فندق بارون: شرفة على قرن من تاريخ سوريا

استضاف أهم الشخصيات العربية والغربية، من بينها الرئيسان الراحلان حافظ الأسد وجمال عبد الناصر، وصيغت فيه مسودة أول دستور سوري.. إليكم قصة "فندق بارون" في حلب.

  • فندق بارون: شرفة على قرن من تاريخ سوريا
    الرئيس الراحل حافظ الأسد

إلى الشمال من "متحف حلب"، يشدّك مبنى مازَج فنه المعماري بين العمارة العربية الإسلامية وبين فن العمارة الفرنسية. في "شارع بارون" وسط حلب، يَمْثل أمامك "فندق بارون"، الذي حصل على إسمه من الشارع المُقام فيه منذ أكثر من قرن.

فندق عاصَرَ الحربين العالميّتين وشهدت أروقته على أهمّ الأحداث السياسية في سوريا، بدءاً برحيل العثمانيين وصولاً إلى العقد التاسع من القرن الماضي، ما جعل منه شاهداً على حقبة تاريخية هي الأهمّ في تاريخ سوريا.

في ستينيات القرن الماضي كان "فندق بارون" الفندق الوحيد في حلب الذي صُنِّف فندق خمس نجوم، الأمر الذي يُبرِّر تحوّله حينها إلى مقصدٍ لكبار الشخصيات.

في صالة الاستقبال تواجهك صورة لفاتورة توماس إدوارد لورنس المُلقّب بــ "لورنس العرب"، وقد حرص أصحاب الفندق على إبرازها ردّاً على ما أُشيع عن تهرّب ضيفهم من دفع فاتورة إقامته.

تُسارع السيّدة السبعينية روبينا تاشجيان مظلوميان لتقدِّم شرحاً عن تاريخ الفندق، وهي إحدى الوريثات وزوجة آخر مالكي الفندق آرمين مظلوميان المُتوفّى عام 2016.

  • فندق بارون: شرفة على قرن من تاريخ سوريا
  • فندق بارون: شرفة على قرن من تاريخ سوريا

لا يفوت مظلوميان في حديثها مع الميادين الثقافية أن تقدم شرحاً مفصّلاً عن إرث تراه فخراً لعائلتها. 

تقول مظلوميان إن فكرة تأسيس الفندق تعود إلى العام 1862، لصاحبها كريكور مظلوميان الذي جاء من أرمينيا الغربية مُتوجِّهاً إلى القدس الشريف. وحين وصل إلى حلب لم يجد فيها فندقاً فأقام في أحد الخانات، ما دفعه إلى العمل على بناء فندق أسماه (فندق أرارات) في حيّ الجلوم.

على خُطى والدهما، عمل كل من آرمين وأونيك مظلوميان على بناء فندقين صغيرين هما "عزيزية بلاس" و "بارك أوتيل".

ومع عزم الإمبراطورية الألمانية وصل بغداد ببرلين عبر سكة حديدية تمر من حلب، قرَّر الأخوان مظلوميان بناء فندق كبير يُلبّي الحركة المُتوقّعة في المدينة ويخدم الوافدين إليها من أوروبا، وقد حرصا على أن يُحاكي الحضارة الأوروبية. هكذا استقدما المهندس المعماري الفرنسي كاسبار نافيلين "KasparNafilian"، وشاركه في العمل مهندسون من حلب ليُراعي البناء فن العمارة في الشرق والغرب. 

  • الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مستقبلاً الوفود المهنئة بالوحدة
    الرئيس الراحل جمال عبد الناصر مستقبلاً الوفود المهنئة بالوحدة

انتهى العمل في الفندق عام 1911 قبل الحرب العالمية الأولى، وتألّف من الطابقين الأول والثاني وكان مُكوّناً من 31 غرفة وحمّامين. كان ذلك قبل افتتاح محطة القطار في حلب "محطة بغداد".

أما الطابق الثالث فمؤلّف من 17 غرفة مع حمّام لكل منها. استورد لبنائه مواد أولية من مصر وإيطاليا والخشب اللبناني.

دخلنا بصحبة السيّدة روبينا إلى الغرفة رقم 203. في هذه الغرفة أقامت الكاتبة البريطانية الشهيرة أغاثا كريستي، خلال زيارتها حلب عام 1934 مع زوجها عالِم الآثار ماكس فالوين.

تفصح السيدة مظلوميان أن كريستي استمدت من هذا المكان فكرة روايتها "جريمة في فندق"، وأنجزت بعضاً من فصول روايتها الشهيرة "جريمة في قطار الشرق السريع".

  • لائحة أسعار قديمة لتكاليف الإقامة في
    لائحة أسعار قديمة لتكاليف الإقامة في "فندق بارون"

حرص مالكو الفندق في الحفاظ على المكتب الخشبي المُغطّى بلوحٍ زجاجي قُبالة خزانة قديمة ذات مرآة مصقولة، كانتا لكريستي. تلك التي عند تنظر إليها فيجتاح خيالك ظلّ هذه الكاتبة وهي تخطّ أعمالها الخالدة في الذاكرة.

