تاتيانا بحر تعيد تجسيد تاريخ لبنان الموسيقي

الباحثة الروسية اللبنانية تاتيانا بحر تعيد تجسيد تاريخ لبنان الموسيقي بالصور والوثائق.

ملصق معرض ""الموسيقيون الروس في لبنان: تنويعات في الثيمة العربية"

نعود إلى قلب موسكو، إلى (بيت المُغترب الروسي) الواقع قرب محطة مترو "تاغانسكايا"، مع وضع اللمسات الأخيرة على معرض جديد للباحِثة الروسية اللبنانية تاتيانا كوفاشيفا بحر بعنوان "الموسيقيون الروس في لبنان: تنويعات في الثيمة العربية"، يفتتح في 3 أيلول/ سبتمبر الجاري ويستمر حتى 27 منه، نبشت فيه تاتيانا وثائق تاريخية وصوَراً فوتوغرافية تُعرَض للمرة الأولى، تؤرّخ لنشأة الموسيقى الكلاسيكية الأكاديمية في لبنان منذ عشرينيات القرن الماضي وتواكب تطوّرها وازدهارها حتى عتبة الحرب الأهلية. وتكمن أهمية المعرض في أن محفوظات وأرشيف المعهد الوطني العالي للموسيقى – الكونسرفاتوار، وأرشيفات أخرى، كانت قد نهبت أو أحرقت أثناء الحرب.

 

أثر زكي ناصيف

تاتيانا بحر تُعيد تجسيد تاريخ لبنان الموسيقي بالصوَر والوثائق

بعد معرض "الروس في لبنان" (2015)، و"فنانون روس رسموا لبنان" (2017)، ما الذي دفع الباحثة إلى صرف نحو سنتين من الجهد على معرض للموسيقيين؟ تقول تاتيانا للميادين الثقافية إنه "أواخر تسعينيات القرن الماضي، تشرّفت بالتعرّف إلى الفنان زكي ناصيف، وعندما علم أنني روسية قال لي إن أساتذته في الموسيقى كانوا من الروس وذكر لي عدداً من الأسماء، كان يذكرهم على مهل واحداً تلو الآخر وينتظر ردة فعل مني. تلك الأسماء لم تعن لي شيئاً آنذاك، فمثلاً إسم عائلة "كورنأوكوف" روسي شائع جداً، وأنا بصراحة لم أعد أذكر أسماء العائلات الأخرى. شعرت بالحرج من جهلي، وشعرت في المقابل بتقديري للموسيقي اللبناني الكبير الذي يحافظ على ذكرى أناس باتوا منسيين تماماً في روسيا".

لذلك عملت الباحثة على التنقيب في وثائق الأرشيفات لإعادة تجسيد نحو نصف قرن من عمل الأساتذة الروس مع طلابهم في مختلف المؤسّسات الأكاديمية الموسيقية في لبنان. وتضيف "الآن بتُّ أعلم أن أحد أساتذة زكي ناصيف في معهد الموسيقى التابع للجامعة الأميركية في بيروت كان خريج المعهد المسكوبي العالي للموسيقى ومعنّي الأوبرا ألكسي كورنأوكوف (1889 – 1987). أكان زكي ناصيف مديناً إلى طريقة هذا الأستاذ في الأداء والغناء في مشواره الفني الطويل؟ كما أن "عصبة الخمسة"، التي أسسها زكي وكان في عدادها زميله في المعهد الموسيقي في الجامعة الأميركية توفيق الباشا، شكلت فريقاً متجانساً لصناعة موسيقى لبنانية جديدة، استمدت إسمها من النظير الروسي "القبضة الجبارة"، أو حسب التقليد الفرنسي "الخماسية الروسية"، وهي عبارة عن رابطة من الملحنين (ضمّت كذلك الأخوين رحباني وحليم الرومي وفيليمون وهبة) هدفت إلى الخروج من الغناء الشائع إلى محاولة اكتشاف لون من الغناء المحلي الذي يستمد من الفولكلور جمله اللحنية، وذلك سمة ظاهرة في أثر الأساتذة الروس، الذين لم يدرّسوا تلامذتهم العزف على الآلات الموسيقية فحسب، بل اتباع المثل الجمالية ذات الأصول المحلية وغرسوا فيهم بناء احترام الفولكلور الذي يضم خامات فنية قابلة للصقل والتطوير لإنتاج موسيقى حديثة".

إرث أركادي كوغل

كان المدير المؤسّس للمعهد الموسيقي في الجامعة الأميركية في بيروت عازف البيانو والموسيقار أركادي كوغل (1896 – 1985)، وهو خريج المعهد العالي الموسيقي في سان بطرسبورغ. اتسمت فترة إقامته في لبنان بالإنتاج الموسيقي الغزير، وكانت أعماله مثالاً يحتذى لدى الموسيقيين اللبنانيين الشباب.

