"فورين أفيرز": لم يعد بإمكان "إسرائيل" تجاهل فلسطين

منح الفلسطينيين صفة الدولة الشكلية فقط ليس حلاً سحرياً لمشاكلهم.

  • "فورين أفيرز": لم يعد بإمكان "إسرائيل" تجاهل فلسطين

مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً يتناول موجة الاعترافات الغربية الأخيرة بالدولة الفلسطينية وما يترتب عليها من انعكاسات على فلسطين و"إسرائيل"، ويدعو إلى استغلال الاعتراف كفرصة لعملية سياسية أوسع، بدلاً من تركه كخطوة رمزية فقط.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

مع أنّ قيام الدولة الرمزية ليس حلّاً سحرياً للفلسطينيين، اعترفت أستراليا وكندا وفرنسا وبريطانيا وست دول أخرى بالدولة الفلسطينية. وقد ردّت "إسرائيل" بتحدٍّ، إذ أعلن رئيس حكومتها بنيامين نتنياهو في بيان مصوَّر باللغة العبرية: "لن يحدث ذلك، ولن تُقام دولة فلسطينية غرب الأردن".

وعلى الرغم من أنّ نتنياهو لن يتخذ قراراً نهائياً بشأن الردّ الإسرائيلي الكامل إلا بعد عودته من لقائه بالرئيس الأميركي دونالد ترامب، فإنّ ائتلافه هدّد مراراً بضمّ أراضٍ من الضفة الغربية، ما قد يؤدي إلى انهيار السلطة الفلسطينية بالكامل.

هذا التصعيد لا يخدم مصالح أحد. فالإسرائيليون سيخسرون مع تسارع الزخم المحيط بالاعترافات الدولية وردّ حكومتهم العدواني، الذي يفاقم عزلة دولتهم دبلوماسياً واقتصادياً وثقافياً. وسيخسر الفلسطينيون أيضاً، إذ إنّ هذه الاعترافات في ذاتها لا توفّر فوائد ملموسة للشعب الفلسطيني، ولا تساعد السلطة الفلسطينية المتعثّرة على الخروج من أزماتها.

وبدلاً من ذلك، تمنح هذه التطورات العناصر المتشددة في الحكومة الإسرائيلية مزيداً من الذرائع لقمع حقّ الفلسطينيين في تقرير المصير، وإضعاف السلطة الفلسطينية أكثر فأكثر. وحتى قبل الإعلان الرسمي عن الاعترافات، بدأت الحكومة الإسرائيلية بالاستشهاد بها لتبرير خطوات جديدة لتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية. ففي 20 آب/أغسطس، وافقت "إسرائيل" على بناء مستوطنة "إي وان" المثيرة للجدل، بسبب تقسيمها الضفة الغربية فعليّاً.

وقد أعلن وزير المالية بتسلئيل سموتريتش صراحةً أنّ هذه الخطوة جاءت استجابةً لدعوات إقامة دولة فلسطينية. وقال: "هذا الواقع يدفن أخيراً فكرة الدولة الفلسطينية، لأنّه لا يوجد شيء نعترف به ولا أحد يعترف به".

ومع ذلك، يبقى من الممكن أن يخرج شيء إيجابي من زخم الاعتراف، إذا نظرت كلّ من القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية إلى ما هو أبعد من الرمزية، وإذا عملت الجهات الدولية الفاعلة على تسويق الاعتراف لا كخطوة أحادية، بل كجزء من حملة متعددة الأطراف، شاقة، تهدف إلى الاعتراف المتبادل بين "إسرائيل" وفلسطين، بالتوازي مع تعزيز التكامل الإقليمي وتطبيع العلاقات الدبلوماسية بين "إسرائيل" وجيرانها.

وعلى الحكومات التي اعترفت بفلسطين أن تضع قرارها في إطار إعلان نيويورك، الذي أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة في 12 من الشهر الجاري، وكذلك مؤتمر الأمم المتحدة في تموز/يوليو الماضي حول حلّ الدولتين برئاسة فرنسا والسعودية. وتقدّم كلتا المبادرتين مسارات أكثر عملية للتقدّم، ويجب على "إسرائيل" اغتنام الفرصة التي توفّرها.

