وثائقي "Enigma" عبر الميادين: اشتراكية كوبا.. ومكائد واشنطن (الحلقة الثالثة)

الحلقة الثالثة من سلسلة "إنيغما" الوثائقية تسرد فترة ما بعد الثورة الكوبية، وتستعرض الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الثورية في كوبا، إلى جانب دور الولايات المتحدة في التحريض على الحكومة الثورية.

  • وثائقي
     إعلان الطابع الاشتراكي للثورة الكوبية كان خطوة حاسمة نحو توحيد جميع القوى السياسية

عُرضت اليوم الحلقة الثالثة من سلسلة "إنيغما" الوثائقية، التي تبثّ عبر الميادين، والتي تهدف إلى تعريف الشعوب العربية والإسلامية، عن الثورة الكوبية نشأتها ودورها، وعن أهم الشخصيات التي قادتها.

وسردت الحلقة الجديدة التي عُرضت عند الساعة التاسعة مساءً، فترة ما بعد الثورة الكوبية، واستعرضت الإجراءات التي اتخذتها الحكومة الثورية في كوبا، كما تحدثت عن دور الولايات المتحدة في التحريض وافتعال المؤامرات والمكائد ضد الحكومة الثورية.

في الثامن من كانون الثاني/ يناير من عام1959، وعَبْرَ هذا الطريق المعروف باسم ماليكون هافانا أو (كورنيش هافانا)، دخلت إلى العاصمة الكوبية قافلة الحرية بقيادة فيدل كاسترو. كانوا قد هزموا دكتاتورية فولهينسيو باتيستا الاستبدادية، وجاؤوا من الشرق، من جبال سييرامايسترا، حيث كانوا قد بدأوا قبل خمسة وعشرين شهراً المعركة الحاسمة لنيل النصر والسيادة الوطنية.

الحماس الشعبي العارم رافقهم على طول الطريق الممتد من الشرق إلى هافانا، ولكن هنا، في العاصمة، وصل هذا الحماس إلى ذروته، بل وصل إلى مستوى التمجيد.

بحلول ذلك الوقت، الحصون الرئيسية تحت سيطرة الديكتاتورية، كانت قد أصبحت تحت سيطرة السلطة الثورية. القائد تشي غيفارا كان قد سيطر على قلعة (لا كابانيا) أو (حصن المقصورة) والقائد كاميلو سيينفويغوس كان قد سيطر على معسكر ثكنة كولومبيا الذي كان يعتبر معقل الديكتاتورية في هافانا. إلى هناك ذهب فيدل وفي تلك الليلة، كان محاطاً ببحر من الناس الذين كانوا يهتفون له ومن حوله أيضاً الحمائم، دعا كل الشعب الكوبي إلى الوحدة، الوحدة من أجل ترسيخ النصر، كما حذّر أيضاً أنه اعتباراً من هذه اللحظة، ربما لن يكون هناك شيء سهل، وربما سيكون كل شيء أكثر صعوبة.

اعتباراً من عام 1959، بدأ مجمل التاريخ الكوبي يدور حول محور يفصل بين ما قبله وما بعده. منذ البداية اتخذت الحكومة الثورية إجراءات أحدثت فرقاً فيما يتعلق بالمرحلة السابقة، فما كان أمراً غير عادياً أصبح جزءاً من الحياة اليومية. التحولات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية تمت بشكل سريع، حيث خفضت الإيجارات وأسعار الكهرباء بنسبة 50% وتم تخفيض أسعار الأدوية وأقرالسماح للعامة باستخدام الشواطئ.

 ومع ذلك، فإنّ الإجراء الذي زلزل نظام الأمور القائم إلى ذلك الحين كان قانون الإصلاح الزراعي الأول الذي أقر في أيار/مايو من عام1959 والذي منح حق ملكية الأرض لمن يزرعها ويعمل بها وهكذا أكثر من مائة ألف عائلة من الفلاحين تحولت إلى عائلات مالكة لأراضيها.. وبدأت عملية تصحيح المظالم الكبرى المتراكمة على مدى عدة قرون. الولايات المتحدة بدأت بالتحريض على أولى المؤامرات والمكائد ضد الحكومة الثورية.

اقرأ أيضاً: وثائقي "Enigma" عبر الميادين: "26 يوليو".. كيف غيّرت وجه كوبا؟ (الحلقة الثانية)

مكائد واشنطن ضد هافانا

وقعت الإدارة الأميركية المرسوم الذي يفرض أول حظر على التجارة مع كوبا. اتخذ القرار بوقف جميع الصادرات إلى الجزيرة، باستثناء المواد الغذائية والأدوية، وبعد بضعة أشهر، في الثالث من كانون الثاني/يناير من عام 1961، تم قطع العلاقات الدبلوماسية وبعد بضعة أيام اتخذ القرار بفرض قيود على سفر المواطنين الأميركيين إلى الجزيرة. وبهذه الطريقة تم خلال إدارة أيزنهاور تفعيل العناصر الأساسية لما ستكون عليه سياسة الولايات المتحدة الأميركية تجاه كوبا حتى يومنا هذا.

