"ذا إنترسبت": 50 عاماً على الاستقلال ولا يزال الفيتناميون يُقتلون
الحروب الأميركية تستمر في قتل الناس بعد فترة طويلة من صمت المدافع.
-
ضحية لغم أرضي يعرض جروحه الناجمة عن انفجار ذخيرة غير منفجرة تعرّض لها عندما كان في الصف الخامس في مقاطعة كوانج تري، فيتنام
موقع "ذا إنترسبت" الأميركي ينشر مقالاً يناقش الآثار الكارثية والممتدة لحرب فيتنام وتداعيات السياسة الخارجية الأميركية على مدى العقود التالية، وخاصة في جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط. كما ينتقد السياسات العسكرية الأميركية المستمرة، ويوضح كيف أنّ آثارها لا تنتهي مع نهاية الحرب رسمياً، بل تمتدّ لعقود مسبّبة الموت والدمار للأجيال القادمة.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
كان لاختراق دبّابة بوابة القصر الرئاسي في سايغون قبل 50 عاماً، بمثابة إعلان عن سقوط دولة فيتنام الجنوبية، ونهاية حرب استقلال فيتنام الطويلة التي خاضها الفيتناميون، ولا سيّما مراحلها الأخيرة ضدّ القوة العسكرية الساحقة للولايات المتحدة، التي خسرت حربها، لكنّ فيتنام تدمّرت، واشتعلت الحروب في بلدان جوارها مثل كمبوديا ولاوس، مخلّفة دماراً بالقدر نفسه.
لقد أطلقت الولايات المتحدة ما يقدّر بنحو 30 مليار رطل من الذخائر في جنوب شرق آسيا، أدّت إلى قتل ما لا يقلّ عن 3.8 ملايين فيتنامي تحت نيران الحرب الوحشية، وأجبر ما يقدّر بنحو 11.7 مليون فيتنامي جنوبي على ترك منازلهم، وقام الجيش الأميركي بنثر مبيدات الأعشاب السامّة مثل (العامل البرتقالي)، التي أضرّت بمستوى بالغ بنحو 4.8 ملايين فيتنامي.
كان يوم 30 نيسان/أبريل 1975، كما لحظ جوناثان شيل في "مجلّة نيويوركر" حينئذ، أنّه منذ يوم 1 أيلول/سبتمبر 1939، حين بدأت الحرب العالمية الـ2، "للمرّة الأولى يسود ما يشبه السلام التامّ في جميع أنحاء العالم". ربّما كان سلاماً على الورق فقط، لأنّ العنف لم يتوقّف حقّاً.
فلقد بذلت الولايات المتحدة كلّ ما في وسعها لإعطاب فيتنام وشلّها بعد تحريرها وتوحيدها. وعوضاً من تقديم المليارات من المساعدات الموعودة لإعادة الإعمار، ضغطت على المقرضين الدوليين مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لرفض طلبات فيتنام للحصول على المساعدة.
فلم يكن أمام الأمّة الموحّدة حديثاً خيار، سوى حراثة حقول الأرز المليئة بالقنابل الأميركية غير المنفجرة وقذائف المدفعية والصواريخ والذخائر العنقودية والألغام الأرضية والقنابل اليدوية وغيرها، حيث استمرّت خسائر الحرب في الارتفاع، وسقط 100 ألف ضحية أخرى من الفيتامين من جرّاء ذلك، خلال 50 عاماً منذ انتهاء الصراع رسمياً، كما سقط العديد من الضحايا في الدول المجاورة لفيتنام في جنوب شرق آسيا.
بعد كلّ ذلك، كان يمكن لأميركا أن تتعلّم شيئاً ما، على الأقلّ على حساب أرواح أكثر من 58 ألف أميركي، وهدر ما تقدّر قيمته الحالية بتريليون دولار.
كما كان من الممكن أن تؤدّي الهزيمة الصادمة التي لحقت بأميركا على أيدي المقاتلين الفيتناميين و"القوة الصغيرة من الدرجة الـ4 مثل فيتنام الشمالية"، بحسب ما سمّاها وزير الخارجية الأميركي آنذاك هنري كيسنجر، إلى إحداث تغيير دائم في السياسة الخارجية الأميركية وكان يمكن للولايات المتحدة أن تتصدّى للمعاناة التي ألحقتها بجنوب شرق آسيا، وتتعهّد بعدم تحويل منطقة أخرى من العالم إلى بيت خراب ومكبّ للذخائر كما فعلت بفيتنام.