كما يحدّد إعلان نيويورك إطاراً شاملاً لإنهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، وإعادة الرهائن المتبقّين، وتفكيك حماس، وإعادة إعمار القطاع. ويدعم هذه الخطوات بضمانات ومبادرات أمنية تعزّز التكامل الإقليمي، وكلّها إجراءات تنسجم مع أهداف "إسرائيل" العسكرية والسياسية. لذلك، يجب على القادة الإسرائيليين تجاوز الجمود الأيديولوجي الذي يدفعهم إلى رفض أيّ فكرة عن تقرير المصير الفلسطيني.

وعليهم أن يستغلوا هذه اللحظة للتعامل مع فرنسا والسعودية بشأن تنفيذ إعلان نيويورك، ومطالبة الفلسطينيين والجهات الإقليمية الأخرى بالاعتراف بـ"إسرائيل" كوطن للشعب اليهودي، على غرار ما نصّت عليه "اتفاقيات أبراهام" عام 2020. كما يجب التشديد على القادة الفلسطينيين بضرورة تحمّل مسؤولياتهم وفق القانون الدولي لمنع استخدام أراضيهم قاعدةً لمهاجمة "إسرائيل".

وإذا تحقق ذلك، فقد يتبيّن أنّ زخم الاعتراف بالدولة الفلسطينية يحمل مزايا لـ"إسرائيل" أيضاً. وعلى الدول التي اعترفت أن تتخذ خطوات عملية، من خلال جعل ضماناتها الأمنية ملموسة، والمساهمة في بناء دولة فلسطينية لا تهدّد جيرانها، وتكرّم شعبها عبر توفير مؤسسات فعّالة وخدمات مناسبة.

الاستفادة من ردّ الفعل

تأسّست "إسرائيل" بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة، ما يعني نظرياً أنّ "إسرائيل" لا يمكنها قبول الشرعية التي أوجدتها بشكل انتقائي، بينما ترفض قيام دولة فلسطينية تشكّلت في الإطار نفسه. لكنّ المعارضة الإسرائيلية لدولة فلسطينية ازدادت حدّة منذ هجوم "حماس" في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023.

فقد أظهر استطلاع رأي أجراه "مركز بيو" في حزيران/يونيو الماضي أنّ 21% فقط من الإسرائيليين وافقوا على أنّ "التعايش السلمي مع دولة فلسطينية ممكن"، وهي أدنى نسبة منذ عام 2013. كما كشف استطلاع مشترك أجراه "المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية" و"البرنامج الدولي لحلّ النزاعات والوساطة في جامعة تل أبيب" العام الماضي أنّ معظم الإسرائيليين يعتقدون أنّه إذا أُنشئت دولة فلسطينية، فإنّ الهجمات الإرهابية على "إسرائيل" ستستمر أو تزداد.

لقد أصبح الإسرائيليون أكثر نفوراً من المخاطرة، ومتردّدين بشدّة في تقديم تنازلات إقليمية، خصوصاً في ظلّ التهديد المستمر من الأراضي الفلسطينية والخلل الوظيفي في السلطة الفلسطينية. حتى القادة الوسطيون الذين يعارضون نتنياهو باستمرار رفضوا الاعتراف بشدّة. فبيني غانتس، الجنرال المتقاعد ووزير الدفاع السابق، أعرب عن أسفه لأنّ الاعتراف بالدولة الفلسطينية الآن "لا يشجّع سوى حماس، ويوسّع الحرب، ويبعد احتمالات التوصّل إلى صفقة رهائن، ويرسل رسالة دعم واضحة إلى إيران ووكلائها".

ومؤخراً، قال زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد إنّ "الاعتراف الأحادي الجانب بدولة فلسطينية من قبل بريطانيا وأستراليا وكندا هو كارثة دبلوماسية، وخطوة ضارّة، ومكافأة للإرهاب". ويشارك كثير من الإسرائيليين، مع بعض المبرّرات، هذا الشعور بأنّ توقيت الاعترافات الأخيرة يكافئ حركة "حماس"، وهي وجهة نظر شجّعها قادة الحركة أنفسهم. ففي الشهر الماضي، قال المسؤول الكبير في "حماس" غازي حمد إنّ "مبادرة دول عدة إلى الاعتراف بدولة فلسطينية هي إحدى ثمار عملية 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023". وأضاف: "لقد أثبتنا أنّ الانتصار على "إسرائيل" ليس مستحيلاً، وأسلحتنا هي رمز للكرامة الفلسطينية".

