علي النوري: مسرح القباني قلبي، فكيف لا أحرسه؟

ترعرع في مسرح القباني حتى أصبح جزءاً منه ... تعالوا لنتعرف إلى قصة العمّ أبو رضوان.

علي النوري: مسرح القباني قلبي فكيف لا أحرسه

لطالما سمعناها من عُشَّاق مسرح القباني في دمشق، أنهم عندما يذهبون لحضور إحدى العروض التي يحتضنها هذا المسرح العريق فإنهم يحظون بعرضين: الأول تقليدي، أما الثاني فهو عرض محبة غامِرة من علي النوري حارس المسرح وخزَّان ذكرياته، الذي لا يتوانى عن خدمته رغم مرض الديسك المُزْمِن الذي أصابه، ورغم اختفاء صوته لما يزيد عن العام. عندما تسأله: «ما عُمرُكَ عم أبو رضوان؟»، يجيبك: «أنا من مواليد مسرح القباني».

إذ لا يحب أن تُقاس علاقته بهذا المكان بالزمن، وإنما بعمق الانتماء إليه، يقول النوري للميادين الثقافية: «كنت مرافقاً دائماً لوالدي العامِل في مسرح القباني، أتابع جميع العروض، ويظهر لي الممثلون، وشلالات الإضاءة المُتراقصة مع الموسيقى، وقطع الديكور،... كأنهم من عالم خارج حدود الطبيعة، فأنبهر وأندهش، ومنذ ذاك الحين تعلّقت بهذا المكان وما زلت، ولا أذكر أنني فوَّتُّ أيّ عرضٍ، لكن في هذه الأيام ينتابني يأس وألم وحزن، عندما يسألني أحد الأشخاص «عم أبو رضوان ما عُمرك؟» لأنني أدرك حينها أنني سأخرج يوماً ما من هذا المكان الذي أعشقه، سواء عبر التقاعد أو الموت، والإثنان آتيان لا محالة».

كان «أبو رضوان» يجلس صغيراً في مدخل باب النجاة، الذي بات الآن ورشة خياطة للأزياء المسرحية، وبسبب تأخّر البروفات حتى الليل، فإنه يغفو على مقعده، وعندما يأتي والده لإخراجه يحزن، ويرفض إلا أن يتابع البروفا حتى نهايتها.

وَلَعُهُ ذاك وشغفه المتواصل بمسرح القباني شكَّل له نجاةً على الصعيد الإنساني، يقول عنها: «أي حبٍّ هو نجاة، فكيف إن كان شغفاً بمسرح قضيت فيه أسعد أيام حياتي، ودائماً أُكرِّرها أن الإنسان لا يستطيع العيش من دون أوكسجين ونبض للقلب، وبالنسبة لي القباني هو أوكسجيني ونبضي، فكيف لا أحرُسُ قلبي؟ يسمّونني حارس هذا المسرح، وأنا أقول إنني حارس المكان والذاكرة، لست بمؤرّخ ولا صحافي أو كاتب، لكنني مختلف عن الذين يعملون هنا، فأنا لا أرى مسرح القباني مكاناً أعمل فيه، بل هو بيتي، وأحبه، وأُداريه كما تُداري الأمّ طفلها الرضيع الذي مُنِحَتْ إياه بعد أكثر من 25 عاماً، لذا لم آخذ يوم إجازة واحداً منذ أكثر من عشرين عاماً، فحبّي الأول والأخير هو هذا المكان، عندي أربعة أولاد ومسرح القباني خامسهم».

«العمّ علي» يمتلك حساسية عالية تجاه جميع مفردات الفن المسرحي، وهو ناقِد فذّ من دون فذلكة، يلتقط مكامِن القوّة والضعف في العروض التي يتابعها منذ مراحل تحضيرها الأولى، حتى إنه قادر على اكتشاف الفنان الحقيقي من المزيّف سواء أكان ممثلاً أم مُصمّم إضاءة أم مهندس ديكور...، ومرجعيته في ذلك كما أخبرنا: «كنت أتعلّم من أيّ مخرج يقدِّم شيئاً على هذه الخشبة، من ملاحظاته، وتوجيهاته للعاملين معه، وبِتُّ أرتشف طريقة تفكيرهم وأساليبهم في إدارة الممثلين، وضبط إيقاع العمل ككل، صحيح أنني لست خرّيج معهد عالٍ ولا مدرسة فنية ولا جامعة، لكنني درست وتعلَّمت ضمن مدرسة المسرح، حتى أصبحت أتكلّم بروح المسرح وحياته، واعتمادي الأساس على الفطرة والفراسة».

وأضاف: «كان لعام 1979 أثر كبير على معرفتي المسرحية، إذ تزامن مع ظهور مُصطلح المسرح التجريبي في سوريا، والذي لا يمتّ بصلة إلى المسرح التجريبي الحالي لا من قريب ولا من بعيد، ففي تلك السنة كانت عروض «رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة»، «يوميات مجنون» و«ثلاث حكايات» التي تركت أثرها الواضح فيّ، وكل منها ترك في نفسي صراعاً، وصل إلى حد أنني صرت أهدس بكل عرض يومين أو ثلاثة، قائلاً: "قبل ساعة كان القائمون على المسرحية يفعلون كذا، وقبل نصف ساعة كانوا يجّهزون كذا،...».

