بين الحداثة والتغريب.. لا مجال للمساواة

محللون سياسيون يقرأون في التحولات الدولية حالياً، وأن لا مجال لأي علاقة بين الحداثة والتغريب، في ظل سقوط ثقافة الرأسمالية، والهيمنة الأميركية، أمام عودة الخصوصية للقوميات وعزلة الحضارة الغربية، وخير مثال على ذلك صمود القدس في وجه التغريب والتهويد.

  • مرحلة الديمقراطية الغربية انتهت وبدء عودة الخصوصية للقوميات
    مرحلة الديمقراطية الغربية انتهت مع ضمحلال الهيمنة الأميركية وبدء عودة الخصوصية للقوميات

في غمرة المعارك العسكرية والتموضعات السياسية ثمّة مفاهيم تتغيّر أيضاً، لغاتٌ وتقاليد ترفع صوتها اليوم في وجه القمع الاستعماري، بحسب تصريحٍ لوزير الخارجية الهندي، سوبرامنيام جاي شانكار، الذي أكّد ألّا مجال للمساواة بعد الآن بين الحداثة والتغريب. فعلى ما يبني المسؤول الهندي هذه الخلاصة؟ أيّ دورٍ للتحوّلات الدوليّة في هذا الإطار؟ وكيف دأب مفهوما الحداثة والتغيير أحدهما بالآخر؟

ما هي العلاقة ما بين الحداثة والتغريب؟

قال محلّل الميادين للشؤون الاقليميّة والثقافية، سليم بوزيدي، إنّه "منذ عشرينيّات القرن الماضي، دأب منظّرو النظريّة السوسيولوجيّة على أنّ النظريّة البنائية الوظيفيّة، كانت الإطار المعرفي، أو ما سُمّي لاحقاً النموذج الديمقراطي والليبرالي الغربي".

وأضاف بوزيدي في حديث للميادين أنّ "كل الأطروحات التي قُدّمَت على مدار هذه العقود كانت دائماً تنطلق من أنّ النظرة الليبراليّة للسوق، وكذلك الحريّة البروتستانتيّة بمفهومها الديني الثقافي، هما الرافعان للطرح المعرفي الثقافي الذي ربط رأساً وبشكل مباشر بالثقافة الغربية".

وأشار إلى "3 أوجه لهذه المراجعات وهي الجيوسياسي والاقتصادي والثقافي".

هل بدأ اضمحلال الهيمنة الأميركية من خلال سقوط الثقافة الرأسماليّة؟

بدوره، اعتبر محلّل الميادين لشؤون أميركا والأمم المتّحدة، نزار عبّود، أنّ "العالم منذ قرنٍ تقريباً شهد عصر الولايات المتّحدة، الذي حوّل الشعوب إلى مخلوقات استهلاكيّة تستهلك كل شيء، من السينما الأميركية إلى السلع الأميركية إلى الثقافة الأميركية الأنجلوسكسونيّة بشكل عام".

وقال عبّود "هذا الوضع تغيّر كثيراً مع هبوط المكانة الاقتصاديّة للولايات المتّحدة، وتفسّخ المجتمعات الغربيّة بشكل كبير داخلياً مع انهيار الأسرة بشكل أساسي"، مضيفاً أنّه "حتى في الدول الأوروبية، كان هناك نمط من التعامل الأخلاقي بين المجتمع والدولة، فالشرطة في بريطانيا لم تكن تحمل سلاحاً، بل تكتفي بالتفاهم مع المشاغبين أو المتمرّدين، وإذا بالأمور تتأمرك ويصبح السلاح متاحاً أكثر في الشوارع".

الهيمنة الأميركية.. هل استعادت القوميّات خصوصيّتها؟

وفي السياق، أكّد محلّل الميادين للشؤون السياسية والإقليميّة، ناصر اللحّام، أنّ القوميّات "استعادت افتخارها بنفسها، وبالمقارنة مع المجتمعات الاستهلاكيّة"، وقال: "صحيح أنّ الرأسماليّة قد تكون أمدّت في عمر الإنسان لكنّها جعلته إنساناً حزيناً وبلا هدف، فالشرق بروحانيّاته وبتوازناته ما بين المادّي والروحاني بات مطلوباً حتى عند المجتمعات الغربيّة".

