"بِنداروُك": المكتبة ضدّ جهل القراءة

إنها مغامرة لمواجهة الحرب التي أتت على كلّ شيء، وفي مقدّمها الثقافة والقراءة وطباعة الكتب.

تبدو في مكانٍ غير لائق للوهلةِ الأولى، إلى جانب مطعمٍ يُقدّم مأكولاتٍ ولحوم مشويَّة على جادةٍ معروفةٍ بروّاد تدخين النارجيلةِ أو المأكولاتِ الشعبيَّة! وعلى مبعدةٍ منها بأمتارٍ قليلةٍ وحسب، ثمَّة مكاتبُ لتأجير السيارات تضجُّ بالزائرين، فيما نرى إلى جانب كل ذلك المكتبةَ وهي تحتضن بضعةَ أشخاص. على الرغم من ذلك المكان الفوضوي أثبتت المكتبةُ أن لا شيء محالٌ البتَّة.

إنها (بِنداروُك). المكتبة التي تأسّست في شمال شرق سوريا وتحديداً في مدينة القامشلي أوائل العام الحاليّ. يشي الإسمُ منذ اللحظةِ الأولى باستراحةٍ ما، وتعني باللغة الكردية (مكانُ الاستراحة تحت فيءِ الأشجار). تجلبُ أشجارها/كتبها من مختلف دور النشر وبمختلف اللغات العربيَّة والكردية والفرنسية والإنكليزية والتركيَّة. رغم الظروف الصعبة المفروضة على البشر والحجر في تلك المناطق، ارتأى أصحاب المكتبة والمسؤولون عنها خوضَ المُغامرة والقيام بنوعٍ من تصحيحٍ للمسارِ الخاطئ، أي الحرب الأخيرةُ التي أتت على كلّ شيء، وفي مقدّمها الثقافة والقراءة وطباعة الكتب التي من المؤكَّد أنَّها باتت الهمَّ الأخير للمواطن السوري في عموم البلاد منذ سنواتِ اندلاع الحرب.

يقول عبدو شيخو (مُترجِم صدر له العديد من الترجمات) أحد مؤسسّي مشروع مقهى ومكتبة "بِنداروك" للميادين الثقافية: "أسّسنا المكتبة أنا وصديقي عباس موسى في بداية العام 2019، بَيْدَ أن تجهيزاتٍ لمدّة أشهرٍ ستَّة سبقت الافتتاح، من حيث إعداد المكان ومُعضلة تجهيز وتأمين التواصلات بغية إيصال الكتب إلى القامشلي سواء من تركيا ولبنان أو من إقليم كردستان في شمالي العراق والتي بلغت أكثر من ألفي عنوان، ولا زال العمل مُتواصلاً لجَلْبِ المزيد من العناوين ورَفْدِ المكتبة".

يبدو الأمر صعباً للغاية بالنسبة إلى الناظِر من بعيد، فالأوضاع الاقتصاديَّة قضت على آمال وطموحات أغلب السوريين، وربمّا الكتاب سيكون الهمَّ الأخير لهذا البلد بشكلٍ حتميّ وطبيعيّ استناداً إلى خلفيَّة الصراعات الدائرة فيه. لكن في الوقت نفسه ثمَّة متابعون وقرّاء ومُثقّفون يرتادون المقهى لابتياع الكتب أو حتّى التفرِّج عليها ومتابعة مشهدٍ نادر الظهور منذ سنوات.

سألنا شيخو عن نسبة بيع الكتب بمختلف عناوينها في المنطقة، فوجود إحصائيَّة -وإن لم تكُن دقيقة أيضاً- تساعد على تحديد مستوى نشاط القراءة وحيازة الكتب بين شرائح المجتمع المختلفة التي كانت تقرأ قبل اندلاع الحرب بنسبةٍ معقولةٍ جدَّاً، فقال: "لا توجد لدينا نسبة مُحدَّدة للبيع أو إحصائيَّة نستند إليها للأسف، المكتبة بقيت تقاوِم بفضل بعض المؤسَّسات الثقافيَّة والهيئات المُختصَّة التي تشتري الكتب بكميَّاتٍ كبيرةٍ كفيلةٍ بإبقاء المكتبة قَيْدَ العمل، هناك عمّال في المكتبة ومصاريف مطلوبة من إدارتها تصل إلى ما يُقارِب الـ 800 دولار أميركي بشكلٍ شهريّ، لذا نتأمّل المشهد بخوفٍ وانعدامِ أمل في حال توقّفت تلك المؤسَّسات عن الشراء، فالأرباح التي نأخذها لقاء بَيْع كتاب واحد تُعتَبر زهيدة وتصل إلى ما يُقارِب الدولارين، ومسألة بَيْع 400 كتاب خلال شهر واحد لتأمين المصاريف اللوجستيَّة أمرٌ مُستحيل قياساً إلى وضع المنطقة الحالي ومع تدهور القراءة بشكلٍ عامّ، ما يجعل من استمرار مكتبة ضخمة في العمل شيئاً صعباً من دون وجود استقرار في المبيعات الشهريَّة".

