"ناشونال إنترست": دول الخليج تعيد تقييم علاقاتها بواشنطن بعد الهجوم على قطر
أدت الضربة الإسرائيلية على قطر، والتي تشير إلى عجز ترامب عن كبح جماح نتنياهو، إلى تغيير مصالح دول الخليج أيضاً.
-
"ناشونال إنترست": دول الخليج تعيد تقييم علاقاتها بواشنطن بعد الهجوم على قطر
مجلة "ذا ناشونال إنترست" الأميركية تنشر مقالاً يتناول تحوّل السعودية في مقاربتها لعلاقتها مع الولايات المتحدة وسط التحولات الإقليمية والدولية، وكيف أنّ الأحداث الأخيرة، من الضربات الإسرائيلية على إيران وقطر، إلى التوترات داخل المنطقة، جعلت الرياض تعيد تقييم موقعها بين القوى الكبرى.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
في حفلة ليلة رأس السنة الجديدة التي أقيمت في طهران في العام 1977، ألقى الرئيس الأميركي جيمي كارتر خطاباً وصف فيه إيران بأنّها "جزيرة استقرار في إحدى أكثر المناطق اضطراباً في العالم". وبعد عام واحد فقط، أطاحت الثورة الإسلامية الشاه، وحُوّل النظام الملكي الموالي للولايات المتحدة إلى خصم قوي لها، وعمّق اعتماد السعودية على واشنطن في الأمن.
وَبعد عقود ضغطت إدارة بايدن من أجل اتفاقية التحالف الاستراتيجي، وهي ما يسمى بـ "الصفقة الكبرى" التي تقدم بموجبها الولايات المتحدة ضمانات أمنية، وتساعد على تطوير البرنامج النووي المدني السعودي، مقابل اعتراف السعودية بـ"إسرائيل". وبالنسبة لواشنطن، الاتفاق يعِد بشرق أوسط أكثر استقراراً، وبالنسبة للرياض هذا يشكل جزءاً من استراتيجية رؤية 2030 لوليّ العهد محمد بن سلمان لإعادة تقويم سياسة بلاده الخارجية والتركيز بشكل أكبر على الدبلوماسية، وتنويع الاقتصاد، والحفاظ على الولايات المتحدة كشريك أمني أساسي، لكن مع الاحتفاظ بالمرونة في مجالات أخرى.
كان هناك أمل في أن تتماشى إدارة ترامب الثانية مع هذه الأولويات. لكنّ تدخل ترامب المباشر في الصراع بين تل أبيب وطهران في حزيران/يونيو الماضي، وإلى جانب الضربة الإسرائيلية الآن على قطر، أدّى إلى تسريع إعادة تقييم الرياض لموثوقية ومخاطر شراكتها مع الولايات المتحدة.
وكانت الصفقة الكبرى قد أطلقت خلال إدارة ترامب الأولى، حين توسط في سلسلة من الاتفاقيات الثنائية، المعروفة باسم "اتفاقيات أبراهام" والتي وافقت بموجبها الإمارات والبحرين والمغرب والسودان على تطبيع العلاقات مع "إسرائيل". وقد شجّع النجاح الأولي إدارة ترامب على الضغط بقوة لإقناع السعودية بالانضمام إلى الاتفاقيات، على الرغم من رفض المملكة إقامة علاقات مع "إسرائيل" من دون قيام دولة فلسطينية.
وفي حين أنّ هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر التي شنّتها حركة "حماس" وحلفاؤها، أزعجت السعودية وهددت بتوسع الصراع إلى حرب إقليمية أكبر، رأت الرياض أيضاً أنّها فرصة لإصلاح العلاقات مع أقرب حلفائها من خلال استخدام الفوضى الناجمة عن الهجوم لتأكيد أهميتها بالنسبة لواشنطن كقوة إقليمية لتحقيق الاستقرار.
ولقد كان بايدن قد تعهد في الأصل بجعل ولي العهد "منبوذاً" بسبب مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، إضافة إلى سجله العام في مجال حقوق الإنسان، لكنّ الهجمات أجبرت بايدن على مراجعة موقفه والبدء بإعادة ضبط العلاقات مع الرياض دبلوماسياً، بما في ذلك مبادرة لإقناع المملكة بقبول "اتفاقيات أبراهام".
أظهر استطلاع أجراه معهد "واشنطن لشؤون الشرق الأدنى" أنّ الغالبية العظمى من المواطنين السعوديين يريدون من الدول العربية قطع العلاقات جميعها مع "إسرائيل". وبينما تمكّن محمد بن سلمان من إدارة الاستياء المحلي، إلا أنّ هناك حدّاً لمدى قدرته على تجاهل المشاعر العامة، ما يعني أنّ ثمن الإذعان السعودي للاتفاق سيكون أعلى من ذلك بكثير.