وتحظى الأعمال التي أنتجها كوغل في لبنان باهتمام خاص من متذوّقي الموسيقى الكلاسيكية، ومنها: تنويعات على الثيمة العربية للبيانو (1927)، رقصة السيف العربية: مقطع من باليه "أحلام راع" للبيانو (1929)، انطباعات دمشقية: جناح شرقي لأوركسترا سيمفونية كبرى (1930)، الرقص الشرقي للكمان والبيانو (1932)، رقصة البدو للتشيلو والبيانو (1932)، رقصة الكرد للبيانو (1936)، رابسودية التتار للبيانو مع الأوركسترا (1937)، الفولغا، ملحمة سيمفونية للأوركسترا الروحية (1938)، صفحتان من ألبوم الرقص الأرمني (أواخر الثلاثينيات).

ترى تاتيانا أن الموسيقار "يتتبع تدرّجاً متسقاً مبنياً على التفسير الثقافي الجمالي للألحان الشعبية. وقد حظيت المؤلفات الموسيقية ذات الطيف القومي المتنوع بالانتشار بين الموسيقيين اللبنانيين والأجانب على حد سواء، وبثت عبر راديو الشرق. فعملت على الارتقاء بالذائقة الموسيقية لدى الجمهور بشكل عام، ولدى الملحنين اللبنانيين الشباب، الباحثين عن طرقهم الخاصة في صناعة الموسيقى".

وتستشهد بما قاله زكي ناصيف "لقد أدركنا أن الملحنين الكبار في جميع أنحاء العالم لم يحققوا الشهرة إلا بعدما نهلوا من فلكلور بلدانهم، إن تشكل ذلك الوعي لدينا جعلنا أكثر اهتماماً بالفلكلور اللبناني في الأرياف. لقد تعلمنا كذلك أنّ الفلكلور الروسي أنشأ الموسيقى والأوبرا الروسيتين، وليس العكس. فالفلكلور هو الذي يملأ روح الموسيقى الكلاسيكية والغناء".

نيقولاي دال

تاتيانا بحر تُعيد تجسيد تاريخ لبنان الموسيقي بالصوَر والوثائق

لعب ألكسي بطرس دوراً مهماً في نشر الموسيقى الكلاسيكية، وكان موسيقياً هاوياً، وعضواً في الأوركسترا السيمفونية لدى الجامعة الأميركية في بيروت، وتلقى دروساً في التشيلو على يدي رودولف كوغل. فبمساعدة قوية من الموسيقيين الروس ورابطة الموسيقيين الهواة نمت المدرسة الموسيقية وهي أولى كليات الأكاديمية اللبنانية للفنون (ألبا).

تقول تاتيانا بحر: "كان ألكسي كورنأوكوف أوّل قائد لجوقة هذه الرابطة، التي حظيت بشهرة عالمية في ما بعد. أما أول مدير لمدرسة ألبا الموسيقية فكان نيقولاي نيقولاييفيتش دال (1891-1964) الذي كان محامياً وموسيقياً. عاش دال في المنفى البيروتي وكان عضواً في أوركسترا الجامعة الأميركية السيمفونية ومن أصدقاء عائلة كوغل".

بعد وفاة دال الإبن، تم تأسيس جائزة نيقولاي دال في الأكاديمية اللبنانية للفنون (Dale Prix)، والتي سمحت للشباب اللبناني الموهوب بمواصلة التعلم الموسيقي في الخارج. وقد ساهم الأساتذة الوافدون من روسيا إسهاماً كبيراً في تشكيل وتطوير المعهد العالي للموسيقى "الكونسرفتوار"، الذي يعود تأسيسه إلى سنة 1910، والذي حصل على مكانة وطنية أواخر عشرينيات القرن العشرين.

ففي مراحل مختلفة عمل في التدريس هناك كل من ميخائيل شيسكينوف، ألكسي كورنأوكوف، إيليا لازاريفا، إيلينا سافرانسكايا، ماريا كوسفيتسكايا دورمون، تينا مانتيفيل، إيراست بيلينغ. وكان مدير المعهد الوطني العالي للموسيقى "الكونسرفاتوار" نيقولاي دال بين العامين 1961 و1964. ونعتقد أنّ عمل هؤلاء الأساتذة الروس جدير بالإشادة، لا سيما وأن طلابهم كانوا في طليعة الملحنين والمؤدين ذويي التوجه الوطني اللبناني.

عائلة بيلينغ

تاتيانا بحر تُعيد تجسيد تاريخ لبنان الموسيقي بالصوَر والوثائق

تتحدث تاتيانا بحر عن روسي آخر كان أحد ضباط اللحن الأربعة في أوركسترا البلاط القيصري الروسي، البارون إيراست بيلينغ، الذي تتلمذ على يدي ريمسكي كورساكوف، وكان عازفاً موهوباً على الكمان وعازف بيانو، وملحناً.

