شاشات مضيئة وضغوط يومية.. ما تأثيرها على الذاكرة؟

بين شاشات مضيئة لا تنطفئ وضغوط اقتصادية تخنق الأحلام، يتراجع الدماغ الشاب قبل أوانه. تكشف الدراسات عن جيلٍ ينسى مبكراً ويفكّر ببطء، ما يضع الإنسانية أمام سؤالٍ وجودي: هل نحن نشهد أول أزمة معرفية كبرى في عصر الشاشات الرقمية؟

0:00
  • شاشات مضيئة وضغوط يومية.. ما تأثيرها على الذاكرة؟ (Мухаммад Ахмед Юсеф)
    ما تأثير ما يدور حولنا على الذاكرة؟ (Мухаммад Ахмед Юсеф)

في عصرٍ تُقاس فيه معدلات النمو بمؤشرات الاقتصاد لا بمستوى الوعي، يواجه جيل الشباب اليوم أزمة صامتة لا تقلّ خطورة عن أيّ وباء عالمي. فخلال العقد الأخير، ارتفعت مشكلات الذاكرة والتفكير والتركيز بين البالغين دون الأربعين بنسبة تقارب الضعف.

ووفق دراسات حديثة نشرتها مجلات علمية مثل Neurology وScience Daily. هذه الأرقام لا تعني مجرّد تراجعٍ فردي في القدرات الإدراكية، بل تشير إلى تحوّل بنيوي في صحة الدماغ البشرية، له أبعاد اجتماعية واقتصادية وثقافية متشابكة، وتداعيات قد تمتد لعقود مقبلة.

من ظاهرة طبية إلى قضية بنيوية

ما يجري لا يمكن اختزاله في زيادة عرضية لحالات "النسيان" أو "الشرود الذهني". فالدراسة التي أُجريت على أكثر من 4.5 ملايبن شخص في الولايات المتحدة أظهرت أنّ معدلات الإعاقة المعرفية المبلّغ عنها ذاتياً قفزت من 5.3% إلى 7.4% بين عامي 2013 و2023، مع تضاعف النسبة تقريباً بين الشباب تحت الأربعين — من 5.1% إلى 9.7%.

وهذه الأرقام تأتي في وقتٍ يفترض فيه أن تكون القدرات الذهنية للشباب في ذروتها. إلا أنّ الواقع يكشف عن اتجاهٍ مقلق: جيل بأكمله يفقد توازنه المعرفي باكراً، في ظلّ ضغوط اقتصادية واجتماعية ونفسية غير مسبوقة.

الفقر كعامل بيولوجي

يؤكّد التحليل الاجتماعي الصحي أنّ الفقر ليس مجرّد ظرف معيشي، بل بيئة بيولوجية مدمّرة. فالأشخاص الذين يقلّ دخلهم السنوي عن 35 ألف دولار هم أكثر عرضة بثلاثة أضعاف للإصابة بمشكلات في الذاكرة والتركيز مقارنة بأصحاب الدخل المرتفع!

وارتفعت هذه المعدلات من 8.8% إلى 12.6% خلال 10 سنوات، بينما بقيت أدنى لدى من يتجاوز دخلهم 75 ألف دولار (من 1.8% إلى 3.9%).

وهذه الفجوة ليست رقمية فقط، بل هي خريطة فسيولوجية للفوارق الطبقية: فالتوتر المزمن، وسوء التغذية، وانعدام الأمان المهني، والتعرّض الدائم للضغوط الاقتصادية — كلّها عوامل تؤثّر مباشرة في كيمياء الدماغ ووظائف الذاكرة.

الدراسات العصبية الحديثة تُظهر أنّ الإجهاد الاقتصادي المستمر يُحدث تغييرات في حجم المادة الرمادية في الفصّ الجبهي للدماغ، وهو الجزء المسؤول عن اتخاذ القرار والتفكير المنطقي وضبط الانفعال. أي أنّ الفقر لا يضعف فقط فرص التعليم والعمل، بل يعيد برمجة الدماغ نفسه في اتجاهٍ أقل قدرة على التركيز وأكثر عرضة للإنهاك العقلي.

التعليم… حماية عصبية

التعليم ليس مجرّد وسيلة للترقي الاجتماعي، بل هو عامل وقائي ضدّ التدهور المعرفي.

الأرقام التي أوردتها الدراسة تؤكّد أنّ معدلات مشكلات الذاكرة ارتفعت بين من لم يُكملوا المرحلة الثانوية من 11.1% إلى 14.3%. هذا يعني أنّ التعليم لا يُكسب المعرفة فحسب، بل يوفّر ما يمكن تسميته بـ"اللياقة العصبية"، أي تدريب الدماغ على معالجة المعلومات، وتوسيع الشبكات العصبية المسؤولة عن الإدراك.

وعلى العكس، فإنّ ضعف التعليم يعني تضاؤل التعرّض للتحدّيات الذهنية، ما يسرّع من تراجع الذاكرة في مرحلة مبكرة. وفي منظور الصحة العامّة، يصبح التعليم هنا تلقيحاً معرفياً ضدّ الشيخوخة الذهنية، بقدر ما يكون الاستثمار في المدارس والجامعات استثماراً في صحة الدماغ الوطنية.