إلى جوار غرفة أغاثا كريستي تقوم غرفة أحد أشهر الضبّاط الإنكليز في الحرب العالمية الأولى. في الغرفة 202 أقام الضابط البريطاني لورنس إدوارد توماس المُلقَّب ب"لورنس العرب"، والذي لعب دوراً في تغيير أحداث الشرق الأوسط في بدايات القرن الماضي. ما زالت الغرفة تحتفظ بآثاره ومنها صورته المُعلَّقة على أحد جدرانها وهو يعتمر الكوفية العربية.

  • فندق بارون: شرفة على قرن من تاريخ سوريا
    فاتورة إقامة "لورنس العرب"

أما في الجناح المَلَكي، فقد حرصت السيّدة روبينا، على إطلاع الميادين الثقافية على محتوياته وخاصة أرشيفه من الصور. فمن على شُرفة هذا الجناح، ألقى الملك فيصل خطاب الاستقلال بعد الثورة العربية الكُبرى، مُستعرضاً القوات العربية في أول استعراض عسكري عربي في العام 1918.

ويكشف لنا الأرشيف أن أول دستور سوري خطّت مسودّته في فندق بارون، حيث تجمع الصور رجالات السياسة السورية في العام 1931 والذين شاركوا في كتابة المسودّة أبرزهم: سعد الله الجابري، إبراهيم هنانو، عبد السلام عارف، فارس الخوري، يوسف العظمة. 

وكما غرفة لورانس وكريستي حافظت إدارة الفندق على الجناح المَلَكي وتفاصيله. تفكّر للحظات بأنك ربما تجلس الآن على كرسي الزعيم العربي الراحل الرئيس جمال عبد الناصر، الذي حلّ ضيفاً على الفندق بعد قيام الجمهورية العربية المتّحدة في أول زيارة له إلى حلب عام 1958، حيث وقف مُخاطباً الجماهير في المدينة من الشرفة نفسها التي وقف عندها الملك فيصل قبله بأربعين عاماً. 

  • فندق بارون
    فندق بارون
  • فندق بارون
    فندق بارون

في أروقة الجناح نفسه خطّ الرئيس الراحل حافظ الأسد خيوط إدارته لشمال سوريا، تاركاً توقيعه بالحبر الأزرق على دفتر ذكريات الفندق. 

وما بين سجّل الزوّار والفن المعماري ستجد نفسك وقد أمضيت ساعات محاولاً تخيّل تفاصيل تاريخ سوريا الحديث، ومَن مرّ على مدينة حلب من شخصياتٍ وقياداتٍ عالمية. ومن الأسماء التي ستطالعها تلك التي تعود لشخصيات أدبية وعلمية وتاريخية نذكر منها: روبرت برايتورد، وباولو ماتتيه، وهيلغا سيدن، وشارل آزنافول.

  • آغاثا كريستي كانت من نزلاء الفندق
    آغاثا كريستي كانت من نزلاء الفندق
  • فندق بارون: شرفة على قرن من تاريخ سوريا
    فندق بارون: شرفة على قرن من تاريخ سوريا

أما السياسيين العسكريين فمنهم: جمال باشا، مصطفى كمال آتاتورك، شاه إيران رضا شاه، زعيم الجمهورية الفرنسية شارل ديغول الذي ألقى خطبته من على شُرفة الفندق المُطلّة على شارع بارون، وأقام فيه مأدبة عام 1941، ثم رئيس دولة موريتانيا مختار ولْد دادا، والشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رئيس دولة الإمارات، وأمير اليونان بيتر، وملك السويد وأسرته الذي زار حلب عام 1936 ونام في الجناح المذكور.

  • رسالة الشيخ زايد
    رسالة الراحل الشيخ زايد آل نهيان 

الجناح الملكي استضاف أيضاً أول رائد فضاء روسي يوري غاغارين، ومن بعده أول رائدة فضاء روسية فالنتينا تيرشكوفا، ثم الملياردير الأميركي دايفيد روكفلر، والكاتب الأميركي وليام ساوريان، والكاتبة الإنكليزية فراي استارك، والأميرة إليس، والطيّار الأميركي إيمي جونسون، وشخصيات عديدة يصعب تعدادها.

  • فندق بارون
    فندق بارون
  • <img src="https://media.almayadeen.net/archive/image/2021/7/29/3b0a358d-00d8-4e9e-affa-ef62099d979d.jpg" data-src="https://media.almayadeen.net/archive/image/2021/7/29/3b0a358d-00d8-4e9e-affa-ef62099d979d.jpg" data-ratio="-1" class="optimal editormedia" data-id="8bea2c97-f052-11eb-80d4-00505601c6a2" data-replace="true" alt="أعضاء الكتلة الوطنية في " فندق="" بارون"="" "="">
    أعضاء الكتلة الوطنية في "فندق بارون"

تغلق السيدة روبينا سجّل الضيوف وتشعر كأنها مُستسلمة لمشيئة القدر. فالفندق الذي شكّل نقطة استقطاب ومحطة يقصدها الكبار، أنهكته الحرب، وبات اليوم مقصداً لمَن يبحث عن معرفة ما تخفيه أبنية وحجارة هذه المدينة العريقة من أسرار وحكايات تبدأ من القلعة ولا تنتهي بفندق بارون.