ويُضيف شيخو إنه في بعض الأيَّام يرتاد المقهى عشرات القرّاء المنتَخبين ويبتاعونَ عشراتَ الكتب، وفي أيَّامٍ أخرى يمكنك أن تجد المكتبة فارِغةً من دون أن نبيع كتاباً واحداً!. ذلك أن "القراءة أيضاً فنّ وانتقائيَّة، هناك شريحة قارِئة تطلب عناوين جادَّة لكتبٍ لا يمكننا الحصول عليها أحياناً لاستحالة الأمر، فيما الأغلبيَّة الساحِقة تطلب العناوين التي تُحظى بشهرةٍ على وسائل التواصل الإجتماعي وهي أعمال تتَّسم بأنّها شعبويَّة نوعاً ما".

منذ افتتاحها استطاعت المكتبة يوماً بعد يوم أن تجذُب القرّاء إليها بشكلٍ معقول مُقارنةً مع الوضع العام، بَيْدَ أنّ الأسعار وعدم تكفّل الهيئات الثقافيَّة بجزءٍ ولو يسيرٍ من التكاليف على اعتبار أنّ الكتاب ليس بضاعةً عاديَّة، تلعب الدور البارز في هرب الكثير من القرّاء -حتَّى الجادّين منهم- ولجوئهم إلى الحصول على الكتب بطُرُقٍ إلكترونيَّة أقلَّ تكلفة.

وعند سؤال شيخو عن حقيقة ارتفاع أسعار الكتب وابتعاد الناس عن القراءة وانشغالها بالأمور الحياتيَّة اليوميَّة رفض ذلك بالقول "نعم، هناك ارتفاع في أسعار كل شيء نتيجة الأزمة الحالية، لكن الكتاب يبقى الأرخص سعراً. هذه حقيقة، هناك العديد من الحلول. ثمّة دور نشر سوريَّة تنفّذ طبعتين لكتابٍ بعينه، إحداهما موجّهة إلى خارج سوريا وتُباع بالعملة الصعبة، فيما هناك طبعة أخرى موجّهة إلى منافذ البيع السوريَّة وبأسعارٍ معقولةٍ جداً"، مُتابعاً: "ألاحظ في بعض الأحيان عامِلاً عادياً بمرتّبٍ يوميّ زهيد يُقبِل في نهاية يوم عمله لشراء مجموعة كبيرة من الكتب، هذا العامِل يقرأُ فعلاً. كلّ منّا يُنفق أمواله بأساليب معيَّنة، هناك نماذج بشريَّة في المنطقة تفضِّل أن تشتري قميصاً بما يُقارب الـ 20 دولاراً، بينما هي غير مُستعدّةً لشراء كتاب سعره أقل بكثير، على الرغم من أنَّ المكتبة تلقى الويل في سبيل وصول الكتب إلى المدينة وإتاحتها للقرّاء وما يترتّب على عملية إحضارها وتأمينها من عوائق ماديَّة ومعنويَّة على السويَّة نفسها".

تكاد أوضاعُ القراءة وعملية بيع الكتاب أن تتشابه في أرجاء العالم قاطبةً، لكن لِمَ المغامرةُ وبالتحديد في دولةٍ أنهكتها الحروبُ والصراعات وارتفعت فيها نِسَب الهجرة على خلفيَّة انعدام سُبُل الحياة برمّتها؟

بالرغم مما ذُكِرَ آنفاً تستمرّ (بِنداروك) في جَلْبِ الكتب وإتاحة الفرصة للإطّلاع حتّى ولو لشريحةٍ قليلة ضمن المجتمع المحليّ، بطريقةٍ تصلُ في أغلب الأحيان إلى تحمّل المسؤولين عن المكتبة مسألة الخسارة الماديَّة وانهيار المعنويات، دونما سندٍ أو داعمٍ ماليّ أو حتَّى معنويّ. فالكتب تمرُّ بمراحل كثيرة ومُعقَّدة إلى أن تصل من تركيا أو لبنان أو من باقي الدول العربيَّة. ثمّة مُخلّصون جمركيّون يتعاملون مع الكتاب كبضاعةٍ مثلها مثل أيّة بضاعةٍ أخرى وافِدة إلى المكان، هناك موافقاتٌ يستوجب أن يتحصَّلوا عليها من الحكومات وحواجزها العسكريَّة وحدودها التي تمنع كلَّ شيء بذريعة أنَّ الدولة التي سيصل إليها الكتاب في حال حرب!

