ماء الوجود.. حاجةٌ وسلاح (1)

رؤيتان تتنازعان الألباب اليوم في الحديث عن أهمية المياه وضرورة التنبه لمخاطر نفادها. تقوم الرؤية الأولى على الدعوة إلى تنظيف منابع المياه ومجاريها عبر زيادة الاستثمار فيها؛ بينما تدعو الرؤية الأخرى إلى احترام المياه كثروةٍ عامة منقولة من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة، وتدعو إلى عدم تلويثها ابتداءً، وإلى إبعادها عن إغراء النشاطات الربحية.

الصورة لريكاردو روكا
ماءٌ وكَلأُ. هي السيرة الأولى للإنسان ومنتهى حركته الدائمة. جاذبية الماء والتضوّر إلى الغذاء جرّتا حاجة المسكن وراءهما. فارتبط ترحال المجموعات البشرية وتناحرها بهاتين النعمتين المسحورتين. والحاجات كهذه ليست تولد من فكرة متخيّلة، أو من رغبةٍ بتزيين الحياة، بل إنها مصبوبة في تكوين الإنسان، بل في تكوين كل ما هو حي. تبعاً لقوله تعالى: "وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ" - سورة الأنبياء/30.

عشبٌ رطب، ومياه. دار وراءهما الناس بين الوهاد وفي السهوب والصحارى والجبال. وكانت الأولى نتيجةً للثانية، وكانت الثانية دليل الحياة الأول في الأرض. ولكن الإنسان المتخيّل لقدرة التسلّط على الطبيعة لحق بسراب الماء إلى الفضاء، وراح يبحث بين الكواكب على أثرٍ لماءٍ، أو على "حجرٍ صَقَلَتْهُ المياهُ فأصبح وجهاً"، ليعرف إن كان وحيداً في هذا الوجود، أم أن أُنساً قد يطل من نجمةٍ ما معلقة في جيد السماء. صوت الماء كان رجع صداه صوت سيوفٍ، ويكون اليوم دوي قنابل، وسيكون خرير دمٍ كلما ندر الماء.

وعندما كان الإنسان إبن الموطن، كان مدركاً لحقيقة الماء وضرورته. وقد ترجم هذا الإدراك إلى حماية لموارد الأرض منه. لم يهدرها، ولم يخزنها أو يوضبها، ولم يبعها كحجرةٍ كريمة؛ بل أكل منها وشرب. وتبعت قدماه جريانها، ولم يرغمها على الجريان حيث طمعه بالنمو يأخذه. واليوم لمّا أصبح إبن الموطن "مواطناً عالمياً"، دهمت الأخطار "ماء الوجود". وحوّلته إلى "مصاص ماء" يفتك بعروق الأرض الحيّة.

رؤيتان تتنازعان الألباب اليوم في الحديث عن أهمية المياه وضرورة التنبه لمخاطر نفادها. تقوم الرؤية الأولى على الدعوة إلى تنظيف منابع المياه ومجاريها عبر زيادة الاستثمار فيها، وتحويلها إلى ملكية خاصة يتم التعامل معها كما يجري التعامل مع المنتج الصناعي أو الزراعي، وتتم عملية دمجها في السوق التجارية، وبالتالي ربط الثروات المائية بشركات أصحاب الثروات المالية، كحال كل منتجات العالم في ظل الأسواق المفتوحة.

بينما تدعو الرؤية الأخرى إلى احترام المياه كثروةٍ عامة منقولة من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة، وتدعو إلى عدم تلويثها ابتداءً، وإلى إبعادها عن إغراء النشاطات الربحية. وتقف الأديان كلها في صف هذه الرؤية إلى جانب الناس.

وبين هذه الرؤية وتلك، ملهاة التنمية المستدامة التي تستعين بأدبيات الرؤية الثانية، لتعزز توغل أرباب الرؤية الأولى في منابع المياه.

معضلة المياه في "قمة الألفية"

مؤتمر قمة الألفية عام 2000
تطرح مسألة ندرة المياه العذبة منذ عقود كخطرٍ مقبلٍ ليهدد مناطق حضرية واسعة من العالم، بكل ما يحمله ذلك من أذىً للسكان الذين تعتمد حياتهم بصورةٍ رئيسة على وجود المياه في مناطقهم. وقد بدأت المسألة حين نشطت تيارات للتنبيه من نضوب مصادر المياه، بعضها كانت لها اهتمامات بيئية، وأخرى كانت خليطاً من اقتصاديين وساسة رأوا في هذه المادة الحيوية مصدراً للاستثمار المربح.

