(عن الآباء والأبناء): في سوريا "لسّاها الحرب طويلة"؟

يموت الأب لكن الإبن يرث الانتقام!

بصوتٍ خفيضٍ يكادُ يدنو من الهَمْس، يسرُد المخرج السينمائي السوري طلال ديركي في بداية فيلمه الوثائقي (عن الآباء والأبناء) إنتاج العام  2017  - والمُرشّح للنسخة 91 من جائزة الأوسكار - قصة الجحيم الذي عاشه، الجحيم الذي اختاره بنفسه، مُتغلغلاً في عُمق "المجتمع الجهاديّ"، مقابل أن يحصل على فيلمٍ يصِف خلاله الفكر المُتطرِّف ومُعتنقيه، وأن يصوِّر بمجازفَةٍ أسس مجتمع ميراث العنف القائم على أحاديّة التفكير، المُجازفة في كَسْبِ صداقة "الجهاديين" في (مقاطعة إدلب) ومن ثمّ الغوص في تفاصيل الحياة اليوميّة.

هكذا ببساطةٍ شديدة، يُجازفُ مخرجٌ بحياته لأجل توضيح صورةٍ ما قاتمة بالنسبة إلينا نحنُ الأناس القريبين - البعيدين عن المكان الأسود الذي يملكُ ترتيباً خاصَّاً وحياةً خاصّة مبنيَّة على اعتقاداتٍ تكادُ تكون يقينيّة ومنزّلة وفقهم (أعني الجهادييّن).

العملُ إذن بحث عميق في الوصف العفوي لرقعةٍ جغرافيَّة في سوريا تحت سيطرة تنظيمٍ إرهابي دونما تأريخٍ لمرحلةٍ بعينها كما يفعل الفيلم التوثيقي عادةً، وباستخدام كاميرا صحافيّة مُترنحّة وكأنّنا نعيش جوّ الرعب القائم هناك بالفعل وبلا تخيُّل، إضافةً إلى أصوات الغارات الجويّة وطلقات الرصاص والألم في الوجوه برمّتها.

العناصرُ تلكَ كلّها تحاول أن توصِلَ المُتفرِّج إلى عُمق السواد المتواجد على تلك الرّقعةِ السوريّة، من دون تجاهُل أن ثمة العشرات من المدن تعيش الأوضاع ذاتها، مع جرعة تركيزٍ على مَن يرتكب الجرم من دون عودةٍ للضحايا.

فما يودُّ الفيلم قوله هو التركيز على مُسبّبي القتل بعيداً من التعمّق في وصف كميَّة القتل وأعداد القتلى خلال الحرب، أن يصِف المكان بفلسفتهِ الخاصَّة وغباره وأمطاره وضبابه ونيرانه.

الحكاية

يأخذ الفيلم منحىً توثيقيّاً بحتاً من جهة تقنية تصوير الكاميرا، لا سيما وأنّ الأخيرة تفصح بتميُّزٍ عن درجة الخوف بشكلٍ جليّ من خلال الصورةِ المُتحرّكة، غير المستقرّة، حيثُ المكان (إدلب)، الخاضعة لسيطرة تنظيم القاعدة  - جبهة النصرة. الخرابُ الذي يُهدّد بالمزيد من الخراب.

شابٌّ بعيد من "الفكر الجهاديّ" يُقرّر أن يعيش في منتصف الخطر والموت مع عائلةٍ "جهاديّة" بأكملها بعد مُخاطرته وادّعائه بحبّ "الجهاديَّ" وفكره، غرفةٌ صغيرة تتوسّطها مدفأة مع تشقّقاتٍ في الجدران توثّق الحكايات بدورها، وأطفالٌ يكبرون ويشبُّونَ على الفكر المُتطرّف والعنف اللا مُنتهي.

هكذا بكل هدوء يُدمَّر جيلٌ بأكمله ويتربَّى على العنف والمُعتنق "الجهادي". تبدأُ الحكاية عندما يُقرّر المخرج السوري طلال ديركي الذهاب إلى مناطق خاضعة لسيطرة الإرهابيين في سوريا وإيهامهم بأنّه ميَّال لفكرهم ليتمكّن الاقتراب أكثرَ من دائرة النار ومن ثمّ وصف النار تلك بصرياً. النار التي نشاهدها نحن المُتفرّجون على هذا الدمار الهائل، معنوياً ومادياً، ومن ثم ليُزَجَّ طفلين هما "أيمن" و "أسامة" إلى منتصف العرض. الطفلان اللذان يعيشان في كنفِ أبٍ مُتيقِّنٍ تماماً من "الخلافة الإسلامية" وقيام دولتها، يفكّك الألغامَ وكأنّه يتناول وجبة غداءٍ في مطعمٍ شعبيّ في أحد أحياءِ إدلب!

