جودت فخر الدين: الورقة والقلم، مسبكا النص الدافىء

ليس للنص شخصيته إذا لم يكن مرئياً لصاحبه. إذا لم يكن مجبولاً بروحه. أن يتأمل الكاتب تعرّجات الخط. الكلمات المبعثرة، المشطوبة، وتلك التي دسّها هنا وهناك. الهيئة الواحدة للنصوص على الكمبيوتر والتي تبدو وكأنها تتناسل من أب واحد، تستحيل معها المتعة سراباً. جودت فخر الدين الشاعر اللبناني الذي سمع الشعر هدهدة حتى يغرق في النوم وكان بعد صغيراً، يرى أنه في سبكه قصيدته على الورق، إنما هو المُنشىء والمُبتكر. هذا الإحساس يتذرر وربما تفقد القصيدة رونقها وألقها، إذ تصبح مسودة على شاشة صغيرة مضاءة. القصيدة تخسر حرارتها وحيويتها وتلقائيتها إذا لم تكن مرسومة على الورق. في ما يلي المقابلة التي أجراها معه الميادين نت.

في أي عمر بنيت علاقتك بالنص؟

بدأت علاقتي بالشعر منذ الصغر. السبب في ذلك أنني نشأت في عائلة معنيّة بالشعر. أبي كان شاعراً وجدي كذلك. تربيّت على الاستماع إلى عيون القصائد العربية. أبي وقبله جدي كانا يستعملان القصائد العربية لهدهدة الصغار كي يناموا، وأنا كنت الإبن البكر لأبي فحظيت بتلقّي هذه القصائد منذ صغري. قصائد للمتنبي وأبي فراس الحمداني وبعض القصائد الجاهلية وما إلى ذلك.

ما الذي تتذكّره منها؟

أتذكر "أراك عصيّ الدمع شيمتك الصبر، أما للهوى نهي عليك ولا أمر"، هذا مطلع القصيدة الشهيرة لأبي فراس. هنالك قصيدة أيضاً كانت تُقرأ كثيراً في بيتنا، وهي التي تُسمّى بالقصيدة اليتيمة، "هل بالطلول لسائل ردوا، أم هل لها بتكلم عهد". كذلك أتذكر معلقة لبيد، وهي أصعب قصيدة في الشعر العربي، إضافة إلى قصائد لامرء القيس. وكما سبق وذكرت، فإن أبي كان يقرأ هذه القصائد بطريقة منغّمة للطفل الصغير كي ينام، وأنا في ما بعد استعملت الطريقة نفسها مع أولادي. هذا النوع من الإرث العائلي كان موجوداً في عائلتنا. لكنني بدأت الكتابة أو محاولات الكتابة وأنا في الثانية عشرة. ما زالت لديّ بعض الدفاتر التي تحتوي على القصائد الأولى. كانت التمارين الأولى في هذه السن. رحت أكتب بناء على عمود الشعر أي القصائد الموزونة والمقفّاة. في البداية كنت أقرأها لأبي الذي شجعني على الاستمرار، فكان لأبي التأثير الكبير في اتجاهي نحو الأدب واللغة. هناك عنصر آخر ساهم في تكويني. حبي للطبيعة. حبي للغة وحبي للطبيعة في قريتي في جنوب لبنان. لذلك من يقرأ شعري يلاحظ هذين الأثرين في كل ما كتبته. كما كنت استمتع بموسيقى الشعر، والنظم على بحور الشعر الخليلية. الشعر بالنسبة لي هو المعرفة باللغة والعروض. لكنني عندما نضجت عرفت أن الشعر هو أبعد من عروض. 

هذه العلاقة قائمة منذ الطفولة إذاً. علاقة حميمية كبرت معك؟

نعم. كنت على استعداد لأن أتجه نحو الشعر. لم يكن هذا الأمر ليظهر لولا التأثير الواضح من أبي وجدّي. مع أنني درست في ما بعد الفيزياء في الجامعة. وهذا له أسبابه وظروفه الخاصة والعامة. لكن للمفارقة دراستي للفيزياء كان لها أثر حتى في كتابتي الشعرية. فهي أكسبتني نوعاً من الدقة في النظر إلى الأمور ومن إحكام النص الشعري من ناحية التسلسل المنطقي، مع أن الكثيرين ممن يتعاطون الأدب لا يحبّون المنطق. يقولون إن الأدب يجب أن يكون مفتوحاً ومن دون ضوابط. إلا أني من القائلين إن النص الأدبي وخاصة الشعري ينبغي أن يكون مبنياً وأن يكون له نظام. النظام في النص الأدبي ضروري. فالقصيدة لها نظامها وشكلها، أما الشعر فيمكن أن يكون موجوداً في الرواية وفي العلم والفلسلفة. هناك فرق بين الشعر والقصيدة. القصيدة هي نظام شعري. 

