"فورين أفيرز": أوروبا ما بعد أميركا

لقد حان الوقت لواشنطن لإضفاء الطابع الأوروبي على حلف شمال الأطلسي والتخلي عن المسؤولية عن أمن القارة.

0:00
  • "فورين أفيرز": أوروبا ما بعد أميركا

مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً لجاستن لوجان وجوشوا شيفرينسون، يتحدثان فيه عن خروج الولايات المتحدة المحتمل من حلف "الناتو". 

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:

لعقود من الزمن، ظلت سياسة الولايات المتحدة تجاه أوروبا على حالها، فقد رسّخت واشنطن نفسها في القارة عبر حلف شمال الأطلسي، وعملت كمزود أمني رئيسي في المنطقة، فيما قبل الأعضاء الأوروبيون في حلف شمال الأطلسي القيادة الأميركية.

ولكن اليوم، خرج جزء كبير من الحزب الجمهوري عن هذا الإجماع، واختار بدلاً من ذلك سياسة لخّصتها تعليقات دونالد ترامب بشأن دول الناتو "المتأخرة": "إذا لم يدفعوا، فلن نحميهم". وبعبارة أخرى، قد تظل الولايات المتحدة ملتزمة تجاه أوروبا، ولكن فقط إذا دفعت الدول الأوروبية ما عليها.

من جانبهم، تعمّق الديمقراطيون في الرد على هذا التحوّل، فقد أكد الرئيس جو بايدن الالتزام الديمقراطي "المقدس" بالدفاع الأوروبي، وأشاد بانضمام فنلندا والسويد إلى الناتو باعتباره إنجازاً عظيماً لإدارته. ولم تشر كامالا هاريس إلى أي خروج عن موقف بايدن باعتبارها المرشحة الرئاسية الديمقراطية المفترضة.

لقد طال انتظار المناقشة حول دور الولايات المتحدة في أوروبا، ولكن كلا الجانبين أخطأوا في تعريف القضايا والمصالح المؤثرة. في الواقع، لدى الولايات المتحدة اليوم الاهتمام الأساسي نفسه في أوروبا منذ أوائل القرن العشرين على الأقل: الإبقاء على القوة الاقتصادية والعسكرية للقارة المنقسمة. وفي الممارسة العملية، كان السعي إلى تحقيق هذا الهدف يعني منع ظهور قوة أوروبية مهيمنة، ولكن خلافاً للقارة في منتصف القرن العشرين، تفتقر أوروبا اليوم إلى مرشح للهيمنة، ويرجع الفضل في ذلك جزئياً إلى نجاح الجهود الأميركية بعد عام 1945 في إعادة بناء واستعادة الرخاء في أوروبا الغربية، ومن غير المرجح أن ينشأ تهديد آخر للهيمنة.

يتعين على الولايات المتحدة أن تدرك أنّها حققت هدفها الرئيسي في أوروبا. وبعدما نجحت في ضمان عدم قدرة أي دولة على الهيمنة على القارة، ينبغي لها أن تتبنى نهجاً جديداً في التعامل مع المنطقة. وبموجب استراتيجية منقّحة، تعمل الولايات المتحدة على تقليص وجودها العسكري في القارة، وإضفاء الطابع الأوروبي على حلف شمال الأطلسي، وتسليم المسؤولية الرئيسية عن الأمن الأوروبي إلى أصحابها الشرعيين: الأوروبيين.

ولأكثر من 100 عام، كانت للولايات المتحدة مصلحة دائمة في أوروبا: الحفاظ على تقسيم القوة الاقتصادية والعسكرية للقارة بين دول متعددة لمنع ظهور قوة أوروبية مهيمنة تسعى إلى تعزيز تلك القوة لنفسها. وفي الحربين العالميتين الأولى والثانية، خاضت واشنطن الحرب لمنع ألمانيا من السيطرة على أوروبا. لقد تم تصميم حلف شمال الأطلسي، الذي تأسس عام 1949، لمنع احتمال سيطرة دولة واحدة على القارة.

وكان دعم الولايات المتحدة لحلف شمال الأطلسي خطوة معقولة في وقت كان الاتحاد السوفياتي يهدد باجتياح القارة، وكانت ذكريات الحرب ماثلة في الأذهان، وكان مستقبل ألمانيا غير واضح. ومع ذلك، حتى في ذلك الوقت، لم يكن هدف واشنطن هو تحمل المسؤولية الدائمة عن الأمن الأوروبي. وبدلاً من ذلك، كان المقصود من حلف شمال الأطلسي أن يكون وسيلة مؤقتة لحماية دول أوروبا الغربية أثناء تعافيها من الحرب العالمية الثانية. وكما أشار القائد الأعلى لقوات الحلفاء في أوروبا دوايت أيزنهاور: "إذا لم تتم إعادة جميع القوات الأميركية المتمركزة في أوروبا لأغراض الدفاع الوطني إلى الولايات المتحدة خلال عشر سنوات، فإنّ هذا المشروع برمته سيكون قد فشل".

