"Unherd": عودة ترامب إلى السياسة الشكسبيرية.. يتفاوض كملك إقطاعي
تظهر أشكال جديدة من السيادة والسلطة، حيث الأفراد يستغلّون مختلف أنواع المنصّات، ويمارسون من خلالها نفوذاً شبيهاً بنفوذ الدولة.
-
رسم لترامب وشكسبير
موقع "Unherd" البريطاني ينشر مقالاً يتناول مسألة التحول الجذري في مفهوم السلطة والسيادة في الولايات المتحدة والعالم، من خلال تتبّع كيف أصبح التفاوض بشأن قضايا الحرب والسلم، مثل الهجوم على إيران، يتم علناً عبر منصات التواصل الاجتماعي، وبصورة شخصية من قادة مثل دونالد ترامب، بعيداً من مؤسسات الدولة التقليدية.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
كان التفاوض بشأن الهجوم الإسرائيلي على إيران في العلن عبر منصّتي "إكس" و"تروث سوشل"، لكن لا يمكن تفسير هذا الأمر فقط من خلال أسلوب الرئيس ترامب الشخصي أو رغبته في تجاهل المتعارف عليه، بل من خلال التحوّلات التاريخية التي تتطوّر ببطء في تمظهرات السلطة والتعبير عن نفسها، حيث يتدرّج قادة العالم في التصرّف بعلنية وطبيعية.
لقد أظهر إعلان ترامب عن وقف إطلاق النار "مبروك للجميع"، ثمّ موجة اتّهاماته بـخرق "إسرائيل" للاتفاق: "لا تسقطي هذه القنابل"، أنّه يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي للعمل خارج إطار أنظمة الدولة المؤسسية الخفيّة التي قيدت العمل الرئاسي منذ عهد الرئيس ترومان على الأقل. كما يمكن استنتاج أنّ ترامب ينشر بصفته ترامب، وليس بصفته إدارة ترامب، وينشر بصفته صاحب السيادة، بتناقضٍ كامل للغاية مع نهج سلفه جو بايدن.
باعتقادي، ما جعل من كلّ ذلك ممكناً لا يقتصر على نهج ترامب وحده، بل هي الأدوات الجديدة والتحوّلات في تراكم رأس المال نحو التكنولوجيا والعملات المشفّرة. لقد تعطّلت احتكارات الدولة للمال والمعلومات، ولم يبقَ سوى احتكار العنف. وبينما في ظلّ الأشكال القديمة لسيادة الدولة، تظهر أشكال جديدة من السيادة والسلطة، حيث الأفراد يستغلّون مختلف أنواع المنصّات، سواء كانت مالية أم تكنولوجية أم إعلامية، ويمارسون من خلالها نفوذاً شبيهاً بنفوذ الدولة.
كذلك، يمكن للمسؤولين المنتخبين، على عكس وكالات الاستخبارات والبيروقراطية والمشرّعين، أن يتجاوزوا حدود الحكومة لإقناع تكتّلات السلطة وعزلها وتفكيكها. وهذا يحصل حين يُنتخب شعبوي مرتبط برأس المال والتكنولوجيا مثل ترامب، حيث يصل هذا النوع من الاضطراب إلى ذروته.
يتصرّف الرئيس، من ناحية، كجهة غير حكومية تعمل داخل الدولة، ومن ناحية أخرى، كتجسيد للدولة. وإذا بدا هذا مُربكاً، فهو كذلك بالفعل. فمن الواضح أنّ ترامب يستخدم منشوراته في منصّات التواصل لتعزيز نفوذه وتغيير مسار المفاوضات، ليس فقط بين "إسرائيل" وإيران، بل ربما مع جيشه ومسؤولي إدارته كذلك. كما أنّ المفاوضات التي تجري حالياً معقّدة ومتعدّدة الأبعاد.
لقد زادت القدرة على نشر البيانات العالمية فوراً من صلاحيات الرئيس الأميركي في التأثير في الأحداث حول العالم. عندما غرّد ترامب مطالباً مواطني طهران بإخلاء المدينة، ازدحمت جميع الطرق السريعة المؤدّية إليها في دقائق. أسلاف ترامب مثل جو بايدن وباراك أوباما وجورج دبليو بوش، لم يستغلّوا صلاحيات الرئاسة بهذه الطريقة.
من الأهمية بمكان أنّ هذه الأشكال الجديدة من السيادة وسياسات القوة لا تظهر فقط داخل إطار الدول، بل خارجها أيضاً، ما يوحي بأشكال جديدة خفيّة من القوّة. عندما يغرّد ملياردير مثل بيل أكمان داعماً لـ"إسرائيل"، فهو لا يشارك رأياً فحسب، بل يوضّح إلى أيّ جهة سيتدفّق رأس ماله. وبالمثل، لا تقتصر معارك ترامب مع جامعة هارفرد على مضايقة الليبراليين رمزياً، بل على صدّ مصادر القوة الناعمة المضادّة له، وقد فكّك ترامب الوكالة الأميركية للتنمية الدولية لأسباب مماثلة.
