الملح ... من دمشق إلى بيروت

كنت في الخامسة عشر من عمري عندما بدأت أكتب. كانت تجارب بريئة وبسيطة. لكن للأسف فإن هذه النصوص فُقدت بالإهمال. كنت أتمنّى أن تبقى، فتلك النصوص كانت تشهد على زمن جميل. وجّهني أهلي نحو القراءة منذ الصِغر وقد أفادني ذلك كثيراً. هكذا تمكّنت وأنا في الثامنة عشر من تدشين برنامج في الإذاعة السورية باسم "الليل والشعر والموسيقى"، وقد أتاح لي قراءة الشعر كثيراً وأن أنتخب أجمله. من خلال عملي تعرّفت إلى الكثير من الشعراء، ومنهم زوجي يوسف الخال. استطعت في تلك الفترة أن أكوّن مخزوناً ثقافياً معيناً انتفعت به في حياتي. لاحقاً صرت أكثر ولعاً في الكتابة الشعرية، وأول ما بدأت أنظم الشعر نظمته كلاسيكياً. فقد كنت أكتب المقفّى والموزون، وهذا يعود إلى أننا في سوريا نعتني كثيراً باللغة العربية. لقد دافعت عن موهبتي طوال عمري ورحت أصقلها وأغنيها مع الزمن. لكن النص الاحترافي جاء بعد خروجي من الشعر الكلاسيكي وشروعي بكتابة الشعر الحر بتأثير من تيّار الحداثة وكان بعد في نهضته. كتابتي للشعر الحديث كانت سبباً في تعرّفي إلى يوسف الخال. تعرّفت عليه وكنت أتيت من دمشق إلى بيروت لطباعة أول ديوان لي في دار النهار التي كان يوسف يشغل مدير النشر فيها. لكني لم أتمكّن من نشر الكتاب حينها، لأني لم أكن مشهورة ولم يكن بمقدروي أن أنشر عملي الأول على حسابي. مضى وقت كثير حتى أعدت نشر الديوان نفسه وأسمع "عشبة الملح"، بعد إدخال التعديلات عليه، وكنت قد بلغت الرابعة والثلاثين.

لم تتخل مهى بيرقدار عن الورقة والقلم، لماذا؟

علاقتي بالكتابة قامت على الورقة والقلم. أجمل الأشياء عندي الأوراق والكتب والأقلام. وكوني درست الرسم فقد دخل غرام جديد إلى ما سبق، غرامي بالقماش والألوان والريشة. كل هذه المواد التي بين يدي أحبها. أحب رائحة الورق قبل أن يذهب إلى المطبعة. هذه العلاقة لا تزال حيّة إلى اليوم. دخلت تجربة جديدة منذ بضعة سنوات وهي الكتابة الدرامية. أغلب كتّاب الدراما يكتبون على الكمبيوتر، أما أنا فما زلت أكتب على الورقة وبالقلم ولن أتخلّى عنهما. لا أقدر. الورقة والحبر جزء مني ومن كياني. أحبهما. الورقة تستقبل كل وجعي وحلمي وكل جمالية أراها في الدنيا. فكيف لا أحبها؟ أما الحاسوب فهو ماكينة ليس أكثر. حاولت التعلّم لكني لم أحبه.

 

 

 

لعل الرهبة هي التي تلعب دوراً في اعتكافك عن محاولة الكتابة الإلكترونية؟

لا. فهناك أناس أقل مني ذكاءً وتعلموا وبرعوا في دخول هذا العالم، لكنها بالنسبة لي لا تعطيني شيئاً. لا أضحّي بالورقة. الوقت المُتاح لي الآن ثمين جداً. لست مهتمة بتوفير الوقت. فأنا أحب التشطيب والإضافة على النص رغم علمي إن هذا يستهلك وقتاً. ففي هذا الطقس تكمن متعتي. أنا داخل ورقتي مثل الطير في السماء. الصفحة البيضاء من دون أية خطوط التي أمامي هي سماء تسع كل شيء، فكيف أغادرها؟ أنا أستمتع بالورق وبصوت القلم على الورقة. هذه الأشياء هي التي تصنع حلمي وإبداعي. 

 

 

 

ما الذي يمكن أن يخسره الكاتب في هجرانه الورقة؟

من وجهة نظري سيخسر كل ما قلته سابقاً. سيفقد رائحة الورقة واتّساعها وصوت القلم. سيخسر المدى الرّحب الذي يستوعب كل عالمك وكيانك. لست أقيم أحكاماً مطلقة لكن هذا رأيي.

 

 

 

إلى أين أفضى هذا الانتقال؟

الكتابة لم تعد تحفظ التراث الحسّي. هذا ما سنفتقده لاحقاً وإلى الأبد. إن كتابة خاطرة من كلمتين على الورق، تشعر بدفئهما أكثر مما لو كُتبتا على اللابتوب. أنا لست ضدّ هذه الثورة التقنية. فهذا تطوّر طبيعي. لكني شخصياً لا زلت أحب الورق. لا أشعر بدفء العمل إذا لم أكتبه بيدي وبدلّت الأقلام. هذه التفاصيل لا أريد خسارتها. "العمر ما عاد يحرز".