"جيوبوليتيكا": كيف صعدت المقاومة الحضارية؟
إنّ الانهيار الأخلاقي لليبرالية لا يمثل مجرد تحول سياسي، بل نقطة تحول حضاري. ومع تراجع الهيمنة الغربية، تبرز فرصة لبناء عالم أكثر عدلاً وتنوعاً وروحانية.
-
"جيوبوليتيكا": كيف صعدت المقاومة الحضارية؟
موقع "جيوبوليتيكا" ينشر مقالاً قدّم فيه نقداً جذرياً لليبرالية الغربية، وتصوراً لنهاية هيمنتها العالمية وبداية عصر جديد قائم على "المقاومة الحضارية" وتعدد الأقطاب.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
كانت الليبرالية، التي عُدّت يوماً التطوّر النهائي للتنظيم السياسي البشري، تعِد بالحرية والكرامة والازدهار للجميع. فقد نشأت من عصر التنوير، وروّجت لقيم مثل الحقوق الفردية والديمقراطية والأسواق الحرة، وادّعت تفوقاً أخلاقياً على جميع الأيديولوجيات الأخرى. بيد أنّ ما نشهده اليوم هو انهيار تلك الوعود. فقد تحوّل النظام الليبرالي إلى جهاز للهيمنة، يشن الحروب باسم السلام، ويفرض العقوبات التي تخنق الشعوب، ويصدّر العدمية الثقافية متخفيةً في عباءة "القيم العالمية".
إنّ الخيانة عميقة، فالحضارة التي زعمت الدفاع عن كرامة الإنسان باتت تدوس عليها في سبيل الحفاظ على الهيمنة العالمية.
الإفلاس الأخلاقي لليبرالية
في أنحاء العالم، تتكشف التناقضات الأخلاقية لليبرالية. فباسم "حقوق الإنسان" و"الحرية"، شنّت القوى الليبرالية حروباً مدمرة: العراق، أفغانستان، ليبيا. أما أنظمة العقوبات ضد إيران وفنزويلا وسوريا، فقد تسببت بمعاناة لا توصف للمدنيين. لم تُرَسِّخ الليبرالية السلام، بل أسست للقسر كمنهج.
داخلياً، تعاني الدول الليبرالية من التآكل الذاتي. فقد بلغت مستويات عدم المساواة حدوداً تاريخية، وتهاوت الثقة بالمؤسسات الديمقراطية. وصعود أنظمة المراقبة، والرقابة المقنّعة بمحاربة "المعلومات المضللة"، والتفكك الاجتماعي، كلها مؤشرات على نظام عاجز عن الوفاء بوعوده.
فلسفياً، انكشف ادعاء الليبرالية بالكونية على أنه مجرد قناع للخصوصية الغربية. فمؤسساتها، مثل الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، لا تخدم الإنسانية، بل مصالح الأوليغارشية الأطلسية. ومن خلال أدوات مثل شروط القروض وسياسات التقشف المفروضة، عمّقت هذه المؤسسات الفقر والتبعية السياسية في الجنوب العالمي بدلاً من أن تساهم في تنميته الحقيقية.
صعود المقاومة الحضارية
في المقابل، يشهد العالم موجة متصاعدة من المقاومة الحضارية. هذه ليست قومية ضيقة، بل هي تأكيد أعمق على طرق بديلة في الوجود والمعرفة وتنظيم المجتمعات.
في إيران، تواصل الجمهورية الإسلامية طرح نموذج حكم إسلامي قائم على السيادة الروحية. أما روسيا، فتستعيد هويتها الأرثوذكسية والحضارية تحت راية الأوراسية. وتقدّم الصين اشتراكية كونفوشية تدمج بين التقاليد والتحديث خارج الأطر الغربية. وفي أميركا اللاتينية، نشهد ولادة جديدة للتضامن البوليفاري، بينما تستعيد أفريقيا تدريجياً معارفها الأصلية.
المقاومة الحضارية ليست عودة إلى العزلة، بل هي إصرار على التعددية القطبيةـ على حق الثقافات المختلفة في تعريف الحداثة بشروطها الذاتية.
نحو عالم متعدد الأقطاب
لقد انتهى الزمن الأحادي القطب. فالنظام العالمي الناشئ متعدد الأقطاب بطبيعته، تصوغه حضارات متعددة. وبينما سعت الليبرالية إلى طمس الخصوصيات الثقافية لصالح التجانس، فإن المستقبل ملكٌ لتعدد الحضارات.
فالشراكات الاستراتيجية بين إيران وروسيا والصين، وتوسّع مجموعة "بريكس"، وتزايد التعاون بين دول الجنوب، كلها شواهد على أن المقاومة ليست دفاعية فقط. بل إنها بناء خلاق لنظام عالمي بديل يقوم على الاحترام لا الهيمنة.
وهذه الحضارات المتجذرة في تقاليد روحية وثقافية عريقة، تملك من الصلابة ما تفتقده الحداثة الليبرالية ذات الروح الاستهلاكية العابرة.
أما الليبرالية الغربية، التي تعاني من التراجع السكاني، والإرهاق الأخلاقي، والتورط الاستراتيجي، فهي عاجزة عن قلب هذا المسار. لم يعد المركز قادراً على الصمود.
نهاية إمبراطورية.. وبزوغ الحضارات
إنّ الانهيار الأخلاقي لليبرالية لا يمثل مجرد تحوّل سياسي، بل نقطة تحوّل حضاري. ومع تراجع الهيمنة الغربية، تبرز فرصة لبناء عالم أكثر عدلاً وتنوّعاً وروحانية.
فالمقاومة الحضارية لا تنبع من الكراهية، بل من الحب للتقاليد، وللهوية، ولمستقبل لا يُختزل فيه الإنسان إلى مجرد وحدة اقتصادية، بل يُكرَّم ككائن يحمل معنى متجاوزاً.
وفي هذا العصر الجديد، تبهت الإمبراطورية، وتشرق شمس الحضارات. وفي فجر عصر الحضارات، لا بدّ أن يحلّ الحوار بين الثقافات محلّ المونولوج القادم من حضارة تتهاوى.
نقله إلى العربية: الميادين نت.