ولعلّ أبرز مؤشّر على التحوّل الجذري في آلية عمل السلطة كان الحرب الكلامية المشتعلة في مواقع التواصل الاجتماعي بين الرئيس ترامب وإيلون ماسك. فعلى مدار 24 ساعة، استحوذ هذا الخلاف على كامل اهتمام الساحة الخطابية، وبدلاً من العمل من خلال ممثليهما أو خلف الأبواب المغلقة، انخرط أغنى رجل في العالم وأقوى رجل في العالم في مواجهة علنية، من دون الاعتقاد أنّهما يفعلان ذلك للتسلية، بل لاختبار حدود نفوذهما.
لقد بدأ الخلاف بين ترامب وماسك وكأنّه قطيعة واضحة مع نبرة وأسلوب وديناميكية الليبرالية الإدارية، والتي كانت القاعدة الأميركية خلال القرن الماضي. وبلغة شكسبيرية كلاسيكية، انتقد الملك الذي ساعد على تنصيبه، إذ نشر ماسك: "بدوني، كان ترامب سيخسر الانتخابات".
ذكّرتني هذه الديناميكية بالسير الإنكليزي هنري بيرسي، الذي أسهم بعزم في عزل الملك ريتشارد الثاني لمصلحة هنري بولينغبروك، ولكنّه لم يُكافأ بالقدر الكافي، فتمرّد على الملك الجديد باعتباره يدين بعرشه لعشيرة بيرسي، التي من دونها لم يكن هنري بمقدوره اقتلاع ريتشارد الضعيف. ضمنياً، ماسك يهدّد ترامب بأنّه يمكن إطاحته تماماً كما ساعده على إطاحة سلفه. لكن، بعد أن ردّ ترامب، انخفضت القيمة السوقية لشركة تيسلا بمقدار 150 مليار دولار، كأولى الخسائر في ساحة المعركة.
ومثل فرار جيش بيرسي من ساحة المعركة، ظهر ماسك أيضاً حين ألمح إلى قرار محتمل بإيقاف تشغيل مركبة الفضاء "دراغون" التابعة لشركة "سبيس إكس" من الخدمة، كمن يرفض إرسال حاشيته للانضمام إلى الحملة العسكرية للملك.
هذه أمثلة على الإقطاع، وليست على سلطة الدولة المركزية أو الحديثة. يبدو أنّ السلطة أصبحت، بشكل متزايد، مشتركة وموزّعة على نحو غير متماثل، وهي مطلقة فقط في دوائر ضيّقة، وهذه الدوائر متداخلة.
تستحضر هذه التبادلات بين ترامب وماسك، أو ترامب وخامنئي، أوصاف يوهان هويزينغا في كتابه أفول العصور الوسطى، عن زمن كانت فيه الخصومات والثارات "النقطة المحورية للسياسة"، حيث كانت الشعوب تتجمّع خلف شخصيات أرستقراطية تطالب بـ"الانتقام". والمفارقة أنّ هذه الشخصية هي من يضمن الاستقرار السياسي العامّ، فيما ينبئ عدم استقرارها الشخصي بالفوضى السياسية، حيث الكبرياء يدفع ثمنه الشأن العام.
الأرستقراطيون التكنولوجيون مثل ماسك وبيزوس وزوكربيرغ يمتلكون بالفعل ثروات بمستوى ما تمتلكه الدول، مع قوة عملية. وترامب، في ولايته، يصمّم نفسه على غرار شركة تكنولوجية باتت تشبه الحكومات بشكل متزايد. والآن، أصبح بإمكان ترامب التفاوض على وقف إطلاق النار، أو تعطيل حركة المرور في طهران، بتغريدة، وأصبح بإمكان ماسك التهديد بسحب البنية التحتية الفضائية بسبب خلافات شخصية. لقد عدنا إلى عالمٍ تكون فيه الشخصية الفردية هي المهمة، أكثر من المؤسّسات والنظام والقانون.
قبل 20 عاماً، كان هذا أمراً لا يمكن تصوّره. في ذلك الوقت، كان النظام قويّاً. كان الرؤساء قادة فكريين يساعدون على توجيه السفينة، لكنّهم لم يكونوا مسؤولين عنها بمفردهم. أمّا الآن، فيبدو النظام ضعيفاً متشظّياً، وأصبح الاستعراض والعاطفة يبعثان فينا نوعاً غريباً من الطمأنينة: شخصٌ واحدٌ يتولّى القيادة، في عودة إلى الإقطاع الشكسبيري الذي يوحي بالوعد والخطر في آنٍ واحد. والمقصود أنّ "الخطر محدق بإيران".
نقله إلى العربية: حسين قطايا.