من القوقاز إلى دمشق.. التراث الشركسي يستعيد صباه

 

من بلاد القوقاز (القفقاز) جاؤوا إلى سوريا بعد رحلة هجرة عظيمة تمتد جذورها إلى النصف الثاني من القرن التاسع عشر إبان الحكم القيصري لروسيا، ورغم وجودهم فيها لعشرات السنين وامتزاجهم بالمجتمع المحلي الغني بطوائفه وأعراقه ومشاركتهم له بأفراحه وأتراحه في أوقات السلم والحرب، إلا أنهم حافظوا على هويّتهم الخاصة وتراث شعبهم وإرثه الحضاري الموغِل في القِدَم بل حتى أساطيره.

فالفروسية، حب الموسيقى، الرقص، الحنين إلى الوطن الأمّ، كلها موروثات لا زالت تسري في دماء الشراكس رغم التقدّم الحضاري وتشتّت شملهم نتيجة الاضطرابات المتتالية في الشرق الأوسط عموماً وسوريا خصوصاً.

يتّحد شراكسة سوريا اليوم تحت راية "الجمعية الشركسية الخيرية" التي تقوّي صلاتها مع أبناء القومية عبر شبكة فروع في عدَّة محافظات بغية حفظ العادات والتقاليد الأصيلة والتراث الثقافي. وتُعيد الجمعية تنظيم صفوفها من جديد بعد أن أثّرت الحرب على نشاطاتها المتنوّعة. 

  • من القوقاز إلى دمشق.. التراث الشركسي يستعيد صباه
    من القوقاز إلى دمشق.. التراث الشركسي يستعيد صباه

 

يذكر تامر زكريا (عضو مجلس إدارة في الجمعية الشركسية) للميادين الثقافية أن الجمعية تأسَّست عام 1948 لتقديم يد العون لعوائل الشهداء والأسَر الشركسية المتضرّرة من الحروب الإسرائيلية، بعد ذلك طوَّرت الجمعية مجالاتها فعنيت بالأمور الثقافية والرياضية والاجتماعية. ويُشير إلى أن الجمعية تقيم دورات في اللغة الشركسية، وهي أساس العمل فيها.

هناك لهجات شركسية متنوّعة تمّ جمعها في بوتقة واحدة تدعى (الجامكوي) واللغة الأخرى تسمَّى (قبرداي) مع وجود أساتذة لكل منها. 

  • من القوقاز إلى دمشق.. التراث الشركسي يستعيد صباه
    من القوقاز إلى دمشق.. التراث الشركسي يستعيد صباه

 

في المقابل تنظّم الجمعية دورات في اللغة الروسية، وحفلات تقدّمها فرقة فنية، حيث شاركت منذ شهرين في حفل بـ (دار الأوبرا) في دمشق حضرها عدد كبير من الناس، إضافة إلى وجود نحو 15 عازِفاً لآلات موسيقية عدّة، وفي السياق ذاته تصدر عن الجمعية مجلة سنوية تُدعى (البروز) تنشر نشاطاتها من دورات ثقافية ورياضية.

يعود أصل الشراكسة (الأديغا) إلى القفقاس (بلاد القوقاز) وهي المنطقة المحصورة ما بين بحر قزوين (الخزر) في الشرق والبحر الأسود في الغرب، وتتكوَّن من جمهوريات ودول عدَّة.

  • من القوقاز إلى دمشق.. التراث الشركسي يستعيد صباه
    من القفقاز إلى دمشق.. التراث الشركسي يعود إلى صباه

 

توضِح (رئيس اللجنة الثقافية في الجمعية ومركزها في منطقة ركن الدين في دمشق، دينا خوت، أن للجمعية فروع في عدّة محافظات (منها حلب والقنيطرة وريف دمشق) وأكثر من فرع في العاصمة نفسها، كل فرع يضمّ لجاناً ثقافية، اجتماعية، رياضية، وفنية. إذ تُعنى اللجنة الثقافية بالفلكلور والتراث الثقافي الشركسي بشكل خاص.
 

وتتابع خوت في لقاء مع  الميادين الثقافية أن أحد أهم الجوانب الثقافية هي اللباس، فهناك زيّ خاص بالنساء وآخر متعلّق بالرجال. صمّم لباس الرجل ليواكب طبيعة جبال القوقاز الباردة الجبلية القاسية، خاصة وأن الشاب الشركسي كان يقضي جلّ وقته في القتال، ويتكوَّن من رداء  طويل الأكمام ربما يصل إلى الركبة، إلا أنها تقصر حتى المرفق في حالات الحرب كي لا تعيق المقاتل عن ممارسة مهامه. يُضاف إلى ذلك (حزرات) في منطقة الصدر تشبه في شكلها الرصاص يستخدمها المحارب عند الضرورة.

إلى جانب هذا يلبس الرجل الحزام فوق الرداء وهو بيت (القامة) أي السيف الشركسي، وتحت الرداء يرتدي قميصاً صيفياً أو شتوياً، أما أهم عنصر في الزيّ الشركسي الخاص بالرجال هو (القلبق) وهو القبعة التي يرتديها، وفي حال خلع الشخص القلبق عليه أن يضعه في مكان مناسب لأنه تصرّف يعبّر عن الاحترام لمُرتديه، كما أن سقوط هذه القبعة في المبارزات وساحات المعارك يُعتَبر عيباً كبيراً.

