حسن داوود: الكتابة صارت بلا تراث وتقليد

قد يكون لمخطوط روايته الورقي الذي سُرق منه في باريس دور، لكنّه في المحصّلة فعل ذلك لأن كان عليه، أولاً وأخيراً، الولوج إلى عالم الصحافة المُمكننة. انتقال حسن داوود إلى الكتابة الالكترونية كان شاقاً وصعباً. فقد ظنّ أن في الانتقال متعة التجدّد، لكنه لم يحسب أن لتلك الرحلة الجديدة أكلافاً كثيرة، ليس أقلّها الشعور بهبائية النص وخفّته. كأن النّص على أهبة الطيران والتواري. "فعل الكتابة النبيل"، على قول داوود بات مفقوداً أيضاً. الكتابة بالقلم التي تسير بطيئة كأن الوقت لامتناه. الطقس الذي يلعب فيه القلم دور ناسخ الأفكار اللامعة التي يخاف صاحبها عليها من أن تغور وتختفي.

في أي سنّ بدأت الكتابة؟

بدأت بالكتابة في وقت مُبكر. كنت في الثانية عشرة حين كتبت محاولات أولى شعرية. كل واحدة منها لا تتعدّى البيتين أو أكثر بقليل. إحداها كانت في عام 1962 حين انتصرت ثورة الجزائر. لكن كان ذلك مجرّد اختبار للنفس، حول ما إذا كان تعلّقي بالأدب والشعر آنذاك يمكن أن ينتج منه شيء ما. لكني انقطعت بعد ذلك، ثم حين أصبحت في الجامعة في عمر ال 18 كتبت عدداً من النصوص تبيّن لمن قرأتها لهم، أنها لا تنتسب إلى الأدب. لكني كنت أجد أن في داخلي شيئاً ما يكذّب ما يُقال عن هذه النصوص. في فترة لاحقة وكنت ما أزال في الجامعة نشرت قطعاً صغيرة في الصحف. لكن في العام 1975 وكنت في الخامسة والعشرين، طُلب مني أن أكتب لمجلة الأخبار اللبنانية. كتبت لأول مرة ثم صاروا يطلبون أكثر، وهكذا بدأت العمل ليس فقط في الكتابة بل في الصحافة. ثم بعدها شرعت أكتب في جريدة السفير إلى أن أصبحت رئيس تحرير الملحق الثقافي فيها، وكنت أكتب مقالاً اسبوعياً وبعضها كانت ذات طابع أدبي نبّهت عدداً من أصدقائي إلى خصوصيتها، ثم نشرتها بعد ذلك في كتاب اسمه "تحت شرفة آنجي". وفي العام 1983 أصدرت روايتي الأولى بناية ماتيلد. وقد لقيت استحساناً من قرّائها وكُتب عنها الكثير، وهكذا استمريت. 

أنتم من الجيل الذي دشّن علاقة طويلة وحميمية مع القلم والورقة، فهل تخبرنا عن بعض من سيرتك معها؟

كنت أكتب بالقلم. خطّ يدي صغير جداً إلى درجة أن الصفحة الواحدة التي أكتبها بخط يدي، كانت تطبع ست أو سبع صفحات في أيّ كتاب. أصدقاء كُثر أصرّوا عليّ أن يأخذوا ورقتين من مسوداتي من رواية "أيام زائدة" ومنهم جوزيف سماحة ورشيد الضعيف وربيع حداد. هناك صديقة أخرى وهي فنانة تشكيلية أخذت ما يشبه صفحات وجعلتها على رسم تشكيلي. حتى أن الشاعر اللبناني حسن العبد الله كتب عن خطّي الصغير مرّة. كما أذكر أن مقابلات صحافية عدّة اختّصت بالكلام عن كيف أكتب، وكذلك حجم الخط الصغير الذي يكاد لا يُرى بالعين المجرّدة. 