وكان يمكن للأشخاص الذين قادوا الولايات المتحدة إلى الحرب وأولئك الذين تولّوا السلطة منذ ذلك الحين أن يستوعبوا مدى خطورة الغطرسة، وعجز القوة العسكرية عن تحقيق الأهداف السياسية، والتكاليف الباهظة لإطلاق العنان لقوة النيران المدمّرة على أمّة صغيرة، وكان بإمكانهم تبنّي مزايا السياسة الخارجية المنضبطة.
لقد حاول الكونغرس للحظة وجيزة جداً أن يطالب بأن تكون المخاوف المتعلّقة بشأن حقوق الإنسان مدرجة في السياسة الخارجية الأميركية. ولكن سرعان ما تبخّرت هذه الرغبة. وبدلاً من ذلك، غضّت الطرف عن استمرار سقوط الضحايا في فيتنام، ودعمت نظام الإبادة الجماعية في كمبوديا المجاورة لتلحق المزيد من الأذى بالبلد الذي عقدت معه السلام توّاً. وسرعان ما ضاعفت من جهودها لتحويل هزيمتها المهينة في جنوب شرق آسيا إلى حرب استمرّت 20 عاماً في جنوب غرب آسيا، ضدّ خصوم أضعف منها، وانتهت بخسارة مذلّة أخرى.
لقد "تعلّمنا أنّ جيوشنا لا تقهر أبداً، وقضايانا عادلة دائماً، ولن نعاني عذاب فيتنام"، بحسب ما قال الرئيس الأميركي جيمي كارتر في "خطابه المحزن" الشهير في 15 تموز/يوليو العام 1979، بينما كان يزعم بشكل متناقض أنّ "القوة الخارجية لأميركا" لا مثيل لها، وبلاده "أمة تنعم بالسلام الليلة كما بقية العالم، وهي تتمتّع بقوة اقتصادية وعسكرية هائلة".
لكنه حين كان يطلق هذه الكلمات أمام الشعب الأميركي، كان كارتر يجهّزُ في الوقت عينه لعمليات سرّية زرعت بذور الغزو السوفياتي لأفغانستان، وهجمات 11 أيلول/سبتمبر الشهيرة، وأكثر من عقدين من الحروب الأبدية. لقد كانت أميركا تقايض عذاباً بعذاب آخر، وتتّخذ خيارات متهورة من شأنها أن تلحق الألم بشعبها والدمار بمنطقة أخرى بأكملها.
في 3 تموز/يوليو 1979، سمح كارتر لوكالة المخابرات المركزية الأميركية بتقديم مساعدات سرّية للمتمرّدين المجاهدين الناشئين في أفغانستان، الذين يقاتلون النظام المدعوم من الاتحاد السوفياتي. ويتذكّر مستشار الأمن القومي لكارتر زبيغنيو بريجنسكي تلك المرحلة، "حينها كتبت مذكّرة إلى الرئيس شرحت له فيها أنّ هذه المساعدات ستؤدّي في رأيي إلى تدخّل عسكري سوفياتي". وعندما تحقّقت توقّعاته في وقت لاحق من ذلك العام، ابتهج بريجنسكي وقال: "لدينا الآن الفرصة لمنح الاتحاد السوفياتي حرب فيتنام خاصّة به".
كان لإشعال الحرب بغرض الانتقام بالوكالة تكاليف باهظة. فبالنسبة للاتحاد السوفياتي، أصبح الصراع "جرحاً نازفاً"، بحسب تعبير زعيم الدولة آنذاك ميخائيل غورباتشوف. وعلى مدى 9 سنوات خسر الاتحاد السوفياتي نحو 14,500 من جنوده. أمّا الأفغانيون، فقد عانوا ممّا هو أسوأ من ذلك بكثير، حيث قتل ما يقدّر بمليون مدني، بينما مهّد الانسحاب السوفياتي في عام 1989 الطريق لحرب أهلية وحشية أعقبها استيلاء طالبان على البلاد.
كما أدّى الصراع السرّي من قبل أميركا وحلفائها باكستان والمملكة العربية السعودية إلى تمكين المتطرّفين الإسلاميين بمن فيهم أسامة بن لادن، والتأسيس أيضاً لصعود جماعته الإرهابية، تنظيم "القاعدة". وبعد عامين تفكّك الاتحاد السوفياتي، وزال من الوجود، حيث سرعان ما حوّل بن لادن انتباهه إلى الأهداف الأميركية.
