"ذا تلغراف": عزل وتعنيف وصعق بالكهرباء.. ماذا يحدث داخل مراكز الاحتيال في جنوب شرق آسيا؟

تقوم معسكرات العمل القسري، التي يديرها تجّار البشر باختلاس مليارات الدولارات من الضحايا الغافلين على مستوى العالم.

  • لا يزال آلاف من ضحايا الاتجار بالبشر المحررين محتجزين في معسكرات مكتظة وغير صحية في ميانمار
    لا يزال آلاف من ضحايا الاتجار بالبشر المحرّرين محتجزين في معسكرات مكتظة وغير صحية في ميانمار

صحيفة "ذا تلغراف" البريطانية تنشر تقريراً تناول قضية انتشار مراكز الاحتيال في دول جنوب شرق آسيا، مستندة على شهادة شاب بنغالي. وروى الشاب تجربته وكيف تعرّض للتعذيب مع آلاف الأشخاص الذين وقعوا ضحية هذه المراكز.

أدناه نص التقرير منقولاً إلى العربية:

لقد كانت العقوبات وحشية. في حال لم يتمكّن أريان من جمع مبلغ 15,500 جنيه إسترليني شهرياً عن طريق الاحتيال على الناس حول العالم عبر الإنترنت، فسيتعرّض للضرب والصعق بالكهرباء والحبس داخل خزانة شديدة الظلمة لمدة 24 ساعة. 

"دخلتُ الغرفة المظلمة مرتين لأنني لم أحقّق الهدف المنشود. ثم جاءوا، وركلوني، وصعقوني بالكهرباء، ولكموني. بكيتُ كثيراً ودعوت الله أن ينقذني"، هذا ما قاله الشاب البالغ من العمر 25 عاماً لصحيفة "تلغراف". 

كانت الحياة في المعسكر الخرساني مختلفة تماماً عن الوظيفة ذات الأجر الجيّد التي توقّعها أريان عندما تقدّم للوظيفة للمرة الأولى. درس أريان العلوم السياسية في بنغلاديش وعمل في دبي منذ تخرّجه من الجامعة. وكان يكسب نحو 230 جنيهاً إسترلينياً شهرياً في قطاع الضيافة، بسبب قلّة فرص العمل في وطنه. وفي آب/أغسطس 2024، عُرضت عليه فرصة مضاعفة راتبه 4 مرات كمشغّل حاسوب في تايلاند. إلا أنّ هذه الوظيفة لم تكن موجودةً في الأصل. فقد نُقل أريان و4 من أصدقائه عبر الحدود التايلاندية إلى ميانمار التي مزّقتها الصراعات، حيث أُجبروا على العمل في أحد مئات مراكز الاحتيال الإلكتروني التي تختلس مليارات الدولارات من الضحايا الغافلين على مستوى العالم.

وفي هذا السياق، قال أريان: "كان معي أشخاص من سريلانكا وبنغلاديش وإثيوبيا ونيجيريا واليابان والبرازيل وجنوب أفريقيا، وجميعنا تلقّينا وعوداً زائفة بالحصول على راتب جيد في تايلاند. إنّ الاحتيال على الناس عبر الإنترنت ليس أمراً جيداً، لكن لم يكن أمامنا خيار آخر".

من الصعب التقليل من شأن مدى اتساع وربحيةّ معسكرات العمل القسري هذه في جنوب شرق آسيا، حيث استغلت العصابات الإجرامية والجماعات المسلحة والمسؤولون الفاسدون الفراغ في السلطة الناجم عن سوء الحكم والحرب. وتوجد أغلبها في منطقة ميكونغ في جنوب شرق آسيا، ولا سيما في ميانمار ولاوس وكمبوديا. ووفقاً لتقرير صادر عن معهد الولايات المتحدة للسلام (USIP)، تتمّ سرقة ما لا يقلّ عن 43.8 مليار دولار أميركي (33.8 مليار جنيه إسترليني) سنوياً من قِبل محتالين متمركزين في هذه الدول وحدها، وهو رقم يُعادل تقريباً 40% من ناتجها المحلي الإجمالي مجتمعاً. وتُشير التقديرات إلى أنّ هناك ما لا يقلّ عن 300 ألف شخص محاصرين في هذه الدول.

