"Unherd": وهم أوروبا العظيم.. بريطانيا وفرنسا عالقتان في الماضي

بريطانيا وفرنسا فقيرتان للغاية لتأدية الدور الذي تطمحان إليه.

  • "Unherd": وهم أوروبا العظيم.. بريطانيا وفرنسا عالقتان في الماضي

موقع "Unherd" البريطاني ينشر مقالاً يناقش التحوّلات الجيوسياسية الكبرى التي شهدتها أوروبا والعالم بعد الحرب في أوكرانيا، ويطرح كيف تسببت هذه الحرب في إعادة تشكيل النظام العالمي، خاصة في ما يتعلق بالاتحاد الأوروبي والعلاقات بين الدول الأوروبية والولايات المتحدة. ويطرح النص نقداً لسياسات بعض الدول الأوروبية، لا سيما فرنسا وبريطانيا، وكيف أن كلتيهما تمسكتا بعقائد قديمة تؤثر على الاستجابة للأحداث الجارية.

أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:

يقال إنّ الحروب تجعل الناس محافظين، لأنّها تخاض من أجل فكرة الوطن المهدّد. ومع ذلك، فإنّ مأساتها الفطرية حتّى في حالة الانتصار، تبشر بتحوّلات لم تكن متوقّعة. وها هي الحكاية الثورية تتجلّى مرّة أخرى في أوكرانيا، وتعيد تشكيل أوروبا بطرق لا يمكن فهمها بعد.

إنّ العالم الذي كان سائداً في شباط/ فبراير عام 2014، عندما بدأ "جنود فلاديمير بوتين اليافعون بلباسهم الأخضر في الظهور في شبه جزيرة القرم، قد اختفى الآن بشكل لا رجعة فيه. كان ذلك هو عالم باراك أوباما وأنجيلا ميركل، وعالم نزع السلاح الأوروبّي والترابط العالمي. وقتئذ، كانت روسيا تزوّد أوروبا بالغاز والولايات المتحدة بالدفاع، بينما كانت الصين تزوّد العالم بأسره بالموادّ الخام اللازمة للتكنولوجيات التي ستقود المستقبل. لكنّ كلّ هذا أصبح الآن في حالة يرثى لها، فقد انتهت تلك الحقبة أخيراً نهاية كارثية".

بعد 3 سنوات من ذلك القرار المشؤوم، لا يزال مليون رجل يقاتلون في الخنادق، تطاردهم جيوش الطائرات من دون طيار التي تعمل بالذكاء الاصطناعي، بينما تجري عمليات الهيمنة الإمبريالية من خلال المفاوضات في القاعات الرخامية في المملكة العربية السعودية، حيث يتأرجح التحالف عبر الأطلسي على حافّة الانهيار. كما أنّ الحرب التجارية التي تطلّ بِرأسها تهدّد بدفع الاقتصاد العالمي نحو الركود، ما يهدّد ليس فقط مستقبل حلف "الناتو"، بل النموذج الديمقراطي الاجتماعي الأوروبي بأكمله. ولكن خلف الكواليس في العواصم الأوروبية، لا يزال هناك رفض محبط للتخلّي عن العقائد القديمة. ومن بين أسوأ المخالفين هم أولئك الذين يقودون أداء الاستجابة الأوروبية لدونالد ترامب، أي البريطانيون والفرنسيون.

وبعيداً عن الكلمات الدافئة خلال الأسابيع القليلة الماضية، تتمسك لندن وباريس إلى حدّ كبير بالاستراتيجيات الوطنية المنهكة التي تشبّثتا بها خلال نصف القرن المنصرم، ظل الفرنسيون يتحدّثُون عن الاستقلال الذاتي الأوروبي، ولكنهم في الواقع يسعون إلى الاستقلال الوطني. والبريطانيون يتظاهرون بأنّهم أميركا مصغّرة، ولكنّهم يظهرون كتقليد رخيص لأميركا أكثر من أيّ وقت مضى.

 والمفارقة هي أنّه بقدر ما قد يؤلم أيّاً من الطرفين الاعتراف بذلك، فإنّ كليهما سيكون أقوى إذا أصبح أكثر شبهاً بالآخر.