وفي عام 2001، خطف 19 انتحارياً من تنظيمه طائرات ركّاب مدنية لقتل ما يقرب من 3000 شخص في مركز التجارة العالمي في نيويورك والبنتاغون، وفي شانكسفيل في بنسلفانيا. وقد تمكّنوا من خلال ذلك من تحريض القوة العظمى الوحيدة في العالم عن التخلّي عن ردّ فعل مدروس من جانب أجهزة إنفاذ القانون على الهجمات تلك، واستبداله بـ"حرب عالمية مدمّرة على الإرهاب"، امتدّت لتصبح حروباً دائمة، من أفغانستان، إلى باكستان، والصومال، والعراق، وليبيا، ومنطقة الساحل الأفريقي، وسوريا، واليمن، وغيرها.
وقد استغرق الأمر من الولايات المتحدة حتّى عام 2011 لتستطيع قتل بن لادن في النهاية، ولكنّ الصراع الذي أشعله احتدم بغيابه أيضاً، حيث معاناة الولايات المتحدة من جمود مربك في مناطق حرب متعدّدة، وهزيمة محرجة أخرى، هذه المرّة في أفغانستان.
ولكن كما هو الحال مع فيتنام، عانى الآخرون أكثر بكثير من الأميركيين. فقد لقي أكثر من 905,000 شخص حتفهم، بسبب العنف المباشر في الحروب الأبدية، وفقاً لبيانات "مشروع تكاليف الحرب التابع لجامعة براون".
كما قتل نحو 3.8 ملايين شخص آخرين بشكل غير مباشر بسبب الانهيار الاقتصادي، وتدمير البنية التحتية الطبية والصحية العامّة، وأسباب أخرى. وقد نزح ما يصل إلى 60 مليون شخص، بسبب حروب ما بعد 11 أيلول/سبتمبر في أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا وليبيا، واليمن، والصومال، والفلبين. وقد اشترت حكومة الولايات المتحدة كل هذا الموت والمعاناة مقابل فاتورة "جزار" بلغت نحو 8 تريليونات دولار أميركي، وما زالت في تصاعد.
كذلك أبقى الرئيس دونالد ترامب على الرغم من زعمه أنّه "صانع السلام"، على الحروب الأبدية مشتعلة بهجمات في العراق، والصومال، وسوريا، واليمن. كما يهدّد أيضاً بالحرب على إيران، في عودة إلى فترة الاندفاعة الأولى للحرب على "الإرهاب"، عندما كانت السخرية الشائعة بين المحافظين الجدد هي "الجميع يريد الذهاب إلى بغداد، أمّا الرجال الحقيقيون فيريدون الذهاب إلى طهران".
إنّ هذا الصراع إذا اندلع قد يؤدّي إلى سقوط عشرات أو مئات الآلاف من الضحايا. وإذا ما تطوّر إلى ضربات نووية إسرائيلية على إيران، فقد يلقى الملايين حتفهم.
حتّى إنّ إدارة ترامب وجدت طريقة لإضافة المزيد من الضحايا إلى حصيلة حرب فيتنام، حيث أدّى تجميد ترامب للمساعدات الخارجية لمدة 90 يوماً إلى توقّف البرامج التي تموّلُها الولايات المتحدة في جنوب شرق آسيا، بما في ذلك مبادرات إزالة الألغام.
ومؤخّراً قتلت قنبلة أميركية من مخلّفات الحرب مجموعة من المراهقين والأطفال، ممّا أدّّى إلى استئناف المساعدات العسكرية، ولكن من دون أن يعرف إلى متى وبأيّ قدر، مع ذلك الحاجة ماسّة لها.
وحتّى العام 2023، كانت ملايين فدادين الأرض في فيتنام أي ما يقرب من خمس مساحة البلاد، لا تزال ملوّثة بالذخائر الأميركية، التي قد يصل حجمها غير المنفجر والمنتشرة في جميع أنحاء البلاد إلى 800 ألف طن. ويقول الخبراء إنّ معالجة جنوب شرق آسيا قد يستغرق قرناً أو أكثر، في حال استمرّت المساعدة الأميركية الكاملة والمتواصلة.
وعلى المدى البعيد، قد يقوّض الانسحاب المفاجئ أو التخفيض المفاجئ للدعم الأميركي برامج إزالة الذخائر غير المنفجرة المنطقة على نحو دائم، إذا لم تلبِ التمويلات والبرامج البديلة هذا الفراغ.