وبعيداً عن إشكالية هذه الرواية، لدى الإسرائيليين مخاوف أخرى مشروعة. إذ يمكن للاعتراف أن يغيّر جذرياً وضع الضفة الغربية وقطاع غزة بموجب القانون الدولي، وأن يلزم الدول المانحة للاعتراف بمراجعة اتفاقياتها مع "إسرائيل" لضمان عدم انتهاكها لالتزاماتها تجاه دولة فلسطين. كما قد يُعاد توصيف نطاق واسع من العمليات العسكرية الإسرائيلية – بما في ذلك آلاف الغارات السنوية لاعتقال مطلوبين أو تدمير أسلحة في الأراضي الفلسطينية – من كونها "مكافحة للإرهاب" إلى كونها "انتهاكات لسيادة عضو في الأمم المتحدة".

حتى مطلع الشهر الجاري، كانت نحو 150 دولة عضواً في الأمم المتحدة قد اعترفت بدولة فلسطينية. لكنّ انضمام فرنسا وبريطانيا إلى تلك القائمة، باعتبارهما عضوين دائمين في مجلس الأمن وعضوين في مجموعة السبع إلى جانب أستراليا وكندا، قد يعرّض "إسرائيل" لمزيد من التدقيق والضغط من قبل المشرّعين ومنظمات المجتمع المدني، بما في ذلك تحدّيات قانونية كبرى أمام المحاكم الدولية. وقد تجد ألمانيا وإيطاليا وحتى الولايات المتحدة نفسها في نهاية المطاف مضطرّة للحاق بركب شركائها في مجلس الأمن.

هذا التطوّر سيعزّز مكانة الفلسطينيين في المحافل الدولية، ويمهّد الطريق لتحويل فلسطين من "مراقب دائم" في الأمم المتحدة إلى "عضو كامل العضوية"، ما سيجعل مكانتها كدولة أمراً واقعاً لا جدال فيه، على الرغم من اعتراضات "إسرائيل".

قائد الخسارة

على المدى القريب، من المرجّح أن يضرّ الاعتراف بالدولة بالفلسطينيين أكثر من غيرهم. ووفقاً لمقاييس تعريف الدولة، يتّضح أنّ فلسطين ليست مؤهّلة تماماً حالياً لذلك. وعلى الرغم من وجود مؤسّسات تعمل جزئياً، إلاّ أنّها لا تملك أرضاً محدّدة تسيطر عليها فعلاً، ولا تحتكر استخدام القوة، ولا تملك اقتصاداً مستقلاً، ولا حُكماً متماسكاً.

فالدولة الفلسطينية الاسمية، القائمة على الورق بفضل إعلانات الاعتراف، لن تُجنَى عليها جدوى حقيقية، وقد تؤدي تداعيات الاعتراف إلى تقويض قدرة السلطة الفلسطينية على ممارسة الحكم حتى في الأراضي المحدودة التي يفترض أنّها تسيطر عليها.

كما أنّ السلطة الفلسطينية على شفا إفلاسٍ مالي. فقد أرجأت المدارس الحكومية في الضفة الغربية بدء العام الدراسي، وهي الآن مفتوحة ثلاثة أيام فقط في الأسبوع، ما يؤثر في أكثر من 600 ألف طفل. واضطرت السلطة إلى خفض رواتب موظفيها العامين بنسبة تصل إلى 50% وتأخير المدفوعات لمقاولي القطاع الخاص. وتقدّم بعض الإدارات الحكومية، مثل وزارة الصحة، خدماتٍ جزئية فقط، في حين انكمش اقتصاد الضفة الغربية إلى أقل من سدس حجمه عام 2022، وبلغت نسبة البطالة أكثر من 30%. وأظهر استطلاع رأي حديث أنّ 81% من الفلسطينيين يريدون استقالة الرئيس محمود عباس، وأنّ 69% يعتقدون أنّ السلطة الفلسطينية لن تنجح في إنجاز الإصلاحات اللازمة للحكم.