الكثير من العناصر التي تزعزع هذه العلاقات الصعبة والمعقدة بين البلدين حتى الآن والتي لا تزال سارية المفعول، بدأت على وجه التحديد في تلك السنوات الأولى من ستينيات القرن الماضي.

العملية الثانية التي تميزت بطابعها اللاإنساني كانت عملية "بيتر بان" التي رُتِبتْ من قبل وكالة المخابرات المركزية ووزارة الخارجية الأميركية وقيادة الكنيسة الكاثوليكية في ميامي.

كل إجراءات التغيير في البلاد، ويعلم ذلك جيداً معلمو محو الأمية الذين قدموا شهداء في معركتهم تلك، كانت تتم في جو من المواجهة العنيفة، وفي الواقع كانت البلاد عرضةً للتهديد الإرهابي الدائم، حيث كانت تتكرر عمليات التخريب والتهديد بالغزو واختطاف الطائرات ومراكب الصيادين. 

في سلسلة جبال إسكامبراي في المنطقة الوسطى من كوبا، وفي محافظة لاس فيّياس القديمة... بالقرب من هنا تقع مدينة ترينيداد وهي أحد مواقع التراث العالمي. هنا في هذه المنطقة، عملت بعض أعنف العصابات المعادية للثورة بين عامي 1959 و1965. كانت حركة مناوئة للثورة تمولها وتسلحها وتديرها وكالة المخابرات المركزية الأميركية.

هذه هي أراضي مزرعة مايسينيكوو، والتي كان يديرها ألبرتو ديلغادو الذي تحول إلى رمز لمحاربة قطاع الطرق والعصابات المناوئة للثورة من خلال قيامه باختراق صفوفهم وتفكيك بعض الجماعات الأكثر عنفاً التي كانت تعمل في هذه المنطقة. ولكن في 28 نيسان/أبريل 1964، تم إخراجه عبر هذا الطريق باتجاه النهر ومن ثم نقل إلى المكان حيث اغتيل فيه شنقاً. قصة ألبرتو ديلغادو هي قصة نضال الشعب الكوبي ضد العصابات المعادية للثورة التي كان هدفها الإيحاء بأن ما يجري في كوبا هو حرب أهلية من أجل تبرير الغزو الخارجي.

أرادت وكالة المخابرات المركزية استغلال هذا الوضع في منطقة إسكامبراي لتنفيذ عملية إنزال بحري وبري للواء عسكري من اجل السيطرة على موقع ساحلي متقدم في منطقة ترينيداد. ووفقاً لمخططات الولايات المتحدة، كان من المقرر لاحقاً تشكيل حكومة مؤقتة تطالب بالاعتراف الدولي والدعم العسكري كي يتم الإطاحة بالحكومة الثورية.

في آذار/مارس من عام 1961، نظمت قيادة البلاد عملية "القفص"، بحيث حوصرت معظم الجماعات المعادية للثورة خلال هجوم نُفذ ضدها والذي شارك فيه، أو في ما أطلق عليه "عملية تطهير الإسكامبراي"، أكثر من سبعين ألف مقاتل من جميع أنحاء البلاد.

عند شروق شمس يوم الخامس عشر من نيسان/أبريل من عام 1961، ثماني طائرات حربية أميركية من طراز B-26 هاجمت ثلاثة مطارات كوبية، مطار سانتياغو دي كوبا، ومطار سان أنطونيو دي لوس بانيوس ومطار "سيوداد ليبرتاد". وكما هو الحال في العديد من الحالات على مر التاريخ، أتت تلك الطائرات متنكرة بشعار القوات الجوية للبلد المعتدى عليه، وذلك لجعل الأمر يبدو على أنه تمرد داخلي للجنود الكوبيين، لكن الهدف الحقيقي وراء تلك العملية كان تدمير القوة الجوية الثورية المتواضعة وهي على الأرض بحيث لا تكون هناك أي قدرة على المواجهة عندما يبدأ الغزو.

يومها، بلغ عدد الضحايا من الجانب الكوبي خمسين جريحاً وسبعة قتلى. ومن بين الذين استشهدوا، شابٌّ كتب بدمه على الحائط قبل أن يسلم الروح اسم فيدل، مجسداً بذلك القرار باعتماد العمل المقاوم.