وبين هذا وذاك، شكّلت قضايا المياه تياراً عالمياً ضاغطاً على الدول لانتهاج سياساتٍ مائية ترشّد استخدام المياه وتعمل على الحد من تلويث منابعها ومجاريها. وكان الخلاف دائماً بين من يدعون إلى الحفاظ على المياه للأجيال المقبلة من خلال اعتبارها ملكيةً وطنية تحافظ عليها الحكومات والشعوب كلٌ ضمن نطاقه الجغرافي، وبين من يدعون إلى اعتبارها ملكيةً عالمية كمقدمةٍ لتحويلها إلى منتجٍ ربحي في السوق العالمية.

وكمحطةٍ مفصلية بعد سلسلةٍ من المؤتمرات، وُضعت قضايا المياه على طاولة قادة الدول في نيويورك مطلع أيلول من العام 2000، يوم عقدت "قمة الألفية" من أجل اعتماد إعلان الأمم المتحدة بشأن الألفية، ملزمين بذلك أممهم بإقامة شراكة عالمية جديدة للحد من الفقر المدقع وتحديد سلسلة من الأهداف المحددة زمنياً - بموعد نهائي في عام 2015 - والتي أصبحت تعرف الآن باسم الأهداف الإنمائية للألفية، وحازت القضايا البيئية وحماية الموارد الطبيعية ومنها المياه جزءاً مهماً منها.

واعتبر المجتمعون أن "التحدي الأساسي الذي يواجهه العالم هو ضمان جعل العولمة قوةً إيجابية تعمل لصالح جميع شعوب العالم". وأن ذلك غير ممكنٍ "إلا إذا بذلت جهود واسعة النطاق ومستمرة لخلق مستقبل مشترك يرتكز على إنسانيتنا المشتركة"، واتخاذ "سياسات وتدابير على الصعيد العالمي تستجيب لاحتياجات البلدان النامية والبلدان التي تمر اقتصاداتها بمرحلةٍ انتقاليةٍ وتصاغ وتنفذ بمشاركةٍ فعلية من تلك البلدان".

وأوصت الجمعية العامة خلال هذه القمة باحترام الطبيعة وبـ"توخي الحذر في إدارة جميع أنواع الكائنات الحيّة والموارد الطبيعية، وفقاً لمبادئ التنمية المستدامة"، و"الحفاظ على الثروات التي لا تقدّر ولا تحصى التي توفرها الطبيعة ونقلها إلى ذرّيتنا"، و"تغيير أنماط الإنتاج والاستهلاك الحالية غير المستدامة، وذلك لصالح رفاهنا في المستقبل ورفاهية ذرّيتنا".

ورأى المجتمعون وجوب تحرير البشرية جمعاء، وقبل أي شيء "أولادنا وأحفادنا، من خطر العيش على كوكبٍ أفسدته الأنشطة البشرية على نحوٍ لا رجعة فيه، ولم تعد موادره تكفي لإشباع احتياجاتهم". وقرروا تطبيق "أخلاقيات جديدة لحفظ الطبيعة ورعايتها"، والالتزام بـ"بروتوكول كيوتو" لخفض انبعاثات "غازات الدفيئة"، وحفظ التنوع في الغابات وتنميتها بصورةٍ مستدامة، وتنفيذ اتفاقيتي التنوع البيولوجي ومحاربة التصحّر، و"وقف الاستغلال غير المحتمل لموارد المياه، بوضع استراتيجيات لإدارة المياه على كلٍ من الأصعدة الإقليمية والوطنية والمحلية، بما يتيح إمكانية الحصول عليها بصورةٍ عادلة مع توافرها بكميّاتٍ كافية". وقررت القمة الخفض إلى النصف، بحلول عام 2015، نسبة سكان العالم الذين لا يستطيعون الحصول على المياه الصالحة للشرب أو دفع ثمنها.

وبالرغم من أهمية هذه المقررات، يبقى المجلس العالمي للمياه التابع للأمم المتحدة مجلساً لشركات الاستثمار الخاص في المياه، وبالتالي فإن السياسات التي ترسمها المنظمة الدولية في هذا السياق تصب عملياً في مصلحة الشركات الكبرى التي تعتبر المياه سلعةً مدرة للربح مثل بقية السلع المتداولة في السوق العالمية.