لقد تدهورت العلاقات بين تل أبيب والرياض بشكل كبير، حيث أعاق سلوك "إسرائيل" في غزّة والمعارضة الصريحة لإقامة دولة فلسطينية المفاوضات بين الولايات المتحدة والسعودية لدرجة أنّ الرياض تخلت عن تطبيع العلاقات مع تل أبيب، وأصبحت بدلاً من ذلك أحد أقوى المدافعين عن إقامة دولة فلسطينية.
فلماذا كانت السعودية ملتزمة جدّاً بتأمين صفقة مع الولايات المتحدة إذاً؟ لتأتي إحدى الإجابات هي أنّ الرياض ببساطة لم تعد تثق بواشنطن، كما يشعر السعوديون، وكذلك الدول العربية الأخرى، أنّ الولايات المتحدة تتطلع إلى الابتعاد عن الشرق الأوسط نحو مناطق أخرى ذات أهمية استراتيجية لها مثل شرق آسيا.
وفي حين يمكن القول إنّ هذه المخاوف مبالغ فيها، إلا أنّ الولايات المتحدة تفتقر من وجهة نظر الرياض إلى الاتساق السياسي على المدى الطويل. وغالباً ما تجلب كلّ إدارة جديدة أولويات متغيرة، ما يجعل من الصعب على السعودية الاعتماد على التزامات استراتيجية دائمة. ونتيجة لذلك، تسعى الرياض بشكل متزايد إلى الحصول على ضمانات ملموسة وملزمة تكون أقل عرضة للانعكاس مع كل تغيير في القيادة.
وتعني المقايضة بمثل هذه الديناميكية أنّ الرياض، في نظر الولايات المتحدة، ستقف إلى جانبها في علاقتها العدائية مع إيران، وبالتالي مع روسيا والصين. وكما أشار غريغوري غوس الثالث في مقال نشر مؤخراً في مجلة "فورين أفيرز"، "عندما تلتزم الولايات المتحدة بالتزام أمني تجاه بلد ما، يتوقع معظم الأميركيين أن يدعم هذا البلد واشنطن في مجموعة كاملة من القضايا الدولية الاقتصادية والسياسية والعسكرية".
على الرغم من المحاولات الأميركية لتقريب السعودية من دائرة نفوذها، ركّزت الرياض عقيدة سياستها الخارجية على صفر مشاكل مع جيرانها، في تحوّل في النهج وسبب رئيسي لاختيار السعوديين توقيع الاتفاق الذي رعته الصين مع إيران في عام 2023، وخاصة أنّ إيران اتّبعت استراتيجية "الجيران أولاً" الخاصة بها ساعية إلى الحفاظ على علاقات جيدة مع جيرانها المباشرين كوسيلة للتخفيف من بعض آثار الضغط الغربي.
ومن الأمثلة على هذا التحول عندما دعت السعودية "إسرائيل" إلى "احترام سيادة جمهورية إيران الإسلامية الشقيقة وعدم انتهاك أراضيها". وتعتبر إشارة محمد بن سلمان إلى إيران على أنها "جمهورية شقيقة" ذات دلالة، نظراً لأنّه مصطلح مخصص عادة لـوصف الدول والشعوب العربية.
ترى السعودية أنّ الصين وروسيا عنصران أساسيان في رؤية 2030، التي تعد القوة الدافعة وراء تحوّل سياسات الرياض الاقتصادية والخارجية لتقليل اعتمادها طويل الأمد على صادرات النفط وتنويع اقتصادها. إلا أنّ هذا البرنامج الطموح يتطلب استثمارات ضخمة في رأس المال على المستوى القصير والمتوسط الأجل. ورغم محاولات الرياض تشجيع الاستثمار الأجنبي المباشر وإنشاء صندوق ثروة سيادية ضخم، بينما الواقع يشير إلى أنّها تتحمل معظم التكلفة، ما أدّى إلى عجز كبير في الميزانية السعودية. كما يعكس سعي الرياض لحث "أوبك بلس" على خفض أسعار النفط من خلال زيادة الإنتاج استراتيجية متعددة الجوانب.
وعلى المدى القصير يهدف خفض أسعار النفط إلى معاقبة الأعضاء الذين يتجاوزون حصص الإنتاج الخاصة بهم، على المدى الطويل قد تمكّن هذه الخطوة السعودية من توسيع حصتها في السوق بمجرّد تهميش هؤلاء المنتجين. وفي حين أنّ هذا النهج قد يزيد مؤقتاً من مستويات ديون المملكة، يبدو أنّ الرياض مستعدة لاستيعاب هذه التكلفة مقابل التموضع الاستراتيجي.
في حين أنّ روسيا هي منافس السعودية في سوق النفط الدولية، فإنّ الصين هي أكبر عميل للرياض، حيث تستورد الصين حوالى 1.9 مليون برميل من النفط السعودي يومياً. وفي الآونة الأخيرة، عمل البلدان على توسيع علاقتهما إلى ما هو أبعد من التجارة.