وأشار اللحّام إلى أنّنا "أمام تصادم حضارات، بين الإنسان الكئيب الذي يتمّ استغلاله، والإنسان العامل ضمن جماعات وضمن قوميّات هو يفتخر بها".

مرحلة الديمقراطية الغربية انتهت

من جهته، أوضح بوزيدي أنّ "الصراع الروسي الأطلسي استدعى تراثاً طويلاً من نظريّة المركزيّة الحضارية الغربيّة في مواجهة الدبّابة والقوّة العسكريّة الروسية، وهذا الاستدعاء كان خارج السياق المعرفي، وتماماً على يمين الأطروحات النقديّة في التراث الفكري الغربي".

ورأى أنّ "النقاشات الأساسية في المرحلة الحاليّة ليست نخبويّة أو أكاديميّة، بل سياسيّة وجيوسياسيّة، والمراجعات التي يطرحها الغرب لنظامه الديمقراطي تحت عنوان إنقاذ ما يمكن إنقاذه من حيث تراه المؤسسة السياسيّة، هي في الحقيقة مجرّد ذرّ للرماد في العيون"، مشيراً إلى أنّ "مرحلة الديمقراطية الغربية قد انتهت".

وأضاف أنّ "التجربة اليابانية والصينية والهندية والبرازيلية تقدّم رؤية للديمقراطية وللحياة السياسية تختلف تماماً عن التجربة الغربية الاستعمارية".

دور الأمم المتّحدة في تكريس الثقافة الاستعماريّة

من جهته، اعتبر عبود أنّ "مسألة المثليّة هي من المسائل الجدليّة الكبيرة التي تُثار في الأمم المتّحدة وبين الشعوب الآسيوية الأوراسيّة والأفريقيّة"، فضلاً عن "مسألة تمكين المرأة، بدلاً من تمكين الأسرة أو دعم الأسرة".

وبيّن أنّ "كلمة أسرة تغيب في الأمم المتّحدة، فهناك فقط الفتاة، المرأة، الرجل، الفرد، الفتى، الكهل"، مضيفاً أنّ "هذا يأتي في صلب المفهوم الغربي، الذي قام منذ الثورة الصناعيّة على تجزئة الأسرة لإتاحة كل فرد من أفراد الأسرة ليكون عبداً في المصانع، وعاملاً رخيصاً لزيادة العمّال في مصانع النسيج وغيرها".

وأشار إلى أنّ "الأمم المتّحدة كانت منصاعة بشكلٍ كامل لذلك، وكذلك الدول الفقيرة لأنّها تحتاج لدعم الدول الغنيّة، ولأنّ ثروتها منهوبة وعائداتها أيضاً مختزنة في البنوك الغربيّة".

القدس صامدة اليوم في وجه التغريب والتهويد

وفي هذا الخصوص، أكّد اللحّام أنّ "كلّ ما سبق ذكره من تمكين المرأة والجندرة تمّت تجربته علينا باسم حقوق الإنسان".

وقال: "ذات يوم طلب منّا سفراء الغربيّين الأميركان أن نعزّز لدينا كصحفيّين أنه ممنوع أن تخلِط بين وطنيّتك وصحفيّتك،- يا أخي ابقَ مهني، هكذا قالوا لنا، ابقَ مهني ودعكَ من الوطنيّة، ومن ثمّ ما تفضّل به نزار، ما تفضّل به سليم، كل شيء تم تجريبه-. إضافة الى إطلاق النار والقتلى وهدم المنازل، جيء علينا بالمفاهيم، أنا أقول هنا إنه منذ فيروس كورنا أثبت التاريخ أنّ السلطة الفلسطينيّة ضعيفة، وإسرائيل كنظام أبارتايد قوي، لكن المجتمع الفلسطيني قوي، والمجتمع الإسرائيلي والمجتمع الغربي ضعيف، والأسرة هي مفتاح الترابط الأساسي والعائلة والعشيرة".

وتابع: "طبعاً كل هذا حاربته المشاريع التي جاءت من الغرب"، مؤكداً أنّ صمود القدس اليوم في وجه التغريب والتهويد هو صمود الأسرة والعائلة والقرية الفلسطينية.