ولتحقيق هذه الغاية، حاول الرئيسان هاري ترومان وأيزنهاور جمع "قوة ثالثة" من القوة الأوروبية من خلال تشجيع فرنسا والمملكة المتحدة وألمانيا الغربية ودول أوروبا الغربية الأخرى على توحيد مواردها السياسية والاقتصادية والعسكرية ضد السوفيات. وبمجرد تشكيل هذه القوة الثالثة، فإنّها ستعفي الولايات المتحدة من واجب العمل كخط الدفاع الأوّل لأوروبا. وعندما أصبح من الواضح في أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن الماضي أنّ قلق دول أوروبا الغربية بشأن ألمانيا بقدر قلقها بشأن الاتحاد السوفياتي، قبلت الولايات المتحدة على مضض دوراً أكثر ديمومة في التحالف.

لكن الوضع اليوم مختلف إلى حد كبير. للمرة الأولى منذ قرون، تفتقر أوروبا إلى قوة مهيمنة محتملة. لقد أفسحت المخاوف من ألمانيا الإمبراطورية المجال للقلق بشأن الدور الجيوسياسي المتوقف لبرلين، ما أدّى إلى قلب "المشكلة الألمانية" رأساً على عقب. وتدرك دول أخرى قادرة، مثل المملكة المتحدة وفرنسا، أنّ توزيع السلطة لا يفضي إلى التوسع.

ومع عدم وجود أي مرشح للهيمنة الأوروبية، لم تعد هناك حاجة للولايات المتحدة لتولي الدور المهيمن في المنطقة. ومن دون واشنطن على رأس السلطة، فإنّ أوروبا اليوم كانت لتتمتع بسياسة دولية طبيعية، والتي تتضمن، باعتراف الجميع، احتمال نشوب بعض الصراعات بين الدول على أطرافها من دون فتح الباب أمام تحدي الهيمنة، لكن أدّى توسع حلف شمال الأطلسي شرقاً إلى خلق مصالح جديدة، وهذا يخلق ضغوطاً سياسية على الولايات المتحدة للبقاء في أوروبا على أساس أنّ أوروبا غير قادرة على الدفاع عن نفسها.

وفي ظل المطالب المتزايدة، أصبح تصحيح المسار أمراً في محله، ولن تكون الفكرة هي عزل الولايات المتحدة عن أوروبا، بل تحويل دور الولايات المتحدة من مقدّم الملاذ الأول إلى موازن الملاذ الأخير.

أولاً، يتعين على الولايات المتحدة أن تبدأ بسحب بعض قواتها من أوروبا وإلقاء المسؤولية عن توفير القوات التقليدية اللازمة لتأمين أوروبا على عاتق الأوروبيين. وفي الوقت الحالي، لدى الولايات المتحدة ما يقارب 100 ألف جندي متمركزين في القارة، مع أكبر تجمع لها في ألمانيا.  ومن بعدها يتعين على الدول الأقوى في أوروبا أن تكثف جهودها. وفي نهاية المطاف، يمكن سحب القوات والمعدات الأميركية الإضافية في أوروبا تدريجياً، ما يحول عبء احتياجات الردع التقليدية في أوروبا إلى الأوروبيين.

إن سحب القوات والعتاد هو الخطوة الملموسة التي من شأنها أن تسرع قيام القيادة الأوروبية بتحمل مسؤولية الدفاع عن نفسها، ومنعها من الاستمرار في الاعتماد على الولايات المتحدة.

وفي الوقت نفسه، ينبغي لصناع السياسات أن يدركوا أنّ أوروبا غير قادرة على سد النقص في مجالات معينة بسرعة، وعلى وجه الخصوص، سوف يستغرق استبدال المظلة النووية الأميركية وقدراتها الاستخباراتية والمراقبة والاستطلاعية وقتاً حتى في أفضل الظروف. 

كذلك، يتعين على الولايات المتحدة أن تعمل تدريجياً على تحويل حلف شمال الأطلسي إلى تحالف تديره وتقوده أوروبا، وأن تقلل من عمق مشاركتها في لجان الحلف.

ومن شأن كل هذه الخطوات أن توضح أن الولايات المتحدة تتوقع من الأوروبيين إدارة التحالف على أساس يومي، وأن توضح أنّ فترة ولاية واشنطن كمهدئة لأوروبا تقترب من نهايتها. وإذا شعر مخططو الدفاع الأوروبيون أن ذلك يترك فجوة يجب ملؤها، فيجب عليهم أن يملؤوها بأنفسهم، وخصوصاً أنّ الولايات المتحدة تواجه ديوناً بقيمة 35 تريليون دولار، وعجزاً سنوياً في الميزانية يبلغ 1.5 تريليون دولار، وتحدياً متزايداً في آسيا، وانقسامات سياسية واضحة تجعل التزامها تجاه الحلف مادياً أكثر صعوبة. ومع عدم وجود إشارة إلى أنّ الصورة المالية سوف تتحسن أو دليل على أن الضغوط المحلية تنحسر، يحتاج صناع السياسات إلى إعادة تقييم التزامات الولايات المتحدة الخارجية. 

نقلته إلى العربية: بتول دياب