لذلك، الاعترافات التي أُعلِنت هذا الأسبوع لا تفعل شيئاً عملياً لمنح السلطة الفلسطينية مزيداً من القدرات أو لحمايتها من العدوان الإسرائيلي. وبدلاً من ذلك، وضعت الفلسطينيين بشكلٍ أكثر وضوحاً في مرمى نيران المسؤولين الإسرائيليين الذين يسعون لجعل إقامة دولة فلسطينية مستحيلة. ففي 18 من هذا الشهر، هدد بتسلئيل سموتريتش رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأنه إذا لم تُقدِم الحكومة الإسرائيلية على ضمّ الضفة الغربية رداً على الاعترافات، فسيستخدم سلطته كوزير للمالية لدفع السلطة الفلسطينية إلى الانهيار الكامل، بينما قال نتنياهو في فعالية بمستوطنة "معاليه أدوميم": "سنوفي بوعدنا بأنّه لن تكون هناك دولة فلسطينية، هذا المكان ملك لنا".

خطر وحيد

ومع ذلك، فإنّ العواقب بالنسبة إلى "إسرائيل" تتجاوز البعد الرمزي، ولا يمكن تحييدها بسهولة عبر عمليّات الضم. ومن المرجّح أن تزيد موجة الاعترافات بالدولة الفلسطينية من المشاعر المعادية لها على الصعيد العالمي، ما يسرّع عمليّات سحب الاستثمارات والمقاطعة. وستتعرّض الحكومات التي سعت إلى تهدئة المعارضة الداخلية للسياسة الإسرائيلية من خلال الإعلان عن الاعترافات لضغوط أكبر لفرض عقوبات رسمية. فالاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، هو أكبر مستثمر في "إسرائيل"، ويساهم في اقتصادها بما يقارب ضعف ما تساهم به الولايات المتحدة، كما يُعدّ الوجهة الرئيسية للاستثمارات الإسرائيلية وأكبر شريك تجاري لها.

وقد بادرت بعض المؤسسات الأوروبية بالفعل إلى سحب استثماراتها من الشركات الإسرائيلية. ففي الشهر الماضي، سحب صندوق الثروة السيادي النرويجي، البالغة قيمته 2 تريليون دولار، استثماراته من شركة "كاتربيلر" وخمسة بنوك إسرائيلية، مشيراً إلى "خطر غير مقبول" بأن تسهم هذه الاستثمارات في انتهاكات حقوق الإنسان. ويمكن لدول أخرى تملك استثمارات كبيرة في "إسرائيل"، مثل فرنسا وألمانيا وهولندا وبريطانيا، أن تحذو حذوه.

كذلك، تخضع العديد من العلاقات الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي و"إسرائيل" لاتفاقية الشراكة الموقعة عام 2000، والتي لا يمكن إلغاؤها إلا بالإجماع. وهذا أمر غير مرجّح نظراً لاستمرار دعم المجر لـ"إسرائيل"، حيث استخدمت حق النقض "الفيتو" ضد اقتراح المفوضية الأوروبية منتصف الشهر الجاري بتعليق الاتفاق جزئياً، وهو اقتراح تطلب دعماً واسعاً من الدول الأعضاء، مثل ألمانيا وإيطاليا اللتين مارستا بدورهما حق النقض.

مع ذلك، قد يدفع مسار الرأي العام الأوروبي، الذي تعكسه موجة الاعتراف بالدولة الفلسطينية، كلاً من ألمانيا وإيطاليا إلى التخلي عن "الفيتو" الخاص بهما. وفي هذه الحالة، قد تخسر "إسرائيل" اتفاقية التجارة الحرة مع الاتحاد الأوروبي، وكذلك إمكانية الوصول إلى برنامج "آفاق أوروبا" للبحث العلمي، الذي تبلغ قيمته 100 مليار دولار ويُعدّ الصندوق الأبرز للاتحاد في مجال البحث والابتكار. وقد انخفضت معدلات الموافقة على المشاريع التي يشارك فيها متعاونون إسرائيليون بالفعل بنسبة 68.5% هذا العام. وفي أيار/ مايو الماضي، قال رئيس الأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والإنسانيات، ديفيد هاريل، إنّ استبعاد "إسرائيل" بالكامل سيكون بمنزلة "حكم بالإعدام على العلم الإسرائيلي".

كل ذلك يمهّد لعزلة وتهميش أوسع للإسرائيليين في مجالات مختلفة. فقد أصبح الرياضيون الإسرائيليون أقل قدرة على التنافس مع أقرانهم في الخارج. ومن المتوقع أن تصوّت اللجنة التنفيذية للاتحاد الأوروبي لكرة القدم قريباً على تعليق مشاركة المنتخب الإسرائيلي وجميع أنديته في مسابقاته، ما سيحرمهم من إحدى أهم الساحات الرياضية التي يعتزون بها.