كوبا تعتمد الاشتراكية

من قلب العاصمة الكوبية، وخلال مراسم الحداد في وداع ضحايا القصف، يعلن فيدل حالة التأهب العام لمواجهة الغزو الوشيك، ويشهر الطابع الاشتراكي للثورة الكوبية. وهكذا أصبحت كوبا أول دولة في النصف الغربي للكرة الأرضية تقوم باعتماد الاشتراكية كنظام اجتماعي واقتصادي.

منطقة مستنقع ساباتا، أحد الأماكن في كوبا حيث غيرت الثورة بشكل واضح حياة سكانه. منطقة تتميز بالتماسيح وبأشجار الآيكة أو المانغروف الساحلية وبمملكة نباتية وحيوانية غنية. هذه المنطقة هي بمثابة ضوء أحمر في مسار الحديث عن تاريخ كوبا؛ لكن قصة هذا الانتصار الذي حققه الشعب الكوبي كانت قد بدأت قبل ذلك بكثير.

تم تنظيم حملة مسلحة ومهمتها الإطاحة بحكومة الجزيرة، حيث خصصت الولايات المتحدة ثلاثة عشر مليون دولار لتشكيل لواء من المرتزقة مؤلف من حوالي ستمائة رجل مسلح كان من المفترض، وفقاً لحلم واشنطن المستحيل، أنهم سيتولون القضاء على الثورة في أقل من يومين. مجموعات التسلل الأولى  أرسلت لتلقي التدريب في معسكرات أقيمت في غواتيمالا وبنما.

على شاطئ (خليج الخنازير) تم في 17 نيسان/ أبريل 1961، إنزال لواء المرتزقة 2506، الممول من حكومة جون ف كينيدي. ولكن المقاومة الشرسة والرائعة لرجال المليشيا الثورية الكوبية بقيادة فيدل كاسترو شخصياً، أحبطت هذا العدوان في أقل من 72 ساعة. كان عامل الوقت مهماً لأن هدف الغزاة كان السيطرة على موقع ساحلي متقدم وتشكيل حكومة وطلب الاعتراف بها من قبل الحكومات العميلة في منظمة الدول الأميركية الفاسدة.

استطاع المرتزقة الوصول فقط إلى حدود بلدة بالبيتا الصغيرة، على بعد بضع كيلومترات من الساحل. هزيمتهم كانت محبطة للغاية حتى أن أحد مستشاري كندي كتب، محاولاً تفسيرما حصل: تبين أن فيدل كاسترو كان عدواً بارعاً أكثر من المتوقع وأنه يقود نظاماً أكثر تماسكاً مما كان أحد يتخيل. فقد رصدت دورياته الغزو منذ اللحظة الأولى تقريباً وطائراته تحركت بسرعة وحزم، وقضت شرطته على أي احتمال للتمرد أو التخريب وراء الخطوط، وبقي جنوده على ولائهم وقاتلوا ببسالة. الطريقة التي تعامل بها مع الأمر كانت مذهلة.

الحدث الأخطر الذي واجهه كلا البلدين بل والعالم بأسره خلال فترة الحرب الباردة وقع في تشرين الأول /أوكتوبر 1962. حيث كانت البشرية على شفا حرب نووية. والمخابرات السوفيتية أكدت ما كانت كوبا تعرفه أساساً، وهو أن الغزو الأميركي للجزيرة بات وشيكاً، فاقترحت على الحكوقيادة الثورة نشر صواريخ نووية دفاعية على الأراضي الكوبية.

الرئيس كينيدي طالب بسحب الصواريخ النووية السوفيتية المتمركزة في كوبا، ولتحقيق ذلك أعلن فرض الحصار البحري على الجزيرة. وفي مواجهة ذلك ردت القوات المسلحة الثورية الكوبية بوضع جميع وحداتها في حالة التأهب القتالي، حيث بدا وشيكاً الهجوم المباشرعلى كوبا. ولكن على الرغم من الموقف الحازم للكوبيين الذين استنفروا وتأهبوا في مواجهة هذا التهديد، قرر السوفييت بشكل أحادي سحب الصواريخ من كوبا خلال مفاوضات جرت بين نيكيتا كروشوف وكينيدي دون إشراك القيادة الكوبية فيها.

اقرأ أيضاً: وثائقي "Enigma" عبر الميادين: استعمار كوبا وجذور الثورة (الحلقة الأولى) 

الاشتراكية توحد القوى السياسية الثورية

إن إعلان الطابع الاشتراكي للثورة الكوبية كان خطوة حاسمة نحو توحيد جميع القوى السياسية الثورية: فاتفقت كل من حركة 26 تموز والحزب الاشتراكي الشعبي ومنظمة الدليل الثوري 13 آذار، على حل أنفسهم بشكل مستقل ومنفرد من أجل الاتحاد لاحقاً في حزب واحد. هذا الحزب الواحد سيتحول إلى واقع خلال هذا الاجتماع المهم وسيصبح اسمه: الحزب الشيوعي الكوبي.