علي النوري شخصية خارج التنميط, ربّما يقترب من بطل رواية «الحمامة» لـ«باتريك زوسكيند» في علاقته مع المكان، وهَوَسه بترتيبه والمحافظة عليه نقياً، إلى جانب ذاكرته الثاقبة التي تحتفظ بالكثير من المعلومات والتواريخ والأسماء والأحداث، فمثلاً عندما تسأله عن البورتريهات التي يعلّقها خلف كرسيّه، لكل من فواز الساجر، نضال سيجري، عدنان جودة، نعمان جود، وطلال نصر الدين، فإنك تُحرِّك لديه الكثير من الوجدانيات، لدرجة أن عينيه تلمعان بفرح الماضي، يقول: «ما زلت متأثّراً بعروض الأستاذ فواز الساجر، فعندما كنت جالساً في الصالة أثناء بروفات عرض «رحلة حنظلة من الغفلة إلى اليقظة» حينها كان الأستاذ نعمان جود صمَّم الديكور من «التنك» ووضع أرجوحتين واحدة على يمين الخشبة والثانية على يسارها، ومن دون أن أنتبه أن الساجر يراقبني كنت أردّد: "وخرج صاحبنا حنظلة من السجن دجاجةً منتوفة، الإسم: حنظلة، إسم الأب: حامد الحنظلة، إسم الأمّ: زنّوبة الصفراوي، الوضع العائلي: متزوّج بلا ضنا، الوضع العائلي: الطاءة اللي بيجيك منها الريح سدّها واستريح، الوضع العائلي: اللّي بياخد أمّي بعيُّطْلُو عمّي"، اندهش حينها الساجر، فقلت له: "العمل الذي أحبه أحفظ حواراته ويثبت في ذاكرتي"، ذلك ترك بيني وبينه صداقة ومودّة، وما زلت حتى هذه اللحظة أُكرِّر أن كل الناس تمشي بواسطة قدميها، إلا الساجر يمشي بعقله، وما كان يمتلكه من فكر وموهبة لم أجدهما عند أي أحد آخر».

أما نعمان جود فيصفه بـ«عبقري السينوغرافيا، وساحر الديكور، لقدرته الفائقة على فَهْم النص ورؤيته المخرج وإبداع الحلول السينوغرافية الملائمة»، بينما يرى عدنان جودة المؤسّس الثاني لمسرح الطفل في سوريا بعد عبد الوهاب أبو السعود الذي اقتصر عمله في المسرح المدرسي، حيث كان عدنان، بحسب النوري، من القلائل الذين استطاعوا أن يحقّقوا تواصلاً ناجحاً مع الأطفال بالاشتغال على تكامُل العناصر المسرحية من تمثيل وصوت وإضاءة وأزياء وموسيقى وماكياج، من دون إهمال أيّ منها، وذلك ضمن تفكير عميق بهذا المسرح الصعب، مع فَهْم الطفولة على اختلاف الأزمنة التي تعيش فيها».

يضيف العمّ أبو رضوان: «أحببت أيضاً نضال سيجري لقلبه الأبيض، فهو فنان خلوق كانت سعادته تكمُن بمساعدة الآخرين. وطلال نصر الدين لفتتني كتابته لنصيّ «نبوخذ نصر» و«ديك المزابل»، وبعد أن أصيب بمرض عُضال وتوفّى في عزّ شبابه أحببت أن أُذكِّر الناس به».

علاقة علي النوري طويلة وصادقة مع أبي الفنون، ما جعله شاهداً على مسيرة المسرح السوري، الذي يقول إنه دائماً يتجدّد، مع أن تطوّره ليس تصاعُدياً، فهو قائم على أفراد، يوضح: «يأتي مخرج ما فيقدّم عملاً مميّزاً، وبعد فترة يقدّم عرضاً آخر بمستوى متدنٍ، ربما يعود السبب في ذلك إلى عدم الفَهْم الحقيقي للمسرح وتطوّره وارتباطه بالزمن الحاضر المستمر».

وعندما نسأله عن رأيه بالمواسم المسرحية الأخيرة، يجيب: «فيها كمّ كبير من العروض لكن النوع ليس دائماً جيداً، والخلل برأيي أنه في الماضي ليس البعيد، كان حلم أي شخص أن يقف على خشبة المسرح، أما الآن فتُقدَّم الفرَص لأشخاص غير مُستحقين، وبالتالي تأتي العروض على سوية مُتدنّية، بحيث باتت المسرحيات التي تُدهشني وتُبهرني وتُمتّعني في حدودها الدنيا، ورغم ذلك لا أتفق مع مَن يقولون إن هناك أزمة مسرح، فمَن يحب المسرح ولديه الرغبة للعمل فيه، فإنه يستطيع ذلك، بما في ذلك خرّيجو المعهد العالي للفنون المسرحية الذين يكتفي معظمهم بالشهادة الأكاديمية من دون صقل موهبتهم المستمر في المسرح، فهنا على هذه الخشبة يتجلّى امتحان الممثل الحقيقي، وليس أمام كاميرا التلفزيون».

صوت علي النوري العالي بمحبته ووعيه، اختفى تماماً لما يزيد عن السنة بسبب مرض في حنجرته، فبات مُحبُّوه يُرمِّمون الصَّمت بينهم وبينه بـ«بانتومايم» خاص، يقرأون من خلال عينيه ما يُخفيه لسانه، في حين أنه كان يُداري أحزانه بمزيد من الاهتمام بمسرح القباني، يقول: «لعلّ شغفي بهذا المكان، وحاجتي لصوتي من أجل خدمته هو مَن أعاد لي قدرتي على النطق، وليس الأدوية».

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]