جيل الشاشة المرهق

إلى جانب العوامل الاقتصادية والتعليمية، هناك متغيّر حديث لم يكن حاضراً في العقود السابقة: هو الاعتماد المفرط على التكنولوجيا.

جيل الشباب اليوم يعيش في بيئة رقمية متخمة بالمحفّزات البصرية والمعلومات المتسارعة. الهواتف الذكية، الإعلام الاجتماعي، العمل عن بُعد، كلّها أدوات تحوّلت من وسائل إنتاج إلى مصادر استنزاف معرفي.

الدراسات العصبية تشير إلى أنّ الإفراط في التنقّل بين المهام الرقمية (multitasking) يقلل من قدرة الدماغ على الاحتفاظ بالمعلومات طويلة الأمد، ويزيد من معدلات التشتت الذهني.

بكلمات أخرى، نحن ننتج جيلاً يتذكّر كلّ شيء لحظياً، وينسى كلّ شيء سريعاً.

ذاكرة تُستعاد بالموسيقى

في مقابل هذا المشهد القاتم، تبرز دراسات أخرى — مثل تلك التي أُجريت في جامعة موناش الأسترالية — لتقدّم بصيص أمل علمي: الموسيقى.

فقد وجدت الدراسة أنّ كبار السن الذين يستمعون أو يعزفون الموسيقى بانتظام يقل لديهم خطر الإصابة بالخرف بنسبة تصل إلى 40%. وبينما ركّزت الدراسة على من تجاوزوا السبعين، إلا أنّ نتائجها تفتح الباب أمام فهم جديد: أنّ التحفيز الموسيقي المنتظم يمكن أن يكون تدريباً معرفياً وقائياً.

الموسيقى هنا ليست ترفاً فنياً، بل تغذية عصبية، تُعيد تنشيط الذاكرة العرضية والقدرات الإدراكية العامة، وربما تكون مفتاحاً جديداً لحماية دماغ الشباب قبل فوات الأوان.

حين يصبح الدماغ ضحية 

لا يمكن فهم هذه الظواهر بمعزل عن البنية المؤسسية للصحة العامة. فالأنظمة الصحية في كثير من الدول — بما فيها الولايات المتحدة — لا تزال تركّز على علاج الأعراض لا المسبّبات.

في حين أنّ أزمة الذاكرة لدى الشباب ليست مرضاً واحداً يمكن وصف دواءٍ له، بل نتاج منظومة كاملة من الضغوط الاجتماعية، والتفاوت الاقتصادي، ونمط الحياة الرقمي، وتدهور جودة النوم والغذاء والتعليم. إنها باختصار، مشكلة حضارية في المقام الأول.

ولذلك، فإنّ التصدّي لها يتطلّب ثورة معرفية شاملة، لا في المختبرات فقط، بل في السياسات العامّة والتعليمية والاقتصادية.

على الحكومات والجامعات والمؤسسات البحثية أن تتعامل مع صحة الدماغ كقضية وطنية، لا كحقل طبي فرعي. فإذا كان القلب هو مركز الحياة، فإنّ الذاكرة هي مركز الهوية — وضياعها يعني فقدان الجيل لبوصلته الفكرية.

نحو ثورة معرفية جديدة

الثورة المطلوبة ليست شعاراً أكاديمياً، بل تحوّل في طريقة التفكير الصحي. ينبغي أن يُعاد تصميم سياسات الصحة العامة لتشمل مراقبة القدرات الإدراكية بوصفها مؤشراً أساسياً، مثل ضغط الدم أو معدل السكر.

كما يجب الاستثمار في برامج تعليمية ومجتمعية تُحفّز الدماغ، مثل تعلّم اللغات والموسيقى، والنشاط البدني المنتظم، والحد من العزلة الرقمية. وفي المستوى العلمي، على الباحثين الانتقال من دراسة "أمراض الدماغ" إلى دراسة بيئة الدماغ — أي كل ما يحيط بالإنسان من عوامل اقتصادية ونفسية وتكنولوجية تؤثر في قدراته الإدراكية.

إنّ التحدّي الحقيقي لا يكمن في إيجاد دواءٍ جديد، بل في إعادة التوازن بين الإنسان وبيئته المعرفية.

الذاكرة كمقياس لحضارة

إنّ ما تكشفه هذه الدراسات ليس مجرّد أزمة صحية، بل تحوّل ثقافي في بنية الوعي الإنساني. جيل اليوم لا يواجه فقط خطر النسيان الفردي، بل خطر فقدان الذاكرة الجماعية في مجتمعات باتت أكثر عزلة وأقل تأملاً. وإذا لم تُترجم هذه المعطيات إلى سياسات واستراتيجيات علمية جادّة، فإنّ العالم سيتجه نحو زمنٍ تكون فيه العقول شابة في العمر، لكنها هرمة في الإدراك.

لقد آن الأوان لإطلاق ثورة معرفية جديدة — ثورة تُعيد للدماغ قيمته كمورد وطني وإنساني، وتضع صحة التفكير في قلب مشروع التنمية.

اقرأ أيضاً: ما الفرق بين النسيان الطبيعي والخرف؟

فمن دون ذاكرة حيّة، لا مستقبل لأيّ أمة، مهما بلغت قوتها الاقتصادية أو التقنية.

اخترنا لك