وبالمثل، تواجه المؤسسات الثقافية ضغوطاً متزايدة، خاصة بعد الاعترافات بالدولة الفلسطينية هذا الأسبوع. ففي مطلع الشهر الجاري، ألغى مهرجان فلاندرز في مدينة غنت البلجيكية عرضاً لأوركسترا ميونيخ الفيلهارمونية، فقط لأنّ قائدها، لاهاف شاني، الذي دعا إلى السلام في غزة، يشغل أيضاً منصب المدير الفني للأوركسترا الفيلهارمونية الإسرائيلية. كما تعهّد أكثر من 4000 ممثل وصانع أفلام بعدم التعاون مع المؤسسات الإسرائيلية.

وربما يبدو الأمر ثانوياً للبعض، لكنّ احتمال طرد "إسرائيل" من مسابقة الأغنية الأوروبية يصيب الإسرائيليين بالحزن، إذ تُعدّ المسابقة أحد أكثر الأحداث المحببة لهم سنوياً. وهم يفخرون بسجلهم اللافت فيها، حيث فازت "إسرائيل" أربع مرات. وقد أثار وصول متسابق إسرائيلي إلى نهائي 2025 ارتياحاً كبيراً لديهم، مؤكداً لهم أنّ فنانيهم لا يزالون قادرين على نيل محبة شعوب في بلدان تشهد احتجاجات واسعة ضد حكومتهم.

مع ذلك، هددت أيسلندا وأيرلندا وهولندا وسلوفينيا وإسبانيا بمقاطعة "يوروفيجن 2026" إذا شاركت "إسرائيل"، فيما قد تدفع الاعترافات الأخيرة وردود الفعل الإسرائيلية العدوانية دولاً أخرى إلى اتخاذ مواقف مماثلة.

وقد أقرّ نتنياهو الأسبوع الماضي بأنّ "إسرائيل" تدخل "نوعاً من العزلة". لكنه زعم أنّ البلاد قادرة على إدارتها، مشيراً إلى إمكانية تبنّي اقتصاد مبتكر ومستقلّ وتحويلها إلى "سوبر سبارتا". بيد أنّه يبدو ناسياً أنّ نجاح الاقتصاد الإسرائيلي اعتمد كثيراً على مكاسب السلام بعد "اتفاق أوسلو"، وأنّ "إسرائيل" تحوّلت إلى اقتصاد موجّه للتصدير يعتمد على التكنولوجيا وقوة عاملة عالية التعليم ومرتبطة بالعالم. ونجاحها المستقبلي يظل رهناً بعلاقاتها المزدهرة مع بقية الدول.

ولهذا السبب قال ديفيد بن غوريون، الأب المؤسس لـ"إسرائيل"، عام 1955 إنّ "إسرائيل ليس مقدّراً لها أن تصبح سبارتا جديدة". وأضاف أنّه، بغضّ النظر عن الارتباطات العسكرية الإسرائيلية، "يجب ألا نصرف انتباهنا عن حقيقة أنّ هدفنا النهائي في علاقاتنا مع جيراننا هو السلام والتعايش".

الحصان المجاني

بعد انتهاء الاستعراض الدبلوماسي في الأمم المتحدة، ستظل هناك فرصة لتحويل المحنة إلى مكسب، إذا أعادت "إسرائيل" والدول الأخرى تركيز اهتمامها على "إعلان نيويورك" بشأن الاعتراف بالدولة الفلسطينية. فقد كان الهدف من ذلك الإعلان تفادي أخطاء المبادرات الدبلوماسية السابقة غير الناجحة، عبر اقتراح خطوات ملموسة ومحددة زمنياً نحو حلّ الصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، ضمن إطار إقليمي يستبعد حركة "حماس"، ويحفّز الدول العربية على لعب أدوار رئيسية.

