محمد شكري.. الأمّي الذي لعن كل الآباء!

"أقول: يخرج الحي من الميت (...) يخرجه من بطون الجائعين، ومن صلب المتعيّشين على الخبز الحافي".. من هو محمد شكري؟ وهل كان أمياً فعلاً؟

  • محمد شكري.. الأمّي الجائع الذي مدّ الآخرون يدهم إلى

قبل حوالي عقدَين، فاجأني صديق لم يكمل تعليمه إذ غادر منزل والديه في الجنوب اللبناني مبكراً وانتقل إلى بيروت حيث انصرف إلى العمل في سن صغيرة جدّاً، ولم أعرف له سابقاً أية علاقة بالقراءة أو اهتمام بالأدب، بإلحاحه أن أقرأ "الخبز الحافي" لـــــ  محمد شكري (1935 – 2003)!                                        

وإذ لم يلمس مني تجاوباً سريعاً بادر إلى إحضار الرواية كي لا أضيع المزيد من الوقت على نفسي. لاحقاً سيشرح لي صديقي حكايته مع الرواية، وكيف كانت ورفيقاتها مجرَّد مقاعد يرتاح عليها من عناء عمله في شركة لتوزيع الصحف والمجلات والكتب، قبل أن يكتشف أنّ للكتب مآرب أخرى وأنها قد تساعده في تزجية أوقات الفراغ والراحة بصورة ممتعة ومسلية ومفيدة، وأنّه وقع أولاً على سيرة شكري الذاتيَّة "الخبز الحافي" فاكتشف أنَّ "شيئاً ما" يجمعه بكاتبها: كلاهما أتى إلى هذا العالم من مكان بعيد فألفاه جميلاً ووجد نفسه فيه أكثر من أي مكان آخر.                                                      

 زبل النصارى وزبل المسلمين!

  • محمد شكري
    محمد شكري

الرواية تحكي مأساة إنسان عاش حتى سنّ العشرين أميّاً ومعدماً، فجرفه البؤس إلى عالم العنف في بيئة مسحوقة تئنّ تحت وطأة الاستعمار وتعاني من انتشار الفقر والجوع والجهل والأوبئة، ليصبح أقصى طموحه هو أن يقتات من مزابل الأوروبيين الغنيَّة لا من مزابل المغاربة الفقيرة "زبل النصارى أحسن من زبل المسلمين" (ص 10)، ويزيد من معاناته ظلم وقسوة أبيه "الوحش" الذي يتعاطى السعوط، ويسب العالم دائماً ويجدف على الله أحياناً ويضرب زوجته وجروَيها حتى يقتل أحدهما (شقيق الراوي عبد القادر)، لتؤدّي هذه الأسباب مجتمعة إلى تدميره روحياً وقيمياً وأخلاقياً، وتدفعه إلى العيش مع أفراد وجماعات منحرفة وممارسة كل الموبقات والرفض لنظام الأسرة التقليدي الذي يتموضع الأب في قمّته.    

قل كلمتك قبل أن تموت فإنّها ستعرف، حتماً، طريقها.. لا يهمّ ما ستؤول إليه. الأهمّ هو أن تشعل عاطفةً أو حزناً أو نزوة غافية.. أن تشعل لهيباً في المناطق اليباب الموات. فيا أيها الليليون والنهاريون.. أيها المتشائمون والمتفائلون.. أيها المتمرّدون.. أيها المراهقون.. أيها العقلاء.. لا تنسوا.. لا تنسوا أن لعبة الزمن أقوى منا، لعبة مميتة، لا يمكن أن نواجهها إلا بأن نعيش الموت السابق لموتنا بإماتتنا أن نرقص على حبال المخاطرة نشداناً للحياة، أقول: يخرج الحي من الميت، يخرج الحي من النتن والمتحلل، يخرجه من المثخن والمنهار، يخرجه من بطون الجائعين ومن صلب المتعيّشين على الخبز الحافي.