وتطال عمليات الاحتيال التي يقومون بها كلّ ركن من أركان العالم، حيث يتمّ الاحتيال على مئات الآلاف من الأفراد والشركات من خلال مجموعة واسعة من عمليات الاحتيال عبر الإنترنت والنصب والابتزاز. وأكثر هذه العمليات شيوعاً هو ما يُسمّى بـ"ذبح الخنازير" (pig butchering)، التي يُنشئ من خلالها المحتالون علاقات عاطفية أو شخصية مع ضحاياهم، قبل الادّعاء بالوقوع في أزمة وطلب المال. ويُقدّر مكتب التحقيقات الفيدرالي (FBI) أنّ 4 مليارات دولار أميركي قد سُلبت من عشرات الآلاف من الأميركيين من خلال عملية "ذبح الخنازير" في عام 2023 وحده.

وفي بعض الحالات، لم يخسر الناس مبالغ طائلة من المال لصالح المحتالين فحسب، بل خسروا حياتهم أيضاً، بعد أن أدّت الخسائر المالية أو التهديد بالإذلال بعمليات الاحتيال الجنسي إلى الانتحار. فعلى سبيل المثال، انتحر دينيس جونز، وهو جدّ يبلغ من العمر 82 عاماً في فرجينيا، العام الماضي بعد أن خسر مدخّرات حياته لصالح امرأة تُدعى "جيسيكا" عبر الإنترنت.

وفي هذا الصدد، قال مورغان مايكلز، الباحث في شؤون الأمن والدفاع في جنوب شرق آسيا بمعهد الدراسات الاستراتيجية: "لم تظهر مراكز الاحتيال الإلكتروني إلا في السنوات الأربع أو الخمس الماضية. وقد أصبحت بالفعل مؤسساتٍ إجراميةً منظّمة تقوم بعمليات احتيال بمليارات الدولارات".

 إلا أنه في الآونة الأخيرة، تغيّر الوضع. فخلال الشهر الفائت، أنقذت عملية مشتركة بين الصين وتايلاند وميانمار نحو 7,500 شخص من مراكز الاحتيال في محيط مياوادي، وهي بلدة حدودية في ميانمار معروفة بسمعتها السيئة. وكانت هذه العملية واحدة من أكبر عمليات إنقاذ الأشخاص المكرهين على العمل في التاريخ الحديث، والقادمين من 30 دولة مختلفة.

انطلقت عملية الملاحقة هذه في إثر اختفاء ممثّل صيني بارز (تمّ إنقاذه لاحقاً) يُدعى وانغ شينغ في كانون الثاني/يناير. إذ انتشرت قصته على نطاق واسع في جميع أنحاء الصين، ما دفع السلطات إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة. وأشار ريتشارد هورسي، الباحث في شؤون ميانمار في مركز أبحاث مجموعة الأزمات الدولية، إلى أنّ مراكز الاحتيال باتت مشكلة مزعجة للصين، لأنّ الكثير من مواطنيها وقعوا ضحايا اختطاف أو احتيال. وقد أصبحت هذه الحالات بارزة جداً في الصين على وسائل التواصل الاجتماعي؛ لذا، هناك شعور بأنها ستضرّ بالحزب الشيوعي في حال لم يُظهر قدرته على فعل شيء حيالها". 

وبضغط من بكين، قطعت تايلاند إمدادات الكهرباء والوقود والإنترنت عبر الحدود عن عدة بلدات في ميانمار معروفة باستضافتها لهذه العصابات. كما عزّز الجيش والشرطة في تايلاند دورياتهما وعملا على إقامة نقاط تفتيش على الطرق في مواقع استراتيجية عبر الحدود الممتدة لمسافة 1,500 ميل مع ميانمار، وسحب أيّ أجنبي يصل إلى مطار ماي سوت، نقطة الانطلاق الرئيسة لمهرّبي البشر إلى مدينة مياوادي، للاستجواب.

كان أصدقاء أريان من بين الذين أُنقذوا مؤخّراً من أحد مراكز الاحتيال في ميانمار، وقد عادوا إلى بنغلاديش الأسبوع الفائت بعد شهر من احتجازهم في مركز احتجاز مؤقت على الحدود. وصرّحت وزارة الخارجية التايلاندية الأسبوع الماضي بأنّ نحو 4,800 شخص عادوا إلى بلدانهم الأصلية، من بينهم نحو 3,600 مواطن صيني نُقلوا على متن رحلات جوية مستأجرة. لكن آلافاً آخرين ممن أُطلق سراحهم لا يزالون محتجزين في معسكرات مكتظة وغير صحية في ميانمار، وسط صعوبات في إعادتهم إلى ديارهم. 

وقال أريان لصحيفة "تلغراف"، مستذكراً فترة احتجازه، إنه أدرك للمرة الأولى تعرّضه للخداع عند وصوله إلى تايلاند قادماً من دبي، ولكن الوقت كان قد فات. وتمّ نقله مع آخرين من قبل عصابة إلى مجمّع بالقرب من كياوهات في ميانمار، على بعد 25 ميلاً جنوبي مياوادي - حيث تنتشر المخدرات والدعارة وعمليات الاحتيال الإلكتروني. 