استقرت عائلة البارون بيلينغ المهاجرة في دمشق، فعلّم البارون البيانو وألّف في الموسيقى، وعملت زوجته المغنّية الروسية ساندرا بيلينغ في صناعة الدمى التذكارية وأنشأت ورشة لإنتاجها سمّتها "بارون بيلينغ"، أما ابنتهما تمارا فدرّست الباليه الكلاسيكي ورقصت في حفلات الكونشيرتو.

في العام 1948، دعيت إلى بيروت كرئيسة لقسم الرقص في الأكاديمية اللبنانية للفنون (ألبا)، لاحظت أنّها كانت المحاولة الأولى لتعليم الباليه الكلاسيكي على أساس أكاديمي في لبنان. بين طلاب البارون بيلينغ نجد الملحن السوري الشهير وليد الحجار. وتتلمذ على يديه في بيروت المؤلفان الموسيقيان بوغوص جلاليان (1927-2011) وجورج باز (1926-2012).

"المخطوطات لا تحترق"

تاتيانا كوفاشيفا بحر

كمنت الصعوبة الرئيسة في المرحلة الأولى من التحضير للمعرض في الغياب شبه التام للمواد الأرشيفية. ونجد على الموقع الرسمي للمعهد الوطني العالي للموسيقى "الكونسرفاتوار": خلال الحرب اللبنانية (1975-1991) تكبد المعهد الوطني أضراراً مادية كبيرة، حيث تم نهب جميع الآلات والوثائق وخزائن الكتب أو أحرقت. كما نقرأ عن أرشيف عائلة دال: في العام 1983 نهب أرشيف عائلة دال وأحرق.

ولكن يمكننا هنا التأكد مرّة أخرى من صدق المقولة الروسية "المخطوطات لا تحترق"، فبعد بحث مُضن وصلت تاتيانا إلى أرشيف الدولة في مقاطعة تفير الذي يحتفظ بأرشيف ألكسي كورنأوكوف وزوجته عازفة البيانو والأستاذة الموسيقية يلينا لازاريفا، اللذين عادا من لبنان إلى الوطن سنة 1967.

وتشمل الوثائق مجموعات من الصور الفوتوغرافية والملصقات وبطاقات الدعوة وقصاصات من الصحف والمجلات، وسجلات الامتحانات وقوائم الطلاب والبرامج التدريبية للمعهد الموسيقي في الجامعة الأميركية في بيروت وكلية الموسيقى في الأكاديمية اللبنانية للفنون (ألبا)، المعهد الوطني العالي للموسيقى "الكونسرفاتوار"، من ثلاثينيات إلى ستينيات القرن العشرين.

كما يتضمن المعرض وثائق من أرشيف الدولة التاريخي المركزي في سان بطرسبورغ، والمكتبة الوطنية الروسية، والمكتبة الموسيقية في أوركسترا شوستاكوفيتش الأكاديمية في سان بطرسبورغ، ومكتبة الجامعة الأميركية في بيروت، ومجموعات خاصة.

وعن مصادر أخرى للمعرض تقول تاتيانا للميادين الثقافية "حصلتُ على معلومات مختلفة من إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة وكندا، من أحفاد اللبنانيين ذوي الأصول الروسية المنتشرين حول العالم، ولا أنسى المساعدة القيّمة من صديقيّ الناقدين الصارمين فلورنس وغريغوري سيروف في بيروت. كما أهداني القدر هدية أخرى، إذ تعرّفت إلى ألكسندر كوغل، الذي يعيش في أميركا، وهو عازف تشيلو وأستاذ موسيقي، ممثل الجيل الثالث من موسيقيي هذه الأسرة. خدمتني قصصه وتعليقاته على الصوَر والملصقات التي حصلت عليها من أرشيف كورنأوكوف، وكذلك على وثائق من أرشيفه الشخصي. والأهم من ذلك أنك لا تقرأ كل يوم رسالة تقول: نعم تاتيانا، أتذكر زكي وتوفيق جيداً (زكي ناصيف وتوفيق الباشا). كذلك حصلت على نصائح مجدية من المؤرخة الموسيقية نينا سكّر، التي شاركتني مستندات لا تقدر بثمن حول تاريخ الموسيقى الكلاسيكية في لبنان، وهي اليوم ضمن المعروضات. كما تحدثت عن ذكرياتها الشخصية المهمة كطالبة شابة في المعهد الموسيقي حين كان أساتذتها يلينا لازاريفا ويلينا سافرانسكايا ويكاترينا وميخائيل شيسنيكوف ونيقولاي دال وألكسي كورنأوكوف. قالت لي: كان من المستحيل ارتكاب أي خطأ في صفّ كورنأوكوف، كان صوته يصدح في جميع طبقات مبنى الكونسرفاتوار". ثم تبتسم تاتيانا وتقول: يبدو أن هذه الذكريات الغالية منحت ألواناً للصوَر الفوتوغرافية بالأبيض والأسود".

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]