سنرى أيضاً مشاهدَ لإنتاج جيلٍ كاملٍ عنيف من خلال التدريبات القاسية التي تجري داخل أحشاء مجتمعٍ فكريٍّ لا يرحم، مُتيقّن تمامَ اليقين من الانتصار عاجلاً أم آجلاً، المسألةُ فقط مسألة وقت وإيمان ليس إلا.

هكذا تُحبَكُ خيوطُ الحكايةُ بتماسكٍ تشرحها الكاميرا المُرتجفة المذعورة من أصوات الطلقات والصواريخ التي تعلو سماء المدينةِ التي كانت يوماً ما مكاناً لآلاف الناس، فيما هي في الوقت الرّاهن ساحةٌ كبرى للمعارك. صوتُ الراوي - المخرج يهِبُ الجواب الشافي: "في صغري علّمني أبي أن أكتبَ كوابيسي كي لا تعودَ مُجدّدَاً".

هذا التفسير يعطي البُعد الأوسع للكابوس الذي عاشه المخرج طيلة تصويره للفيلم في مكانٍ خاضع لسيطرة القاعدة - جبهة النُّصرة، وربمّا ارتأى المخرج أن يلجأ إلى التصوير عوضَ الكتابة في محاولَةٍ لرسم شيء بسيط من الكابوس الجاثِم على الصدور أملاً في الخلاص، ولكن بطريقةٍ متمايزة عن الخلاص المعتاد من الحرب القائمة. 

دلالات القتل والذبح على وجه التحديد يزخر بها الفيلم، سواءُ من ناحية الأصوات أمْ التصرّفات لأبطال الفيلم، سيما وأنّ لا بطل مركزيّ في الفيلم برمّته، الجميع أبطالٌ في حلقة العمل الدائريّة التي تبدأ بصوت المخرج وتنتهي به كنوعٍ من التوضيح.

أسامة الطفل، يُكبِّر بين الفينة والأخرى كهتافٍ يجلب القوّة والقدرة على الانتصار والقتل، أما أيمن فدائم الشرود. الشخصيات الأخرى تتحرّك كظلالٍ مساندة وداعِمة لسير العمل. الأب ونحن نراه بقوّته وصحّـته البدنيَة يدلّ طفليه على الألغام ويسرد للراوي (المخرج) سيرة الحرب والاعتقال وينزع الألغام من مناطق واسعة، ومن ثمّ ينقلب الأمر، لنرى الأب وهو مُقعَد بعد أن بُتِرت قدمه، غير إنّه يبقى على السويَّة ذاتها من الإصرار والتأكيد على "الانتصار"!

أسامة الطفل ... عندما يحول الإسم صاحبه إلى مشروع قاتل

يحكي الفيلم أيضاً حكاية توريث العنف القائم على الانتقام، من خلال صورة الطفل أسامة الذي سُمّيَ تيّمناً وحبّاً من الوالد "الجهاديّ" بزعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن.

أسامة الطفل، المولود بتاريخ هجمات 11 أيلول/سبتمبر 2011. هذا الحبّ القاتل الذي ربّي عليه الطفل أسامة، ومن ثمّ بالنتيجة العشرات من الأطفال الذين سنشاهدهم وهم يخضعون لتدريباتٍ عسكريّة في غاية القسوة، ويتلقّون تعاليم دينيّة قائمة على التطرّف والتكفير والفكر الواحد. الفرق يبدو جليّاً بين ترتيب الأبناء المُتشرّبين بالفكر "الجهادي" حين يكون الطفل أيمن متوتّراً ودائم الشرود فكريَّاً، وبين الطفل أسامة العنيف والمُتمسّك بالعنف، وبالتالي استبعاد أيمن وضمّ أسامة إلى العمل العسكري.

هذا يبدو واضحاً من خلال المشاهد القصيرة التي تصوّر أسامة وهو يتعارك مع الأطفال، أو حين يذبح العصفور البرّي الذي اصطاده مصادفةً في حوش المنزل، وهاتفاً على الدوام بجملة: "الله أكبر"، ومن ثمّ النزعة الانتقاميَّة التي تتوالد لدى الطفل آن رؤيته لأبيه وهو بقدمٍ واحدة.