كان المعسكر واقعاً عند سفح جبل ومحاطاً بغابة ويخضع لحراسة مشدّدة. وكان يضم 7 مبانٍ متعددة الطوابق، كل منها بحجم مستودع، بنوافذ عالية. وقال أريان إنه أُجبر على النوم في مسكن قذر مع 9 آخرين على أسرّة بطابقين، وإنه كان يقضي أيامه أمام جهاز الكمبيوتر، يتواصل عبر الإنترنت مع ما يصل إلى 50 شخصاً حول العالم يومياً، في محاولة لإيقاعهم في عمليات احتيال متنوّعة. وأضاف أنّ "المكتب" الذي كان يعمل فيه كان يشبه الكثير من المكاتب حول العالم، بأضواء بيضاء ساطعة وزجاجات مياه على المكاتب.

وخلال ساعات العمل الـ14، كان ينتحل صفة فتاة على "إنستغرام" و"فيسبوك". وأحد حساباته كان باسم "أرلين"، وهي فتاة شقراء جذّابة والسفر "هوايتها المفضّلة". وباستخدام هذه الشخصية المزيّفة، كان يتصفّح صفحات مشجّعي فرق كرة القدم، باحثاً عن رجال أوروبيين لجذبهم. وبمجرد أن تنشأ صداقة أو علاقة عاطفية عبر الإنترنت، كان يطلب المال للمساعدة في أزمة ما، أو يُروّج لفرص استثمارية وهمية. وإذا اتصل به أحد، كان يستخدم أدوات الذكاء الاصطناعي لتغيير وجهه وصوته.

وقد حقّق أريان، من خلال أنجح عملية احتيال نفّذها، نحو 42 ألف جنيه إسترليني، الأمر الذي أسعد رؤساءه. وتمّ منحه هاتفاً محمولاً كمكافأة. وفي المقابل، تمّ تقييد حرّيته وتعرّض لتعذيب وحشيّ. وفي صورة شاركها أريان مع الصحيفة، ظهر شخص ببشرة حمراء وجلد مقشّر بعد أن سكب عليه "المسؤولون" الماء المغلي. وأظهرت لقطات أخرى أردافاً مغطاة بكدمات سوداء أرجوانية عميقة بعد أن تمّ ضربه بأوانٍ ساخنة. وتتوافق هذه الصور مع انتهاكات مماثلة أوردتها مؤسسات إخبارية ومنظّمات غير حكومية أخرى.

وبعد شهرين من وصوله إلى مركز الاحتيال، رأى أريان فرصةً للنجاة، عندما طلب منه مديره مرافقة رجل باكستاني أُصيب بنوبة قلبية إلى عيادة قرب كياوهات. وقال: "عندما خرجت من المستشفى، ركضتُ وقفزتُ في النهر. فأطلق حارسٌ النار عليّ، لكن ربي أنقذني". 

وبعد 3 أسابيع، كان أريان على متن طائرة متجهة إلى بنغلاديش. لكن خوفاً على أصدقائه، حصل على قرض وعاد إلى ماي سوت في كانون الأول/يناير، حيث ضغط على المنظّمات غير الحكومية والشرطة والسفارة في بانكوك للمساعدة في إطلاق سراح أصدقائه و13 رجلاً بنغالياً. وتمّ إنقاذهم أخيراً في شباط/فبراير، ووصلوا إلى ديارهم سالمين في 18 آذار/مارس. وعلى الرغم من التقدّم الأخير، يقول الخبراء إن السلطات في المنطقة لا تزال بعيدة كلّ البعد عن الفوز في حربها ضدّ مراكز الاحتيال. وعلى الرغم من إغلاق بعض المعسكرات، فإنّ أعمال البناء في معسكرات أخرى في ميانمار ما زالت مستمرة من الجانب التايلاندي من الحدود، في حين لم يتمّ القبض على أيّ من اللاعبين الرئيسيين المسؤولين عن الشبكات الإجرامية هذا العام.

وبالنسبة للسلطات التايلاندية، فقد اتضح أنّ جهود الإنقاذ المبذولة حتى الآن كانت بمثابة كابوس لوجستي. ويعمل المسؤولون مع السفارات في جميع أنحاء العالم للتنسيق لإطلاق سراح الأشخاص وتسليمهم، بما في ذلك إجراء مقابلات لتحديد هوية ضحايا الاتجار بالبشر، والذين ذهبوا طواعيّة ربما.

نقلته إلى العربية: زينب منعم