 

محمد شكري، من مقدّمة روايته "الخبز الحافي".                               

يهرب محمد بطل الراوية من الريف إلى طنجة، حيث الأجانب والدعارة والحشيش، ويعيش في العالم السفلي مطارداً النساء طوال حياته، حتى يمتهن البغاء بنفسه فيقود الجنود الأميركيين إلى المواخير ويبيعهم السجائر والحشيش.

كتب محمد شكري "الخبز الحافي" بطلب من صديقه الأميركي بول بولز الذي تولى ترجمتها إلى الإنكليزيَّة قبل أن يترجمها الروائي المغربي الطاهر بن جلون إلى الفرنسيّة، وقد أثارت ضجّة عند صدور نسختها العربيَّة التي تأخرت 10 سنوات، ومُنِعَت في عدد من الدول العربيَّة، إذ اعتبرها منتقدوها جريئة إلى حدّ لا يتوافق مع تقاليد المجتمعات العربيَّة.

الأديب الأمّي!                                                   

  • محمد شكري
    محمد شكري

"الخبز الحافي" هي الجزء الأوَّل من سيرة محمد شكري الذاتيَّة. هو أمّي إذاً كما بطل الرواية، فكيف لأمّي أن يكتب الروايات؟                                                                                                       

لم يكن محمد شكري الوحيد الذي أتى من حياة الأمية ليدخل عالم الأدب من أوسع أبوابه، فمثله كان حنا مينا في الفقر والجوع والأمية، قبل أن تقوده قراءة قصاصات الصحف وكتابة العرائض للحكومة إلى مصاف الكتّاب الأغزر انتاجاً والأكثر براعةً على مستوى الوطن العربي.                                                

اللعنة على كل الآباء!

  • الطاهر بن جلون
    الطاهر بن جلون

ومثل حنا مينا، الذي يمكن اعتبار ثلاثيّته (بقايا صُوَر – المستنقع – القطاف) سيرته الذاتية وروايته الأخيرة "أشياء من ذكريات طفولتي" تتمةً لها، ترك لنا محمد شكري سيرته الذاتية في 3 روايات: "الخبز الحافي" و"زمن الأخطاء" و"وجوه".

وكما تظهر نقمة مينا على والده جليةً مقابل عاطفة غير محدودة تجاه الأم وذكراها، فإنَّ شكري الذي يقول على لسان بطله "اللعنة على كل الآباء إذا كانوا مثل أبي"، و"أكره الناس الذين يشبهون أبي"، حرص على قطع كل صلة له بالعائلة بعد وفاة والدته مطلع ثمانينيات القرن الماضي.    

كتب محمد شكري "الخبز الحافي" بطلب من صديقه الأميركي بول بولز الذي تولى ترجمتها إلى الإنكليزيَّة قبل أن يترجمها الطاهر بن جلون إلى الفرنسيّة، وقد أثارت ضجّة عند صدور نسختها العربيَّة التي تأخرت 10 سنوات، ومُنِعَت في عدد من الدول العربيَّة، إذ اعتبرها منتقدوها جريئة إلى حدّ لا يتوافق مع تقاليد المجتمعات العربيَّة.

وتبدو نقمة الراوي على والده مفهومة بالنظر إلى ما كابدته العائلة من ظلم على يد الأب العاطل من العمل والمتفرغ لضرب زوجته وأبنائه وقتل أحدهم، فضلاً عن استغلالهم وإنفاق ما يحصلون عليه في عملهم من أجور متواضعة على ملذاته ونزواته.                                                                                

المفارقة أنَّ محمد "الراوي" عانى من الاستغلال في كل مكان ذهب إليه أو عمل فيه، من المقهى إلى معمل الآجر فمَعمل الفخار وصولاً إلى التهريب، وأنَّ محمد "الروائي" لم ينجُ من الاستغلال حتى بعد انقضاء رحلة الشظف والجوع!             