تشرح خوت خصائص ومميّزات الزيّ النسائي، فهو يبرز جمال وأنوثة المرأة وأناقتها في آن، وهو يتكوَّن من رداء طويل (فستان) عريض مع ثلاثة أزرار ذهبية أو فضية في المنتصف عند الخصر، في حين أن الأكمام طويلة ضيّقة حتى المرفق، ثم تتّسع بعد هذه النقطة حتى الأسفل، تزيّنها زخارف ونقوش شركسية. تأتي بعد ذلك (القبعة)، تعتمرها الأنثى، متصل بها شال طويل يغطي معظم الظهر، وتحت الرداء تلبس المرأة أما قميصاً شتوياً أو صيفياً، وعلى القميص ثلاثة أزار فضية أو ذهبية. أما بالنسبة إلى الألوان فهي تتوزّع ما بين (سكرية) و(خمرية) وسوداء، إلا أن الأسود غالب على الرجل لقربه من الطبيعة القتالية، في حين أن اللونين (السكري) و(الخمري) يُعدّان لمناسبات أخرى.

يتواجد شراكس سوريا في عدّة محافظات رئيسة منها القنيطرة، حلب، دمشق، ريف دمشق وحمص. وتحمل بعض أحياء العاصمة واللاذقية إسمهم إلى اليوم.

  • من القوقاز إلى دمشق.. التراث الشركسي يستعيد صباه
    من القفقاز إلى دمشق.. التراث الشركسي يعود إلى صباه

 

ويقول محمّد علي أواري (مسؤول الفرقة الموسيقية في الجمعية الخيرية الشركسية) " كان آباؤنا وأجدادنا يعزفون على أكورديون و(شيكابشينا) مثل (الفيولين) خاصة بالقفقاز، إضافة إلى (البربان) الذي يشبه الطبل، وآلة يدوية خشبية صغيرة للتصفيق (بخشتش)، ونتيجة التطوّر أدخلنا على فرقتنا آلات جديدة غيَّرت المسار القديم". 

أما آية صوقار (عازِفة غيتار في الفرقة الفنية) فتحدّثنا عن تجربتها الوليدة في الجمعية قائلة "بدأت الفكرة بحماس، مارست العزف أولاً على (البشنة) والبربان، ثم انتقلت إلى العزف على الغيتار بعد أن قرّر مسؤول الفرقة إدخال آلات غير معتادة في العزف الشركسي، إلى جانب الكمان والفلوت، وبجهود الجميع قدّمنا أول حفل كبير في دار الأوبرا في دمشق، وما زلنا نشارك في نشاطات الجمعية. بدأت الموسيقى الشركسية، كما يعرف كثيرون، في بلاد القفقاز بآلات بسيطة مثل أكورديون الذي ندعوه (البشنة) و(البربان) وهو آلة إيقاعية مثل الطبل".

في حين يبيّن ينال صالح رمضان (أمين السرّ في الجمعية الشركسية) لـلميادين الثقافية، "نحن جزء من نسيج وفسيفساء سوريا، مشاركون في كل فعالياته". 

ويتحدّث عن أحد أهم الأمور الثقافية للجمعية وهي اللغة الشركسية التي يمكن أن تندثر إن لم نهتم بها من خلال دورات التعليم، إضافة إلى  اللغات الإنكليزية والروسية وأية لغة يمكن أن ترفع من سوية المجتمع.

 ويتابع بالقول "هناك روضات لتعليم الأطفال الرقص واللغة والفن، وهناك أيضاً معارض للكتاب والكتب، إلى جوار مكتبة في الجمعية تضمّ كل ما كتب عن الشراكس أو في مجالات عامة، نعرض هذه المقتنيات للجمهور العام الذي يزور المعارض، كما نستضيف بعض الكتّاب للحديث عن مواضيع ثقافية معيّنة، ونقيم محاضرات صحية وطبية".

 يولي رمضان الموسيقى أهمية بالغة لأنها ترفع سوية أيّ مجتمع، فالموسيقى الراقية ترتبط بالمجتمع المتطوّر. "هناك فرقة راقصة تغطّي مختلف الفعاليات في سوريا، أصبح لدينا فرقة موسيقية خاصة منفصلة عن الرقص تضمّ ما يصل إلى 10 آلات تعزف في وقت واحد بما يشبه السيمفونية، فبات لدينا جانب موسيقي بحت وآخر راقص، يمكن دمجهما في بعض الفعاليات سوية".

ويرى رمضان أن الرقص يعبّر عن الثقافة الشركسية بشكل قوي ويُضفي جمالية، كما أنه يبوح بما في داخلك من طاقة. "هناك رسّامون يقدّمون لوحاتهم ومعارضهم في صالتنا، وأقمنا مؤخراً معرض الجولان لنحكي عن التراث الشركسي والعربي في تلك المنطقة" كما يروي أمين سرّ الجمعية.

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]