وخلال زيارة لبكين عام 2022، وقع المسؤولون السعوديون اتفاقية مع الصين حوّلت العلاقة الصينية السعودية إلى شراكة استراتيجية شاملة من ضمنها مشاريع البنية التحتية ونقل التكنولوجيا المتقدمة التي يعتقد القادة السعوديون أنّها ستساعد على تسريع التنمية الاقتصادية للبلاد بعيداً عن الهيدروكربونات. ووفقاً لأرقام معهد "أميركان إنتربرايز"، بلغ إجمالي الاستثمارات الصينية في السعودية بين عامي 2005 و2024، أقل بقليل من 70 مليار دولار.
وعندما سئل وزير الاستثمار السعودي خالد الفالح عن الانتقادات الغربية والمخاوف بشأن هذه العلاقة المزدهرة، قال لشبكة "سي إن بي سي" إنّه لا يعتبر علاقات المملكة العربية السعودية مع الصين والولايات المتحدة متعارضة وإنّها "تكمل بعضها بعضاً".
حين عاد دونالد ترامب إلى منصبه، كانت هناك علامات أولية على أنّه يدرك أنّ الشرق الأوسط لعام 2025 كان مختلفاً تماماً عن الشرق الأوسط في عام 2017 وأنّ سياسته ونهجه الإقليميين سيتوافقان بشكل وثيق مع مصالح مجلس التعاون الخليجي. وقد رحب قادة دول الخليج في البداية بعودته، وهم يفضلونه على بايدن، الذي كان ينظر إليه على أنه مثالي بشكل مفرط، وغالباً ما يرفض المخاوف الأمنية الخليجية.
على النقيض من ذلك، كان ينظر إلى ترامب على نطاق واسع على أنّهُ رجل ليس لديه رؤية واضحة للمنطقة، كما أنّ أسلوب قيادته في المعاملات، وعدم اهتمامه بالأيديولوجيا، وتركيزه الأكبر على إبرام الصفقات يتماشى بشكل جيد مع النظرة البراغماتية للعالم في دول مجلس التعاون الخليجي.
ومع ذلك، تبخّر الكثير من هذه النيات الحسنة عندما دعم ترامب الضربات الإسرائيلية على إيران، وأمر بشنّ ضربات جوية مباشرة على منشآت التخصيب النووي الإيرانية. وشكّلت هذه الخطوة إشارات عن تخلي ترامب عن الوعود السابقة حول الدبلوماسية وعدم التدخل، وحطمت الآمال في أن يعطي ترامب الأولوية لخفض التصعيد.
وبينما طالب ترامب نتنياهو بالالتزام بعدم ضرب قطر مرة أخرى، تصدّى رئيس الوزراء الإسرائيلي للانتقادات الدولية وهدد بضرب الدوحة مرة أخرى إذا رفضت طرد القيادة السياسية لحركة "حماس". وقد أدى عدم قدرة ترامب على السيطرة على نتنياهو إلى تقويض مصداقيته الشخصية والضمانات الأمنية الأميركية في المنطقة.
وبالنسبة إلى السعودية ودول الخليج الأخرى، أكدت هذه الأحداث مخاوفها العميقة، فالولايات المتحدة لم تعد ضامناً أمنياً موثوقاً به، بل أصبحت بدلاً من ذلك لاعباً محتملاً متقلباً قد تعرض أفعاله الأمن القومي والطموحات الاقتصادية السعودية للخطر، ولا سيما مع تزايد خطر عدم الاستقرار الإقليمي والصراع الذي من شأنه أن يؤثّر بلا شك على دول الخليج.
ومن خلال اتباع استراتيجية متعدّدة الاتجاهات، تسعى الرياض إلى تحقيق التوازن بين القوى العظمى، بعضها ضد بعض، مع الحفاظ على أقصى قدر من المرونة. وهذا التوجه السعودي في تنويع العلاقات أصبح سياسة راسخة.
وبعد ما يقرب من نصف قرن من سوء قراءة كارتر عن إيران بأنها "جزيرة استقرار"، تخاطر واشنطن بارتكاب أخطاء مماثلة في الخليج. إنّ قرار ترامب استهداف منشآت التخصيب الإيرانية بشكل مباشر وعدم القدرة الملحوظة على كبح جماح نتنياهو سيسرع من تفكك أهم شراكة للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. لن تتخلى الرياض عن الولايات المتحدة، لكنها مصممة بشكل متزايد على عدم الوقوع في شركها.
من خلال التحوط مع الصين وروسيا، فضلاً عن القوى الناشئة الأخرى مثل الهند وتركيا، تشير السعودية إلى أنّ مستقبلها يكمن في مجموعة متنوعة من العلاقات، وليس في الاعتماد على ضامن واحد.
الرسالة من الرياض واضحة: أميركا لا تزال مطلوبة، ولكن ليس مهما كان الثمن. إذا كانت واشنطن تأمل أن تظل الشريك الذي لا غنى عنه للمملكة، فعليها أن تظهر أن أفعالها ستعمل على تحقيق الاستقرار في المنطقة.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.