فهذا بن جلون يقول في حديث لـمجلة "العربي" الكويتية عام 2012، إنَّ بول بولز استغل شكري ماديّاً ومعنويّاً بعد أن نشر سيرته الذاتيَّة باللغة الإنكليزيَّة (قال بن جلون في مناسبات أخرى إنَّ شكري لم يكتب "الخبز الحافي" بل أملاها على بولز ووصفه بـ "متسوّل كؤوس الخمر")، وأنه بعد أن عرفه إلى شكري صديقهما المشترك الروائي المغربي محمد برادة وبعد أن رأى هذا الاستغلال بحقه والإهمال الذي تتعامل به معه الصحافة المحليَّة في المغرب، قام بما يمليه عليه واجبه كصديق فترجم الرواية إلى الفرنسيَّة!                  

محمد شكري صار كاتباً عالمياً رغم أنف أستاذه، وواحداً من رموز الأدب العربي رغم أنف الصرف والإملاء وقواعد النحو، على ما يقوله الشاعر المغربي ياسين عدنان تعليقاً على رواية العشّاب الذي وصل إلى حدّ التشكيك في كون "آخر شطّار طنجة" هو فعلاً كاتب "الخبز الحافي".                                                                              

ولا ينكر بن جلون – الذي اتهمه شكري بالانتهازيَّة والاستشراق والتبعيَّة للغرب والكتابة التجاريَّة والتلاعب بمشاعر أفقر القرّاء ذهنياً - أنَّ علاقته مع شكري شابها الكثير من الجذب والشدّ مرجّحاً أن تكون عدوانيّته سمة مشتركة في تعامله مع الجميع، معيداً ذلك إلى ما عاشه في طفولته من بؤس وفقر وجوع لم يستطع تجاوزها البتة. 

 "وردٌ ورماد": مراسلات شكري وبرادة تخرج إلى العلن

  • شكري ومحمد برادة
    شكري ومحمد برادة

حكاية الصداقة الطويلة التي جمعت برادة وشكري خرجت إلى النور على يد برادة الذي جمع مراسلاته مع شكري في كتاب حمل عنوان "وردٌ ورماد" (دار المناهل، الرباط – 2000). وتشي المراسلات بخصوصيَّة العلاقة بينهما وحميميّتها وتكشف الكثير عن شخصيَّة شكري وحياته، وعن تحوّلات الأدب المغربي الحديث، وصولاً إلى هجومه على بن جلون نفسه!                                                                            

يؤكّد شكري لبرادة في إحدى رسائله أنَّه لم يكن ليكتب سيرته لولا بول بولز، وفي رواية أخرى يخبره أنّه فكّر في الانتحار عدَّة مرَّات خلال أسبوع، وفي رسالة من برادة إلى شكري يخبره عن إشرافه على طباعة الكتاب لحظة بلحظة ويطلب منه كتابة كلمة موجزة وساخرة في تقديمه: "سيرتك العطرة في طريقها إلى التلاميذ والشباب والكهول لتنقل لهم صورة عن حياة الأغلبيَّة ممن يحاذونهم ولا يلتفتون إلى بؤسهم أو وحدتهم وحرمانهم"، قبل أن يشرح له في رسالة أخرى أسباب منع الكتاب المرتبطة باحتجاج جمعيَّة الآباء في بعض المدن المغربية لأنَّهم وجدوا أبناءهم (في الثانية والثالثة عشرة) يقرأونه من دون مراعاة السنّ.

 قنبلة حسن العشّاب: هل كان شكري أميّاً فعلاً؟

وإذا كان نشر برادة للمراسلات منسَّقاً مع شكري، وقد حصل في حياته، ولا يمكن بالتالي اعتباره استغلالاً للرجل أو مقارنته بما فعلته غادة السمّان مع غسان كنفاني وآخرين، فإنَّ هذا لا يعني أنَّ مسلسل استغلال شكري قد توقف عند محطة بول بولز (بحسب رواية بن جلون، أمَّا شكري فيعتبر بولز رجلاً نبيلاً في إخلاصه للأدب).