وما سرّ الكتابة بخط صغير؟

كنت أخاف من قلّة ما أكتب. هكذا كنت أحشو الصفحة الواحدة بسطور كثيرة لتكون مالئة لصفحات أخرى كثيرة عند الطباعة. ربما كان خوفي من أن ما أكتبه قليل هو ما دفعني إلى ذلك. حتى مقالاتي الصحفية كانت كذلك تقريباً، إلى درجة أن المنضّدين كانوا يعمدون إلى توسيع الصفحة إلى أقسام وتصويرها بخط كبير ليتمكّنوا من طباعتها. حين بدأت بالكتابة على الحاسوب كان الأمر صعباً للغاية. أذكر أن هذا حصل في العام 1999، حيث بدأت الصحف آنذاك تفرض على جميع كتّابها ومحرّريها أن تكون موادهم مكتوبة الكترونياً. كان ذلك إجبارياً وقد تأخّرت كثيراً حتى تعلّمت. كنت أشعر بالذنب أن العالم يتقدّم وأنا ما زلت في موضعي متأخّراً. كنت أظن أن العالم كله في ذلك الوقت يكتب على الحاسوب، لكني اكتشفت منذ نحو سنة أن كتّاباً كثيرين بينهم بول أوستر وسلمان رشدي ما زالوا حتى الآن يكتبون على الورق. كان شاقاً عليّ التعلّم، فكنت أكتب على الورقة ثم أطبع بيدي وذلك لصعوبة نقل الفكرة مباشرة. بقيت هكذا لفترة إلى أن قرّرت أن أكتب مباشرة، خاصة حين تكتب نصوصاً كبيرة. كان عليّ بذل تركيز أكبر وأشدّ لأتمكّن من إقامة الربط بين الفكرة وبين وضعها على أزرار صغيرة. كان ذلك أشبه بتَركي للتدخين مُرغماً بسبب عارض صحي. كانت الكتابة من دون تدخين في غاية الصعوبة. حتى أنني ظننت أني لم أُقبل على الكتابة إلا من أجل أن أدخّن من دون عقدة ذنب. رغم مرور ما يقرب من ال 20 سنة على إقلاعي عن التدخين، ما زالت الكتابة عملية من دون تدخين غير ممتعة. الجلوس للكتابة مع تدخين كان أمتع. اليوم اعتدت الكتابة على الحاسوب. صرت أكتب كل شيء بما فيها الروايات، منذ عشر سنوات. في السابق كنت أتفنّن في اقتناء الأقلام أما اليوم فلا. فقد أصعد إلى طائرة في أثناء سفر وينبغي أن أملأ ورقة رسمية في المطار فلا أجد قلماً في جيبي!

المخطوط الأول لرواية "لا طريق إلى الجنة"، والتي أعدتَ كتابتها من جديد بسبب سرقته في فرنسا، هل كان دافعاً للتخلّص نهائياً من المخطوطات الورقية؟

ربما. فقد نُصحت كثيراً عند فقداني المخطوط الذي لم أكن أمتلك غيره، أنه لو كان عندي نسخ أخرى منه على الحاسوب لما كنت أضعته. ربما هذا كان أحد الأسباب، لكن السبب الأساس يتعلّق بعملي في الصحف. 

ماذا خسرت بعد تطليقك للورقة والقلم؟

لديّ شعور بهبائية النص المكتوب على الحاسوب. فهو غير متجّسد على الورق. هذا الشعور مستمر معي حتى في عملي في الصحافة الإلكترونية، حيث أحسّ بأن نصوصي هباء ممكن أن تطير ولا يعود لها أي وجود. أنها أخف مما يجب وأقل مما يجب. خسرت شعوري بأوراقي التي لا زلت أحتفظ بها. 

هل كان هذا الخوف موجوداً قبل عملية الانتقال هذه؟

لا لم يكن موجوداً. كنت آليت على نفسي الكتابة على الحاسوب. كنت أعلم أني مقبل على عالم جديد فيه متعة التجدّد، لكن هناك أسف أنك تخسر عاداتك وتقاليدك وطقوسك.

إذا كان محتوى نصّك لم يطرأ عليه أي تبديل، لكن شكله تغيّر عليك حتماً. كيف ترى نصّك الالكتروني؟

في الكتابة بالقلم كانت المتعة. جان جونيه قال مرة إن الكتابة لم تعد ممتعة، منذ أن توقّف الناس عن الكتابة بالريشة. أي عندما كانت الكتابة فعل نبيل. وضع الريشة في المحبرة ثم سحبها والشروع في كتابة جملة، ثم أن تحتاج لفعل الأمر نفسه مرة أخرى، فيه حركة تشبه حركة القرنين الثامن والتاسع عشر في الكتابة. هذا البطء والوقت اللامتناهي للكتابة. تشعر أن هناك ارتباطاً في حركة الأفكار والتخيّلات بحركة اليد أثناء الكتابة، بينما على الحاسوب فإنك تفعل هذا من دون تقليد ومن دون تراث. تفعل ذلك بحركة آلية. متعة إنهاء الصفحة والانتقال إلى ورقة أخرى مفقودة. فقدت أيضاً الصلة الحميمة بالخط والقلم والتشطيب. ربما الواحد منا تكيّف مع ذلك، لكن يظهر أن عملية التفكير وكأنها باتت عملية منفصلة وغير ممتعة. فأنت عندما تكتب بالقلم تخاف أن تتوارى الفكرة. تحاول أن تلتقطها بسرعة وتخطها. تلك الأفكار التي يسمّيها وليام فوكنر "الحبيبات". الأفكار اللامعة.