وكما أشار السفير الفرنسي السابق لدى الولايات المتحدة، جيرارد أرو بشكل متكرّر، عن أنّ إصرار "الديغوليين" على الاحتفاظ ببعض الاستقلال الوطني عن أميركا أثبت بعد نظره أكثر ممّا تودّ بريطانيا أو ألمانيا الاعتراف به. فبينما أعطى الجيش البريطاني الأولوية منذ فترة طويلة للحصول على أحدث قطعة برّاقة من المعدّات العسكرية الأميركية، ولو كانت على حساب أن تصبح بريطانيا أكثر اعتماداً على الولايات المتحدة، اهتم الفرنسيون بأولوية الاحتفاظ بالاستقلال الوطني، حتّى لو كانت التكلفة بدفع الكثير مقابل القليل.

أحد الأمثلة على ذلك هو الإصرار الفرنسي على سياسة سيادية بشأن الفضاء. وهم ينفقون نحو 3 أضعاف ما تنفقه بريطانيا على هذه البرامج، لكنّ الأمر ينتهي بالفرنسيين بمنتج أدنى من المنتج الذي تحصل عليه بريطانيا بفضل الأميركيين. مثال آخر عن الشركة مشغلة الاتّصالات عبر الأقمار الصناعية الفرنسية "يوتليسات"، تريد الآن استبدال شركة "ستار لينك" المملوكة لإيلون ماسك في أوكرانيا من أجل حماية الحكم الذاتي الأوروبي. لكنّ "يوتليسات"، لديها عدد أقل بكثير من الأقمار الصناعية التي تعمل على ارتفاعات عالية ممّا يؤدّي إلى تباطؤ الاتّصالات. بِتعبير آخر، الحكم الذاتي الأوروبي يعني دفع المزيد مقابل منتج أسوأ، على الأقلّ على المدى القصير.

مع ذلك، إنّ الجانب الإيجابي للإصرار الفرنسي على المرونة الوطنية هو أنّه في حالة انسحاب أميركي حقيقي من حلف "الناتو"، وربّما حتّى التحالف بين روسيا وأميركا سيكون لدى الفرنسيين أقلّه الأسس التي يمكن بناء عليها جيش أوروبي مستقلّ حقّاً. وعلى النقيض من ذلك، ركّزت بريطانيا استراتيجيتها بأكملها حول مبدأ قابلية التشغيل البيني مع الولايات المتحدة، وهذا سيجبرها على إعادة بناء كلّ شيء من الصفر.

ومع ذلك، فإنّ النتيجة الطبيعية لإصرار الفرنسيين على المرونة الوطنية، على الرغم من كلّ خطاباتهم عن الحكم الذاتي الأوروبي، لا يستطيعون إجبار أنفسهم على فعل ما هو ضروري للتحرّك بصدق في هذا الاتّجاه، لأنّ ذلك من شأنه أن يقوّض استقلالهم حتماً.

 والمثال الأكثر وضوحاً على هذه المفارقة هو حقيقة أنّه في معركة أوكرانيا الكبرى من أجل البقاء ضدّ روسيا، وهي حرب عدّها الرئيس إيمانويل ماكرون كاختبار وجودي للأمن الأوروبي، لكنّ فرنسا تخلّفت كثيراً عن المملكة المتحدة وألمانيا في توفير الأسلحة اللازمة لكييف للفوز، لأنّها أعطت الأولوية للحسابات الفرنسية الوطنية على التضامن الأوروبي، وكما قال أحد المحلّلين أيضاً، تبدو فرنسا "أكثر إفلاساً فعلاً، حتّى إن قورنت ببريطانيا".

في المحصلة، ساهمت بريطانيا بنحو 10 مليارات يورو في المساعدات العسكرية لأوكرانيا، في مقابل 3.5 مليار يورو فقط من فرنسا. كذلك، كانت بريطانيا مستعدّة لخفض مخزوناتها من الذخائر في سبيل هذا الأمر، حيث قال أحد المسؤولين الإنكليز، "لقد تخلّينا عن كلّ شيء". ووفقاً للتقديرات، لم يتبقّ لدى بريطانيا سوى 14 قطعة من المدفعية الثقيلة في إستونيا، كما يشاع.