إنه الإثنين، لكنه ليس كباقي الأيام، ففي الشوارع يخيم صمت لا يُصدق، خبر استشهاد تشي وصل إلى جميع البيوت والشوارع وإلى قلوب جميع أبناء الشعب الكوبي، شعب تشي. الأطفال توجهوا إلى مدارسهم ولكنهم صامتون، هذا ما ورد في مقال لصحيفة محلية إثر إعلان نبأ استشهاد تشي.

في أفريقيا شارك حوالي نصف مليون كوبي في الحروب المناهضة للاستعمار. فالجزائر والكونغو وغينيا بيساو وجزيرة الرأس الأخضر وإثيوبيا، حظوا في حروبهم دفاعاً عن سيادتهم بدعم رجال ونساء من الجزيرة  الكاريبية. وفي أنغولا، دعمت القوات الكوبية هذه الأمة الأفريقية ضد نظام التمييز والفصل العنصري.

في القائمة الطويلة للهجمات ضد الشعب الكوبي، يبرز عام 1976 ملطخاً بالدماء، حيث تم من جديد تنظيم عمل إرهابي آخر من قبل أعضاء المافيا الكوبية الأمريكية في ميامي خدمةً لمصالح وكالة المخابرات المركزية...فتم تفجير طائرة تابعة لشركة الطيران الكوبية "كوبانا دي أفياسيون" أثناء قيامها برحلة جوية، مما أسفر عن مقتل ثلاثة وسبعين شخصاً. المسؤولون عن تدبير هذا الهجوم الإرهابي كانا الإرهابيين من أصل كوبي أورلاندو بوش ولويس بوسادا كاريليس، اللذان قامت حكومة الولايات المتحدة بحمايتهم متصدية لمطالبات عائلات الضحايا بمقاضاتهم.

اقرأ أيضاً: عبر الميادين.. سلسلة "ENIGMA" الوثائقية تؤرخ الثورة الكوبية وتفك لغز البلاد

في 18 أيلول/سبتمبر 1980، أقلع من قاعدة بايكونور الفضائية أول رجل من أمريكا اللاتينية متجهاً إلى الفضاء، إنه رائد الفضاء الكوبي أرنالدو تامايو مينيديز. وكان هذا الحدث ثمرة التعاون في مجال الفضاء بين الاتحاد السوفيتي السابق والدول الشتراكية الأخرى.

كانت العلاقات مع كوبا وثيقة للغاية، على الرغم من أنها كانت شبه معدومة قبل عام 1959 ، ثم راحت تتطور نتيجة للتحولات التي قامت بها الدولة. ومنذ البداية، ساعدت هذه العلاقات في مقاومة الحصار الأمريكي المفروض على الجزيرة الكاريبية.

في عام 1974، كانت كوبا قد انضمت إلى مجلس التعاضد الاقتصادي للدول الاشتراكية "كامي" بشروط تفضيلية. من الناحية العملية، ترجم ذلك بمنح قروض بشروط ميسرة، واعتماد أسعار تحفيزية للمنتجات الكوبية، والبناء المشترك لمنشآت صناعية، وتقديم مساعدة فعالة في تطوير العلوم.

جلبت فترة التسعينيات من القرن العشرين تغييرات أرخت بظلالها على العالم بأسره، فقد هُدم جدار برلين، واختفى اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفياتية، تفكك الاتحاد السوفيتي السابق، وزال معه مجلس التعاضد الاقتصادي المشترك، كان يُعتقد أنه حتماً، أصبح البلد معزولاً، لنقل، عن نظامه البيئي الطبيعي، عن محيطه الطبيعي الذي حافظ على توازنه الاقتصادي، هذا الانقطاع السياسي والانقطاع الاقتصادي، كان سيعزل أو يعيد عزلة كوبا في الوقت الذي كان يشتد فيه عداء الولايات المتحدة، الأمر الذي لم يحصل بفضل مقاومة الشعب الكوبي الابداعية.

لكن الشعب وثورتهم صمدوا بإبداع وبقوة لا تقهر. لم يتم إلغاء أي خدمة عامة تقمها الثورة لشعبها، كما أنه لم يتم خصخصة أي منها، وظلت المدارس مفتوحة وظلت كوبا في مأمن من السياسات النيو ليبرالية التي كانت حينها تغرق فيها منطقة أميركا اللاتينية بأكملها. أولئك الذين كانوا يعدون الأيام التي تفصلهم عن نهاية الثورة الكوبية بأصابع اليد فشلوا فشلاً ذريعاً. ونجت الثورة الكوبية.

اخترنا لك