لماذا ما زلت تكتب قصائدك على الورق؟ لماذا لم تتخلَ عن هذا الطقس؟

هذا يعود إلى شكل علاقتي بالكمبيوتر. فأنا منذ عشر سنوات أو أكثر بقليل، بدأت الكتابة على الحاسوب بسبب العمل الذي كنت أزاوله في صحيفة الخليج. فقد كتبت فيها زاوية أسبوعية لأكثر من 18 عاماً. كنت أكتب بداية على الورق، لكني وجدت لاحقاً سهولة في كتابة المقالة على الكمبيوتر، ثم إرسالها عبر البريد الالكتروني. كان الأمر صعباً لكنني تأقلمت. أما لماذا لا أكتب قصائدي على الكمبيوتر، فهذا يعود إلى أن كتابة المقالة مسألة بسيطة. ذلك أنني عندما تحضرني الفكرة كنت أكتب المقالة أحياناً في نصف ساعة. أما بالنسبة إلأى القصيدة فإنها لا تُكتب كما تكتب المقالة. فأحياناً تأتيك جملة شعرية تظن أنها صالحة لتكون في قصيدة أو في نص شعري، وحتى تأتي الجملة الثانية يمكن أن يمر وقت طويل. كتابة القصيدة ليست آلية، لهذا السبب استعمل القلم والورقة. فضلاً عن هذا، هناك أمر أهم بكثير، وهو أن الجلوس إلى الورقة والقلم يفوق بحميميته الجلوس أمام الكمبيوتر. علاقة قصائدي بالكمبيوتر ليست أكثر من مرآة للنص الورقي والذي سيذهب نهاية إلى الطباعة. هكذا كنت أجهّز مجموعاتي الشعرية الأخيرة على الكمبيوتر ناسخاً إياها على قرص مدمّج. وهذا للمناسبة، منحني فرصة أن أطبع هذه المجموعات وأن أصمّم الصفحات وأن أشكّلها كما أريد. هذا أمر ثمين. ذلك أن النص بطباعتي إياه كما أريده يأتي خالياً من الأخطاء. هذه أمور إيجابية بلا شك.

علاقة الشاعر بقصيدته أكثر حميمية على الورق. هل هذا يعني أن المتعة منها ستستحيل سراباً لو خُطّت على الكمبيوتر؟ هل تخاف فقدان تلك الحميمية؟

لا أدري. ربما. لكن المؤكد أنه لم يحصل أن كتبت أي نص شعري مباشرة على الكمبيوتر. لم أحاول حتى.

وأنا عادة لا يكون لديّ خطة معينة في ذهني عندما تأتيني اللحظة الشعرية. وحينما أحسّ أنه لديّ شيء أقوله أو أكتبه، فإني أفكر دائماً في الورق. لم يحصل بعد أنني استخدمت الكمبيوتر للقصيدة. فالكتابة الشعرية كتابة تأملية. ذلك أن في الشعر ليس هناك أفكار حاضرة. فأنت تكون في حال معينة تدفعك إلى كتابة الشعر، الذي تقوم أفكاره في اللغة وحدها. الأفكار تأتي من اللغة فحسب، الجمل التي تنبثق منك هي التي تأتي بالأفكار. إذ يمكن وأنت تكتب أن تتعجّب أحياناً من فكرة أو معنى معيّن انبثق من اللغة، فكأن اللغة هي التي تفكّر ولست أنت أيها الكاتب. اللغة هي الذات المفكّرة من خلال الكاتب وليس العكس.

هذا الشيء يبقى طالما أن النص لا يزال يُكتب على الورق؟

خبرتي في الأمور التقنية ليست كبيرة. يمكن لما يحصل على الورقة أن يحصل على الكمبيوتر، لكن، حتى الساعة لم يحصل هذا معي. ربما يأتي كاتب ويقول عن الكمبيوتر ما أقوله أنا اليوم عن الورقة. لكن أظن أن النصوص على الكمبيوتر متشابهة. 

للكاتب علاقة خاصة بنصه الورقي. تتجلى هذه العلاقة في قدرة الكاتب على معاينة خطه. برأيك، ما مدى عمق ومكانة هذا الأمر في وجدان الكاتب؟

هذه النقطة جوهرية. فأنت عندما تستخدم القلم وبالتالي خطّك أنت، وليس تقريباً خطاً موحداً كما هو على الكمبيوتر، تجعلك تشعر بأنك أنت مُنشىء النص ومبتكره. هذا الشعور ليس هو نفسه عند الكتابة على الكمبيوتر. المسوّدة تعبّر عنك أكثر من "المبيضّة". أنا أحتفظ بالكثير من التخطيطات الأولية للمسودات لأنني أحبها وأرى أنها هي التي تتحدّث عن محاولتي الشعرية التي أردت التعبير عنها.

هذا يعني في الخلاصة أن النص يفقد شخصيته على الحاسوب؟

صحيح، لنقل إنه يفقد شيئاً من شخصيته، بمعنى أنه يخسر بعضاً من حرارته وحيويته وتلقائيته. لكن إلى الآن، لا أدري إن كان الأمر أكثر من ذلك بسبب خبرتي الضعيفة لناحية العلاقة بالكمبيوتر.