يبدو أنّ تراتبيّة العنف لدى أفراد هذا المجتمع هي مَن يخوِّل ويقرّر إشراك الطفل في العمل العسكري أو إبعاده ليكون فرداً عادياً تُلقى على عاتقه أعمال بعيدة من العسكَرة، أو لعلّها ليست بعيدة بالمعنى الحرفيّ، إنّما هي تخدم العمل العسكريّ حقيقة الأمر. بالمقابل على السويَّة ذاتها من إصرار الأب "الجهاديّ" على "النصر"، نُبصِر الطفل أيمن وهو يتلقّى تعليمه، فيما يرتدي الطفل أسامة الزيَّ العسكري ومن ثمَّ اقتياده إلى موته المجهول.

هذه الإشارات إلى توريث العنف لدى الأطفال، تكوِّنُ الفكرة الأساسيَّة التي تفيد بأنّ الحرب طويلة ومستمرّة، إن مات الأب فالإبن قد ورث فكرة الانتقام وانقضى الأمر!

تلك الفكرة التي لا ذنب للطفل فيها سوى أنّه ربّيَ في مكانٍ قائمِ أساساً على ثنائية العنف والانتقام. فليس عبثاً أن يبدأ الفيلم أولى مشاهده بحركةٍ بطيئة لأطفالٍ يلهونَ في ساحةٍ ترابيَّةٍ عامّة يعلوها الغبار، ومن ثمّ نرى خلال تطوّر الفيلم الأطفال أنفسهم وهم يلعبون بلُعَبٍ غير اعتياديّة بالنسبة لأطفالٍ خارجَ هذا المكان، لعبتهم المُفضَّلة هي العراك الحقيقي العنيف باستخدام الأيادي والهُتافات المُتطرّفة.

يكاد يكون الطفل أسامة النموذجَ الحقيقيّ لاستمراريّة فكرة القتل انتقاماً، العنف القائم أساساً على تدريبٍ مُمَنهج، عسكريّاً أم أيديولوجيّاً. لتتوالد في النهاية حكايات غير منتهية معجونة باليأس والعنف.  

"لسّاها الحرب طويلة"

"لسّاها الحرب طويلة"، هكذا يفصِح الأبُ "المجاهد"، غير مبالٍ بخطورة هذه العبارة ومعناها العميق وبكل هدوء مثبتاً عينه على القنّاص ليقتل من خلف ساترٍ ترابي، راوياً حكاية السجن والعذاب مُتفوّهاً بالعبارة السابقة، في ما نرى المخرج وهو يستنطقهُ حذِراً من فوارغ الطلقات التي تندفع خلفاً، الطلقة التي ربمّا أصابت أحدهم على الطرف الآخر.

كصرخةٍ في وادٍ يأتي فيلم (عن الآباء والأبناء)، حيثُ أنَّ العنف لا يزال مُستمرّاً، ليس العنف وحسب، إنّما إنتاجه بشكلٍ يوميّ وبترتيبٍ أيديولوجيٍّ في غاية التعقيد.

ينتهي الفيلم بالخلفيّة الصوتية لمشاهد أدخنة الحرب والدمار والطُرُق المُتفرِّعة: "لسَّا الحرب مطوّلة، لطالما سمعت هذه العبارة مراراً وتكراراً من أفواه الجهاديين، تطولُ بنظرهم حتى يأخذ الفكر الجهادي طريقه إلى غالبية المتواجدين في مناطق الحرب، سنواتٌ مضت وها هي الطرقاتُ تفرِّقُنا الآن. أيمن بات اليوم فتىً يافعاً وما زال يكمل تعليمه ويعتني بإخوته الصغار، وأسامة اقتيد إلى طرقات الموت، لا طريق يجمعنا بعد اليوم، ابتسامته العفوية، روح التمرّد داخله أصبحا من الماضي، وأنا بدوري أقلب صفحةً قديمة، وأُنهي هذا الكابوس. أعود إلى بيتي وأسرتي في برلين بذاكرةٍ عن وطنٍ تغيّرت معالمه بطريقةٍ مُرعبة، وطن لا يشبه مُطلقاً ذاك الذي أعرفه"، بهذه العبارةِ القاسية ينهي طلال ديركي الكابوس ليضعنا في المُحصِّلة داخل كابوسٍ مُضاعَفٍ لم ينتهِ بعد، بل ويصعُب الفِكاك منه.

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك التحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]