أجراس إنذار في البرية

عطش للأرض.. عطش للإنسان
وفي عام 2007 دقّت الأمم المتحدة ناقوس الخطر بخصوص المياه، فنبّهت إلى أنه بحلول عام 2025 سيكون شخصان من كل ثلاثة مهددون بنقص المياه، وخصوصاً في أفريقيا والشرق الأوسط التي يرتبط فيها التنافس على المياه بالصراعات المسلحة، ومن المرجح أن يترافق النقص في المياه مع الزيادة في حدة الصراعات هناك.

البنك الدولي من جانبه أكّد توقعات الأمم المتحدة، ورأى أن أربعة مليارات إنسان سوف يعانون نقصاً  في المياه بحلول عام 2025، وأنه خلال 30 سنة مقبلة سوف يرتفع استهلاك المياه في العالم بنسبة 50 بالمائة. وفي سياق التعاطي الدولي مع قضايا المياه، والنسق الاستثماري المستمر، يُتوقع أن يتضاعف حجم الاستثمارات فيها في العقود الثلاثة المقبلة.

ويتوقع البنك الدولي أيضاً تزايد المناطق المهددة بالجفاف وتوزعها في مناطق جغرافية متباعدة من الكرة الأرضية. وطبقاً لدراسة نشرها في عام 2007 فإن أكثر من مليار إنسانٍ في جنوب شرق آسيا قد يتعرضون لموجات جفافٍ وفيضانات إذا ذاب جليد جبال هملايا بسبب تغير المناخ. ولا يجد البنك الدولي حلاً لمشكلة نقص المياه وتلوثها سوى الدعوة إلى المزيد من الاستثمار فيها، أي التوغل أكثر في استخدامها وتسليعها، وليس خلق فلسفة مائية مختلفة عن تلك التي أدّت ابتداءً إلى مشكلاتها الحالية.

وبحسب تحذيرات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة "فاو" فإن أكثر من مليار ونصف المليار إنسان يعيشون من في مناطق لا تصل إليها المياه، وأن نصف مليارٍ آخرين مهددين بنقص المياه، وأنه بحلول عام 2025 فإن ثلثي سكان الأرض سيعانون نقصاً في الموارد المائية. وترى المنظمة وغيرها من المؤسسات الدولية أن الاستخدام المفرط للمياه في الأنشطة الزراعية يؤدي إلى هدرٍ هذه الموارد، وأن التلوث هو المشكلة التي تمنع المياه النظيفة عن السكان الذين يحتاجونها. فيما يرى خبراء اقتصاديون معارضون لهذا الرأي أن الخلل يكمن في نسق الانتاج وفي نهم الأسواق الغربية تحديداً إلى المنتوجات الزراعية المتداولة في السوق، ما يؤدي إلى المزيد من نضال المزارعين بغية تأمين هذه المنتجات، وتفضيل استخدام المياه في هذا المجال.

وفي أيلول من عام 2010 أصدرت الجمعية العامة قراراً عبرت فيه الدول عن التزامها بتحقيق أهداف الألفية، ولفتت إلى التفاوت الكبير في النتائج التي حققتها الدول خلال عشر سنوات، ففي حين بقيت بعض الدول تعاني من مشكلات المياه، حققت دول أخرى نتائج وصفها القرار بـ"الباهرة" في سبيل تحقيق أهداف الألفية، خصوصاً فيما يتعلق بمكافحة الفقر المدقع ونقص المياه.

 

أما التقديرات الأمنية الأميركية فقد أشارت في عام 2012 إلى أن إمدادات المياه العذبة لن تواكب على الأرجح الطلب العالمي بحلول عام 2040، وتتوقع أن يؤثر ذلك على الاستقرار السياسي والنمو الاقتصادي. ووفق تقرير صادر من مكتب مدير المخابرات القومية الأميركية فإن مناطق منها جنوب آسيا والشرق الأوسط وشمال أفريقيا ستواجه تحديات كبيرة في معالجة مشاكل المياه. واستنسخ التقرير المنطق-الهاجس الذي تم تداوله بكثرة خلال قمة الألفية حول خطر الإفراط في ضخ المياه الجوفية في الزراعة على سوق الغذاء.

وأوضح التقرير أن "مخاطر الصراع حول المياه تتزايد، متوقعاً أن يفوق الطلب العالمي على المياه الإمدادات الحالية المستدامة منها بنسبة 40% بحلول عام 2030". وصوّبت هذه الوثيقة اهتمام البلاد على "الأحواض المشتركة"، معتبرةً أنها سوف تكون مجالاً للصراع بين الدول الجارة التي ستسعى كل واحدة منها إلى سحب ما تستطيع سحبه من هذه الأحواض. كما أشارت إلى الفكرة عينها التي أكدت "قمة الألفية" على ضرورة مكافحتها، وهي إمكانية استخدام المياه كسلاحٍ أو "لأهدافٍ إرهابية"، معتبرةً أن "البنية التحتية للمياه المعرضة للهجوم هدف مغرٍ".