كما تعدّ مشكلة الألغام الأرضية والذخائر غير المنفجرة في لاوس وكمبوديا وفيتنام من أكثر المشكلات إلحاحاً وتعقيداً في العالم، وتتطلّب تمويلاً مستمرّاً ونهجاً متعدّد الجوانب على مدى عقود عديدة، وفقاً لما صرّحت به سيرا كولابدارا، الرئيسة التنفيذية لمنظّمة "إرث الحرب"، وهي منظّمة أميركية تعنى بالتعليم، وتركّز نشاطها على الدعوة إلى إزالة الألغام، وأضافت: "من دون هذا الدعم، ستتعثّر جهود حلّ هذه المشكلات بشكل كبير".
قبل أكثر من 15 عاماً، سافرت في أنحاء فيتنام، وقابلت ناجين من الحرب الأميركية الطويلة والمميتة، وغطّيت عمل فريق محلّي لإزالة الألغام. تحدّثت مع آباء وأمّهات قُتل أولادهم أو أفراد من عائلاتهم، وأطفال أيتام بعضهم شوّهوا بالذخائر الأميركية، ومن بينهم فتاة تدعى فام ثي هوا التي عانت عائلتها كثيراً من جرّاء الحرب الأميركية على بلادهم.
وكان الجدّ الأكبر لخمسة أجيال من عائلة فام قد قُتل في عام 1969، حين قصفت قريتهم. وفي العام نفسه، ماتت عمّة أحد الأجداد مع 3 من أبنائها بالطريقة نفسها. وفي وقت ما بعد انتهاء الحرب في عام 1975، قتل الجدّ الأكبر الآخر لعائلة فام بلغم أرضي. وتوفّي أحد أعمامها بسبب انفجار قنبلة أميركية في عام 1996. وفي عام 2007، قتل والد فام ووالدتها وشقيقها البالغ من العمر 3 سنوات بقذيفة مدفعية أميركية غير منفجرة من عيار 105 ملم.
تركت فام انطباعاً لا يمحى في نفسي. وصلت إلى قريتها بعد ظهر أحد الأيام متوقّعاً إجراء مقابلة مع شابة تبلغ من العمر 18 عاماً. عندما توقّفت سيارتي، أقبلت نحوي فتاة صغيرة تبلغ من العمر 8 سنوات بعيون بنّية كبيرة وابتسامة مشرقة. مزّقت قلبي، وبطريقة أو بأخرى، عرفت أنّه قد ضللت، وأنّ الناجية الوحيدة هي طفلة.
كنت أعرف أيضاً أنّه لا يمكنني أن أسأل هذه الطفلة عمّا حدث لعائلتها. عندما غابت عن ناظري، قدّمت جدتها سرداً بسيطاً، ولكن بشعاً عن الجثث الممزّقة إلى نصفين وطفل صغير تحوّل إلى صندوق مليء بالأحشاء.
لم أبقَ على تواصل معها، ولكن يجب أن تكون فام في الـ 25 من عمرها. هناك احتمال أنّها متزوّجة وربّما لديها أطفالها. سوف يكبرون في فيتنام الملوّثة بالمخلّفات القاتلة للحرب الأميركية التي انتهت منذ 50 عاماً. بينما، لم يتحدّد بعد عدد الأجيال التي ستعيش مثل هذه العائلة في مثل هذا الأخطار. ويمكن قول الشيء نفسه عن الناس في أفغانستان وكمبوديا والعراق ولاوس وسوريا وغيرها من البلدان الذين تعرّضوا ولا يزالون لمآسي الحرب الأميركية على بلدانهم ومناطقهم.
لا تنتهي الحروب عندما تنتهي على الورق. فالصراعات الأميركية تستمر في قتل الناس بعد فترة طويلة من صمت المدافع. وقد يعتمد عدد الأشخاص الذين سيموتون أكثر جزئياً، على قرارات إدارة ترامب في الأسابيع والأشهر المقبلة.
لا أحد يعرف عدد السنوات التي ستستغرقها إزالة الذخائر غير المنفجرة في جنوب شرق آسيا. سيعتمد كلّ هذا على الموارد المتاحة. والأمر الأهمّ الذي يجب أن نضعه على رأس أولوياتنا هو عدد الأرواح التي يمكننا إنقاذها من مخلّفات هذه الحرب المستمرّة.
نقله إلى العربية: حسين قطايا.