من جانبٍ آخر لا شكّ أنَّ الترويج من الأمور الهامَّة في سياق تحفيز المُتابعين بهدف الإقبال على الشراء وحيازة الكتب، وهذا ما فعلته "بِنداروك"، حيث توفِّرُ كلَّ يوم رسائل نصيَّة تصل إلى الهواتف المحمولة مُتضمّنةً صوَراً لعناوين الكتب الواصلة حديثاً مع إمكانية الردّ طوال اليوم على استفسارات المُتابعين. كما أنَّ محاولاتٍ حثيثة تجري على قَدمٍ وساقٍ لإنشاء إعلاناتٍ تلفزيونيَّة مُحفِّزة، إضافةً إلى نشاطاتٍ ثقافيَّةٍ ضمن المكتبة نفسها.

وعن توسيع المشروع والاتصالات مع دور النشر المختلفة يقول شيخو "اقتربت فعاليات معرض القامشلي السنويّ للكتاب، وهذا المعرض يُعتَبر رهاناً بالنسبة لبنداروك. قمنا بتأمين وجود ما يقارب 6 دور نشر تركيَّة-كرديَّة في المعرض وبأسمائها الصريحة وعناوينها بعد أن لعبت المكتبة دور الوسيط بين دور النشر تلك وهيئة الثقافة في "الإدارة الذاتيَّة" لجَلْبِ الكتب ومشاركتها في المعرض وبإدارتنا الشخصيَّة، هذا يُعتَبر إنجازاً بالطبع، التكاليف باهِظة ولا أحد من دور النشر مُهتمّ بالمجيء، سوف نعرض نحو ألفي عنوان باللغات المختلفة ولمختلف دور النشر وسنرى الأمر"، مُضيفاً: "حاولنا قَدْرَ الإمكان ضمن المعارض المُتنقلّة للكتاب في المنطقة تخصيص حسوماتٍ للطلبة والمُهتمّين الحقيقيين، على الرغم من ذلك بقيت المبيعات كما هي مُنخفِضة! حتَّى أنّنا نفكّر الآن في تخصيص حوالى 200 عنوان يتمّ تقديمها كهدايا لزوّار المعرض المقبل، بهدف التشجيع على ثقافة القراءة واقتناء الكتاب".

في هذا الشأن يقول القاصّ والصحافي عباس علي موسى وهو من مؤسِّسي المكتبة للميادين الثقافية إنّ: "بنداروك مشروع مكتبة، ولكن آفاقنا أوسع من مُجرَّد مكتبة، في الوقت الحالي نعمل على جعلها صالوناً ثقافيَّاً، لكن المكان يضيق أحياناً على آمالنا المُتعلّقة بمشروع الصناعة الثقافيَّة"، مُضيفاً "نطمح في المستقبل القريب أن نتَّخذ مكاناً أوسع ليكون بالفعل صالوناً أدبياً قابلاً لاحتضان مُناقشاتٍ واسعةٍ لمُنتدياتٍ حول شتّى الموضوعات الثقافية وطرحها، وإقامة أمسيات ربمّا، والعمل بشكلٍ عامٍ في الشأن الثقافي"، مُختتماً حديثه "نودُّ أن نجعل المكتبة مكاناً أكثر مُلاءمةً للقراءة، ونعمل على الترويج للكتاب بشتّى الوسائل الحديثة، كما أن ثمة خطوات مُرافِقة، كسعينا لإنشاء دار نشر سنعلن عنها قريباً، عموماً هي مشاريع مُرتبطة ببعضها الآخر".

يُقبِلُ الزوّار المُهتمّون، منهم مَن يبتاع فعلاً حسب ميزانيَّته الشهريّة واهتماماته الفكريَّة أو الأدبيَّة أو غيرها، فيما يتفرَّجُ آخرون على الأغلفةِ والعناوين، يقول أحدهم: "حتّى وإن لم يقتنِ أحد الموجودين كتاباً، فثقافة التفرُّج على الكتب ستؤدّي بطبيعة الحال إلى الاعتياد ومن ثمّ محاولة تعلُّم الاقتناء، المسألة تحتاج إلى وقتٍ فحسب".

 

ترحب الصفحة الثقافية في الميادين نت بمساهماتكم بنصوص وقصص قصيرة وشعر ونثر، وكذلك المقالات والتحقيقات التي تتناول قضايا ثقافية. بإمكانكم مراسلتنا على: [email protected]