لن يستمتع الفرنسيون أبداً بهذا المستوى من التعرّض لسياستهم. ومع ذلك، فإنّ النتيجة هي أنّه في الكفاح من أجل البقاء الوطني لأوكرانيا، أظهرت بريطانيا "تضامناً" أوروبياً أكثر من فرنسا.

إنّ التحدث باللغة الأوروبية والتصرف فرنسياً هو القيد الذي يبدو أنّ باريس غير قادرة على الإفلات منه، ما يحدّ من قدرتها على قيادة القارة إلى الثورة الأوروبية التي طالما دافعت عنها.

وتتكرّر هذه المعضلة دائماً. وقد دعت 20 دولة من دول الاتحاد الأوروبي من ضمنها ألمانيا، إلى تنسيق أكبر مع صناعة الدفاع البريطانية لتعزيز قدرة أوروبا على الصمود، لكن الفرنسيين رفضوا الاقتراح. وقد سعت بريطانيا إلى إبرام اتفاقية دفاعية مع الاتحاد الأوروبي في الأشهر الأخيرة، وقد تعطّلت العملية بسبب إصرار الفرنسيين على التفاوض بشأن الوصول إلى مياه الصيد البريطانية، فكانت النتيجة الحتمية استقلالية فرنسية وضعف أوروبا.

وقد ظهرت قصة مماثلة حول السؤال الأكبر على الإطلاق بشأن الأسلحة النووية. ففي فرنسا يعدّ استقلال سلاح الردع في البلاد مقدّساً. وهو فخر مفهوم خاصة اليوم لأنّ الفرنسيين أقلّ اعتماداً على التعاون الأميركي من نظرائهم البريطانيين. ولهذا السبب بالذات، أثبت الفرنسيون أنّهم غير قادرين على تجاوز العقيدة "الديغولية" التي تنص على أنّ ردعها النووي يخدم فقط مصالحها الوطنية الحيوية، وذلك يعني أنّه لا يمكن مدّه نحو أوروبا.

على النقيض من ذلك، كانت بريطانيا دائماً أكثر استعداداً للاعتماد على التعاون الأميركي، ولكن أيضاً وضعت رادعها النووي في خدمة حلف "الناتو". ولكن في حالة الانعزالية الأميركية واسعة النطاق، فإنّ تكلفة الحفاظ على الرادع الإنكليزي ستكون باهظة.

على هذا النحو، فإنّ عدم الاهتمام بالاستقلال الذاتي الوطني الاستراتيجي جعل من موقف بريطانيا أشبه بعدم اليقين، لأنّه مرتبط بقوّة أميركا العظمى التي تفشل بشكل متزايد في إخفاء ازدرائها لشركائها وحلفائها المتطلّبين. ومهما حدث خلال الأشهر والسنوات المقبلة، ستضطر بريطانيا في مرحلة ما إلى مواجهة السؤال الذي لا تريد الإجابة عنه، ماذا ستفعل عندما يرحل الأميركيون، ولا يكون هناك حلف شمال الأطلسي؟

على هذا تبقى تكاليف الاستقلال الأوروبي الحقيقي عن الولايات المتحدة باهظة للغاية، حيث لا تستطيع بريطانيا أو فرنسا الاستمتاع بها فعلاً. وقد كشف الرئيس السابق للمخابرات البريطانية أليكس يونغر، عن حجم اعتماد أوروبا على الولايات المتحدة، وقال إنّه "لا توجد ظروف" يمكن بموجبها إرسال القوات الأوروبية إلى أوكرانيا من دون اتّفاق سلام، وأنّه حتى مع التوصل إلى صفقة سيكون من" غير المسؤول القيام بذلك من دون دعم استراتيجي من الولايات المتحدة.

ووفقاً لأحد كبار المستشارين العسكريين، تحتاج أوروبا إلى إنفاق نحو 3.5% من ناتجها المحلّي الإجمالي على مدى العقد المقبل لمجرد جعل جيوشها في وضع يسمح لها بردع العدوان الروسي بشكل مستقلّ. وحتّى ذلك الحين ستكون القوى الجماعية في أوروبا عرضة للتوغل الروسي في دول البلطيق من دون قدرة على صدّه بلا الأميركيين.

