هانيبال سروجي يزين الحلم بإرث الأجداد

داخلاً صالة جانين ربيز، يخطفك سحر ألوان شفافة برقّة نور الصباح، وتشعر أنك مُحاط بهالة من أضواء خافتة، كأنها تحاول ملامستك برقةٍ كجناح فراشة يخشى أن يفقد بريقه في ما لو تعدّى حدود الطيف المرسوم له.

سروجي مع بعض معروضاته

في غاليري جانين ربيز - الروشة بيروت، معرض الفنان البيروتي هانيبال سروجي تحت عنوان "دعونا نحلم"، والدعوة ليست مجرّد عنوان، فالمعروضات أشبه ما تكون بالحلم، وهي لوحات وألوان عالية الشفافية، ورغم ذلك، تترك أثراً قوي الحضور، جاذباً ومدهشاً في آن.

أغلب اللوحات استدارات بمسحةٍ واسعةٍ من الألوان الفاتحة، يهتك انسيابها بعض لطشات لونية، كثيرها قاتم، أو أسود يحتل مساحات متفاوتة بين اللوحة والأخرى.

 

لوحة حلم في لوحات مستديرة

يشبّه سروجي اللوحة بالحلم، أو بالحياة وفق ما يرغبه الإنسان، صفاء، وهدوء، وانسياب لكن ثمة ما في الحياة ما يعكّر صفوها، ولكل مجتمع أسبابه، ودواعيه، لكن في لبنان، ومع فنان لبناني مخضرم، هي الحرب التي تعكّر الصفو، وتهتك جمال الحياة.

يريد سروجي أن يغلب الطابع الجميل للحياة على القبيح منها، لذلك تتزيا استداراته اللونية الفاتحة بمساحات واسعة من الضوء، والقليل من بقية الألوان خصوصاً منها ضربات صغيرة لا يتمكّن منها إلا فنان مختبر. ضربة هنا، وثغرة هناك، وشحطات أشبه بالغيوم العابرة.

صراع الحياة والحرب

ولا يمانع سروجي في التعبير القريب من المباشر في أجوائه التجريدية، فهنا ما يشبه العصفور، وهناك ما يشي بالبحر، والسباحة، لكن المسحة العامة للوحات تقارب التجريد المبسّط الذي في اجتماعه في العديد من اللوحات، يحوّل الأجواء إلى ما يشبه الموسيقى اللونية الهادئة، والحال الرومانسية الهائمة في غير حدود.

لوحة شفافية وحلم

يعود سروجي في أعماله إلى الذاكرة، وما تحويه من سالب وموجب. لا يريد تجاهل أي منها، فالحروب قضت على الكثير من الأحلام، ولكن، كما يقول للميادين الثقافية "لا يسعنا إلا الاستمرار في الحلم حتى نستطيع أن نعيش"، داعياً الناس بذلك إلى الحلم، وابتكار ما يجعل الإنسانية أكثر قابلية للحياة منها إلى الموت. 

ر

في عودته إلى الذاكرة، حيث تحتفظ الذاكرة بما لا تستطيع الرغبة الإنسانية المُضي فيه، يستلهم سروجي أحلاماً جميلة عاشها الناس بصورة عامة في مرحلة من مراحل الحياة اللبنانية، يستدرج منها بقايا ترمز إلى جمالات العصر الجميل الذي عاشه لبنان قبل اندلاع سلسلة الحروب التي لم تتوقف.

فمجموعة من لوحاته المتجاورة تتتوج بخطوط ضوئية متمدّدة، ومتعرّجة، منها الأزرق، والأحمر، والأخضر. هي أصابع تضاء تقليدياً بالغازات الملوّنة النادرة، وتعرف ب"النيون"، وكان أجداده يتقنون تلك الصنعة التي صنعت ثورة في الإنارة في حينها، وحصل على بقية منها من محترف الأجداد، وبقاياه المنسيّة، يعود عُمرها إلى ما يزيد على الستين عاماً، عاود معالجتها بتقنية الأجداد، وأنار بها لوحة من اللوحات، بالضوء الأزرق، بينما أنيرت بقية لوحات المجموعة بأضواء مختلفة من الصنف عينه، لكنها أكثر حداثة.

لوحة صراع

أما عن لوحاته فيقول إن كل نقطة سوداء فيها هي ثغرة خلّفتها رصاصة، أو شظيّة، ومن خلالها يمكن مشاهدة المدينة على حقيقتها، لكنه لا يظهر تلك الحقيقة البشعة التي خلّفتها الحرب، وأدّت به إلى الهجرة القسرية سنة 1976، أي في ذروة اندلاع الحرب الأهلية.

هاجس سروجي ما يؤلمه: صراع الماضي الكئيب، الأليم، والرغبة في الحياة، والاستمرار والتواصل، لكن ذلك لا يكفي الفنان كفكرة، فعمله يفترض التمحور على إنتاج جمالي يوظّف له مزيجاً من الألوان، والأضواء، والأكريليك، والنار، وتقنيات فنية متعدّدة، والإبداع في الأعمال يتجلّى ببساطة التعبير في اللوحة رغم تعقيدات صناعتها.

لوحة إنارات متنوّعة

يقدّم المعرض نموذجاً على الفن كقوّة تحدٍ تقارع التغريب الذي يعيشه اللبناني والعربي بصورة عامة، وجوهره ما يعيشه، ويقتنع به أبناء العالم العربي، واقعاً مريراً بلا مستقبل. لكن سروجي يؤكّد التمسّك بروح عربية متفائلة يريدها كل إنسان.

سروجي أستاذ للفن في الجامعة اللبنانية -الأميركية في بيروت، عمل سابقاً في تدريس برنامج الوسائط المتعدّدة لدرجة الماستر في جامعة السوربون في باريس، وله العديد من الأنشطة الفنية في مختلف جامعات العالم، ومحترفاته، وحائز على الماستر في الفنون الجميلة من جامعة مونتريال، والدكتوراه من جامعة الفنون الجميلة في نيم بفرنسا، ودكتوراه في العلوم الاجتماعية من جامعة مونتريال.

كما أن سروجي حائز على العديد من الجوائز والمنح ابتداء من العام 1983، وحتى العام 2017، وله عدة مؤلفات عن الفن والعلوم التربوية الفنية. له 23 معرضاً شخصياً إفرادياً، وشارك بأكثر من 25 معرضاً جمعياً في لبنان ومختلف أنحاء العالم.

سروجي عالم قائم بحد ذاته في الفن من جوانبه المختلفة، وتاريخ حافل بالتجارب التفاعلية بين الواقع والمُرتجى، وقد آن الأوان أن تخرج صرخته الأخيرة "دعونا نحلم" عنواناً لمعرضه الحالي المستمر حتى السابع من تموز/يوليو الجاري.       

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]