لكن، وللأسف، أدّت التصريحات التصعيدية والتهديدات المتبادلة حول مسألة الاعتراف إلى تحويل الأنظار عن هذه الإجراءات. ومع ذلك، ما زالت تلك الخطوات قادرة على توفير مخرج للحكومة الإسرائيلية لإنهاء حربها على غزة، وهي حرب لم تعد تحظى بشعبية لدى الإسرائيليين. وقد أصرت الحكومة الإسرائيلية على خمسة شروط قبل وقف عملياتها العسكرية: نزع سلاح "حماس"، إعادة جميع الرهائن أحياءً أو أمواتاً، نزع سلاح غزة بالكامل، احتفاظ "إسرائيل" بالسيطرة الأمنية على القطاع، وإنشاء إدارة مدنية بديلة لا ترتبط لا بـ"حماس" ولا بالسلطة الفلسطينية.

يتماشى "إعلان نيويورك" إلى حدّ كبير مع الأهداف الثلاثة الأولى لـ "إسرائيل"، إذ يقبل ضمنياً بوجود سيطرة أمنية إسرائيلية على غزة في المدى القريب، ويؤكد منع عودة "حماس" إلى السلطة، ويشترط إصلاحات على السلطة الفلسطينية تجعلها أكثر موثوقية من وضعها الراهن.

في الواقع، يمكن سدّ الفجوة بين ما تريده "إسرائيل" وما تسعى إليه الأطراف الدولية. وعلى فرنسا والسعودية وبقية الحكومات التي أيدت "إعلان نيويورك" أن تبدأ فوراً بتنفيذ خطوات عملية، مثل: وضع آلية لنزع سلاح "حماس"، تدريب قوة أمنية متعددة الجنسيات قادرة على مراقبة وقف إطلاق النار وإنفاذه، الحصول على التزامات دولية حقيقية لإعادة الاستقرار وإعمار غزة، ووضع خطة واضحة لاجتثاث حركات المقاومة المسلحة الفلسطينية.

إضافة إلى ذلك، ينبغي لتلك الحكومات الاستثمار في تسويق أكثر فعالية للرأي العام الإسرائيلي، لإظهار أن اقتراحها يشكّل بديلاً قابلاً للتطبيق عن مقاربة "المحصلة الصفرية" التي تنتهجها حكومة نتنياهو. كما يتعيّن عليها إشراك الولايات المتحدة في تغطية رؤية ما بعد الحرب على غزة.

وقد أثبتت "إسرائيل" في مواقف سابقة أنها قادرة على البراغماتية عند الحاجة. فعلى سبيل المثال، خلال وقف إطلاق النار الذي استمر ستة أسابيع مطلع هذا العام، سمحت لقوات أمن تابعة للسلطة الفلسطينية، ترفع العلم الفلسطيني، بالقيام بدوريات على حدود رفح. واليوم، بات لزاماً على "إسرائيل" أن تكون أكثر واقعية، وأن تتعامل مع موجة الاعتراف بالدولة الفلسطينية كأمر واقع. فالسؤال لم يعد "هل" ستعترف الدول الكبرى بفلسطين، بل "متى".

ستواجه "إسرائيل" عزلة لا يمكن لشعبها احتمالها على المدى الطويل ما لم تدرك حكومتها ضرورة منح السلطة الفلسطينية دوراً في إنهاء حرب غزة. بل إن الاعتراف قد ينطوي على فوائد لـ "إسرائيل" نفسها: فإذا بات الصراع يُنظر إليه دولياً باعتباره نزاعاً بين كيانين متساويين أمام القانون، لا بين محتلّ وشعب تحت الاحتلال، فقد تجد الأمم المتحدة والمحاكم الدولية نفسها مضطرة للاعتراف بأن "إسرائيل" تواجه تهديدات أمنية حقيقية من الأراضي الفلسطينية، وأن على القادة الفلسطينيين الالتزام بالقانون الدولي ومنع استخدام أراضيهم لشنّ هجمات ضد "إسرائيل" ووقف أنشطة "حماس".

في الشرق الأوسط، إذا لم تكن على الطاولة، فستكون على قائمة التهميش. وبدلاً من رفض محاولات العالم التدخل، على "إسرائيل" أن تُظهر قبولها للبنود الرئيسية في "إعلان نيويورك"، وأن تنضم إلى النقاشات حول كيفية تنفيذها، مع طرح تحفظاتها ومطالبها الخاصة، مثل الاعتراف بحقّ اليهود في تقرير المصير داخل "إسرائيل". عندها فقط يمكن أن يتغيّر المسار من اعترافات أحادية الجانب وتشرذم إقليمي وعزلة دولية، إلى تكامل إقليمي يعزز الأمن للإسرائيليين والفلسطينيين على حدّ سواء.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.