وتصدر الأمم المتحدة تقريراً حول حالة الموارد المائية في العالم كل ثلاث سنوات، وهي تناشد على الدوام الدول أن تقوم بترشيد استخدام المياه، وتنبهها إلى مخاطر تلوث منابعها ومجاريها، وتدعو إلى الاستثمار في البنية التحتية المخصصة لنقل المياه؛ في وقت تقول إن عدد سكان العالم تضاعف خلال القرن العشرين، بينما زاد استهلاك المياه ستة أضعاف، ما يعتبر غير منطقي نسبةً إلى حاجة الناس للمياه من ناحية، وهدراً بالنسبة إلى تحويل هذه المادة إلى سلعة عالمية من ناحيةٍ ثانية.

ويشير خبراء بيئيون إلى أن التغيرات المناخية مؤثرة جداً على الحاجة لاستخدام المياه، ففيما خص الزراعة، تتناقص رطوبة التربة مع تغير نسب المتساقطات المائية، ومع ارتفاع درجات الحرارة الذي يسير باضطراد بالرغم من الجهود المبذولة لخفض انبعاثات الدفيئة. 

المياه كسلاح

الماء هنا.. ويكفي للجميع
في 28 آب الماضي، وخلال خطاب له بمناسبة أسبوع المياه العالمي في ستوكهولم-السويد، رأى مدير برنامج الشرق الأوسط في مجموعة الأزمات الدولية جوست هيلترمان  أن "الجدل" و"العداء" أصبحا "اللعبة" الجارية في الشرق الأوسط حول المياه. ويقول إن الحروب المشتعلة اليوم في المنطقة لا يظهر أنها "حروب مياه"، ولكنه يبالغ في قوله إن الحرب الإيرانية-العراقية بين الأعوام 1980-1988 كانت كذلك، نظراً لارتباط تلك الحرب بأسبابٍ كثيرة مختلفة. ولكن اللافت في كلام هيلترمان ربطه بين شح المياه في "وادي بردى" بريف دمشق في منتصف التسعينيات وبين انضمام جزء من سكان هذه المنطقة إلى الانتفاضة ضد حكم الرئيس بشار الأسد. فنهر بردى الذي كان يغذي الحياة في وادي بردى وصولاً إلى "بحيرة العتيبة" لم يعد يصل إلى هناك. ما أدى إلى توقف النشاط الزراعي في جزء كبير من المنطقة، بالتوازي مع وجود مشكلة في تناقص مخزونات المياه الجوفية، الأمر الذي دفع بالحكومة السورية إلى تقييد حركة حفر الآبار الارتوازية. ويرى هيلترمان أن هذه الأسباب دفعت بالناس في ريف دمشق إلى الثورة على النظام القائم.

ويبيّن هيلترمان أن الصراعات حول المياه تنقسم إلى ثلاثة أنواع:

1-  الصراع للوصول إلى المياه.

2-  الصراع حول توزيع المياه.

3-  استخدام المياه كسلاحٍ في الصراع.

ويعطي مثالاً على النموذج الأول الذي هو الصراع للوصول إلى المياه، الحرب العراقية-الإيرانية. أما النموذج الثاني، أي الصراع حول توزيع المياه، فيعطي المثال في حالة وادي بردى وسكانه. وبالنسبة للنموذج الثالث، فيتحدث عن مخاوف العراق من قيام إيران خلال الحرب باستهداف سد دربنديخان المقام على نهر ديالى، ما كان سيؤدي إلى إغراق بغداد؛ ويعطي مثالاً آخر عن ذلك عندما هدد وجود تنظيم "داعش" في الموصل بانهيار سد الموصل، إما بفعل إرهابي يقدم عليه التنظيم، أو بسبب خلل هيكلي وعدم صيانة السد.

من خلال ذلك تظهر أهمية هذه الأنواع الثلاثة للمخاطر التي تحدثها الموارد المائية. خصوصاً في المنطقة الشرق الأوسط التي سوف نتطرق إلى الصراع على المياه فيها وفي حوض النيل في الجزء الثاني من هذا الملف، إلى جانب رؤية الأديان لقضايا المياه. 



الكاتب على تويتر: @mseiif