فبعد وفاة شكري بثلاث سنوات، أي في العام 2006، خرج صديقه ومعلمه الأوَّل حسن العشّاب ليحطم الأسطورة التي بناها الرجل لنفسه. هكذا وجد الأستاذ المتقاعد الذي عاش عمره بعيداً من الأضواء أنَّ الوقت حان للخروج من سباته الطويل ليمطر الصحافة المغربيَّة بتصريح يقول فيه إنَّ شكري لم يظل أميّاً حتى سنّ العشرين كما أشاع بغرض إثارة الانتباه حول نفسه، بل تعلم على يده القراءة والكتابة في سن الحادية عشرة، وإنَّه عندما كان يثير معه هذا الموضوع كان يجيب بأنَّ الكتب التي تتناول حياة أصحابها تعتمد المبالغة وبعض الكذب من أجل التشويق!

ويزعم العشّاب أنَّه بعد تعليمه الطفل محمد حدو التمتماني (الإسم الحقيقي لشكري) الحروف الهجائيَّة وبعض السور القرآنيَّة والأحاديث بناءً على طلبه، توسَّط له لدى مدير مدرسة العرائش ليسجّله مباشرة في الصف الخامس الابتدائي رغم سنّه المتقدّمة، حيث وجد صعوبة في التأقلم فظل يساعده بالدروس الإضافيَّة، ورغم ذلك فقد ظلّ مستواه متواضعاً ولم يتمكّن من إجادة اللغة العربيَّة وكانت كتاباته ملأى بالهفوات والأخطاء اللغويَّة والإملائيَّة، وأنَّه سانده أيضًا في رحلة الكتابة.

وحين سأله شكري "كيف لي أن أنشر كتاباً وأنا أعيش فقط بالخبز الحافي؟" أجابه بأنَّ الخبز الحافي الذي يحكي عنه ينبغي أن يكون عنواناً لكتابه! أمَّا الإسم الذي سيُعرف به لاحقاً قد اختاره صاحب "مجنون الورد" بنفسه تيمناً بأستاذ الرياضيات عبد العزيز شكري الذي كان شغوفاً بحصصه في المعهد الثانوي في العرائش.

وبصرف النظر عن مدى صدقيَّة رواية العشّاب، فإنَّ محمد حدو التمتماني المعروف بمحمد شكري صار كاتباً عالمياً رغم أنف أستاذه، وواحداً من رموز الأدب العربي رغم أنف الصرف والإملاء وقواعد النحو، على ما يقوله الشاعر المغربي ياسين عدنان تعليقاً على رواية العشّاب الذي وصل إلى حدّ التشكيك في كون "آخر شطّار طنجة" هو فعلاً كاتب "الخبز الحافي".                                                                              

المصادر

1 ـ "الخبز الحافي" – محمد شكري – دار الساقي – بيروت - 2006.

2 ـ "وردٌ ورماد" – محمد برادة ومحمد شكري - دار المناهل – الرباط – 2000.

3 ـ "الطاهر بن جلون: ترجمتُ الخبز الحافي إنقاذاً لشكري من استغلاله معنوياً" – ابراهيم فرغلي – مجلة العربي – العدد 640 – آذار 2012                                                                  

4 ـ "محمد شكري.. ذلك المتوحد بنفسه" – حسونة المصباحي – الأخبار – العدد 994 - الجمعة 11 كانون الأول 2009.        

5 ـ "محمد شكري يواصل مقالبه.. من الآخرة!" – ياسين عدنان - الأخبار – العدد 33 - الأربعاء 20 أيلول 2006.                 

6 ـ "بعبع محمد شكري.. لماذا يخيفهم شرقاً وغرباً؟" – أيوب المزين – المدن – الأحد 1 تشرين الأوَّل 2017.