 عزلة الحضارة الغربية

وفي إطار كل هذه التيارات الفكرية المتناقضة، يوجد تيّار يدعو إلى مراجعة المفاهيم والانفتاح على الآخر، هل في هذا الإطار يمكن أن نشهد عزلة وانعزال للحضارة الغربية؟، وهل بات صراع الحضارات حتمياً في مرحلة تتفسّخ فيه كل البلدان بطريقة أو بأخرى أو كل المجتمعات التي ولدتها النزاعات الأخيرة؟

وفي هذا الإطار قال عبّود، إنّ "الدول الغربية لن تتنازل عن مكانتها، الولايات المتّحدة بشكل أساسي لن تتنازل عن هيمنتها بطريقة سلميّة وديمقراطية، هناك صراع لدول ناشئة، انتاج الهند بات يُقاس اليوم بأكثر من عشرة تريليون دولار، هذا أكبر من أي دولة أوروبية".

وأضاف: "هناك أيضاً نهضة صناعيّة كبيرة في ماليزيا، في إندونيسيا، في الصين في كوريا الشمالية، في دول عديدة، وبالتالي هذا تحدّي كبير لمكانة الولايات المتّحدة، وقالها الرئيس الاميركي جو ايدن بشكل أساسي نحن نتنافس مع الصين. أما بالنسبة لروسيا فهي تمثّل له هدفاً لاستعادة مكانته وثرواته".

وتابع عبود: "بالتالي الصراع حتمي كما يبدو، وهو بالطبع يأخذ أشكالاً كثيرة منذ حرب أوكرانيا، وينتشر في منطقة الشرق الأوسط بشكل نشاهده على ساحات سوريا والعراق، وليبيا واليمن، وغيرها.

وعن إمكانية عزلة المفاهيم الغربية التي تحاول أن تروّج نفسها على أنّها الحضارة الحاضرة والمستقبليّة، أوضح بوزيدي أنه "على الأقلّ يُطرَح هذا الموضوع، وهذه الفكرة الآن من مدخلها الاقتصادي، حيث أنّ بعض المنظّرين والخبراء الاقتصاديين في الغرب يقولون إنّ فكرة سلاسل التوريد التي ابتُدعَت في الصين والهند، وفي مناطق التي تكون فيها تكلفة الانتاج منخفضة والعمالة أيضاً منخفضة أصبحت الآن في الحقيقة فكرة بحاجة لمراجعة، والاستفادة من ثقافة العولمة على أنّ الأسواق تكون مفتوحة ما بينها، وأنّ المنتَج الليبرالي، وكذلك الأسواق الغربيّة هي الأقوى، وبالتالي تسيطر على الأسواق العالميّة".

ووفق بوزيدي، "هذا الكلام أصبح بحاجة إلى مراجعة، وبالتالي العولمة بصيغتها الليبراليّة التي طرحها آباء المؤسسين لفكرة الليبراليّة أصبحت لا تخدم الغرب اقتصادياً، وهم الآن يقولون يجب أن نعود وننعزل ونُغلق الجدران أمام هذه القوى الجديدة، سواء أكانت الصين أو البرازيل أو الهند، وبالتالي فشلت العولمة الغربية في تحقيق مآربها، والآن هم يراجعون ويطرحون عولمة أو على الأقلّ انعزال غربي حضاري ويغلقون الجدران".

وعن كيفية انتصار الحضارات الحقيقيّة على الشركات في عالم بات يخلط ما بين الافتراضي والتاريخي، أعرب اللحام عن اعتقاده أنّ "هناك موضوع فلسفي ليس مادّي، وهناك مفهوم الأخذ وهو المفهوم الرأسماليّة القائم في الشركات، ومفهوم العطاء في المجتمعات وفي الأسرة، ولعلّ المادّيين عرّفوا الأسرة بشكل صحيح، هي وحدة اقتصادية اجتماعية سيكولوجيّة".

وأكد أنّ "عمليّة اعتماد الفرد فقط أنه أداة انتاج، وشراء عمله مقابل شظف العيش وبعض النقود لن ينجح"، مشيراً إلى أنّ "صفقة القرن ورد فيها تفاصيل عن كيفيّة تحويل المجتمعات العربيّة إلى مجتمعات عاملة في الشركات".

ورأى اللحام أنّ "إفشالها من جانب الفلسطينيين هو نموذج لكيفيّة تصرّف المجتمعات الأقوى من المجتمع الفلسطيني، مثل الجزائري، والسوري، والعراقي وغيرها من المجتمعات".

اخترنا لك