وعند هذا المستوى من الإنفاق الدفاعي، أوروبا مضطرّة للبقاء تحت المظلة النووية الأميركية. ويعتقد المستشارون العسكريون أنّ أوروبا من دونها تظلّ عرضة للإكراه النووي، خاصة أنّ القارة ليس لديها أسلحة نووية تكتيكية، كما يكشف المسؤولون بصراحة، وأنّ الاستجابة ستكلف بريطانيا وفرنسا ما يقرب من 4.5% من الناتج المحلّي الإجمالي، إلّا إذا موّلها الألمان.

ولكن في حين أنّ الحكم الذاتي النووي لا يزال العرض الكبير لفرنسا وبريطانيا في السنوات المقبلة، الذي يعيد تشكيل القارة في القرن الجاري، لا يبدو أنّ هناك قدرة أو رغبة فعلية لتحقيق ذلك.

في أوكرانيا يُنتج الآن ما يصل إلى مليوني طائرة من دون طيار كلّ عام، معظمها تتمتّع بتقنية الذكاء الاصطناعي. وتدرّب كييف جنودها على شنّ عمليات مشتركة باستخدام أسراب من المسيرات في البر والبحر، في حين يعتمد جيشها التقليدي على الاستخبارات والتكنولوجيا الأميركية المتطوّرة التي لا تمتلكها أوروبا، في وقت تتغيّر  طبيعة الحرب نفسها، والتي بدورها ستجبر جيوش أوروبا والولايات المتحدة على إحداث ثورة داخلية بغضّ النظر عن النتيجة.

في المقابل، يعتمد كلّ من إنتاج الطائرات من دون طيّار في أوكرانيا والقوّة العسكرية الأميركية على إمدادات المعادن الحيوية والنادرة والتي يُحصل عليها عبر شبكة عالمية معقّدة للغاية توجب حمايتها بالقوّة العسكرية.

وإذا كانت أوروبا جادّة بشأن استقلاليتها، فلن تحتاج فقط إلى جيوشها، ولكن أيضاً إلى إمداداتها الخاصة من المعادن الحيوية والذكاء الاصطناعي ومصانع أشباه الموصّلات ومصادر الطاقة الموثوقة. ولكلّ هذه الأسباب لا تسارع بريطانيا ولا فرنسا اليوم إلى اغتنام الفرصة التي أتاحها ترامب أمام "الاستقلال" عن الولايات المتحدة، الذي لا يستطيع أي منهما تحمله. والمشكلة الحقيقية أنّ بريطانيا وفرنسا فقيرتان للغاية لتأدية الدور الذي تطمحان إليه.

في العام الماضي، عانت الحكومة الفرنسية من عجز يزيد عن 6%، وهو ما يتجاوز الحدود التي تطالب بها المفوّضية الأوروبية. ومع ذلك، فقد ثبت حتى الآن أنه من المستحيل حشد أغلبية في الجمعية الوطنية لتمرير ميزانية للسيطرة على الأمر. وبدلاً من ذلك، اعتمدت باريس على السلطات الدستورية لسن الميزانية من دون تصويت الجمعية الوطنية الفرنسية. وفي الوقت عينه في بريطانيا، التي لديها مستويات مماثلة من الديون الوطنية، ومع أنّ الحكومة بأغلبية كبيرة، لكنها تستعد لبيان الربيع الذي يعتقد معظم المحلّلين أنّه سيتضمن توقعات خيالية بتخفيضات في الإنفاق غير قابلة للتحقّق.

الحقيقة المؤلمة التي تواجه كلّ من لندن وباريس هي أنّه في حين بريطانيا ستحتاج إلى أن تصبح أكثر فرنسية لتزدهر في عالم تنسحب منه أميركا، وأيضاً ستحتاج فرنسا إلى أن تصبح أكثر بريطانية في استعدادها للاعتماد على الآخرين، ولا ريب أنّّ البلدين محتاجان أن يصبحا شيئاً جديداً إذا أرادا أن يصبحا مستقلّين حقّاً في هذا العالم الجديد.

لاحظ هنري كيسنجر أنّ دونالد ترامب قد يكون "إحدى تلك الشخصيات في التاريخ التي تظهر من وقت لآخر للاحتفال بنهاية حقبة وإجبارها على التخلّي عن المزاعم القديمة". لكن، لا يبدو أنّ بريطانيا أو فرنسا على استعداد للتوقف عن التظاهر  بعكس ذلك.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.