"فورين أفيرز": لماذا ستندم واشنطن على سلوك "إسرائيل" في الشرق الأوسط؟

لا يمكن للولايات المتحدة أن تتجنّب محنة الفلسطينيين وتتجاهل العدوانية الإسرائيلية إذا أرادت تعزيز نظام إقليمي فعّال وذي مصداقية.

  • "فورين أفيرز": لماذا ستندم واشنطن على سلوك "إسرائيل" في الشرق الأوسط؟

مجلة "فورين أفيرز" الأميركية تنشر مقالاً يرى تآكل مكانة "إسرائيل" والولايات المتحدة في الشرق الأوسط، وصعود ديناميات جديدة لتحالفات إقليمية أكثر استقلالية. 

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

بينما السؤال المطروح هو: لماذا تندم واشنطن على تكاليف العدوان الإسرائيلي، ترى بلدان الشرق الأوسط بشكل متزايد أنّ "إسرائيل" تشكل تهديداً مشتركاً جديداً لها، فالحرب الإسرائيلية على غزّة وسياساتها العسكرية التوسعية، إضافةً إلى موقفها التحريفي والمتقلب، تعيد تشكيل المنطقة بطرق لم يتوقعها الكثيرون.

أدّى هجوم "إسرائيل" على القادة السياسيين لحركة "حماس" في قطر، وهي الدولة السابعة التي تستهدفها منذ هجمات 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، إضافة إلى الأراضي الفلسطينية، إلى زعزعة استقرار دول الخليج وإثارة الشكوك في مصداقية المظلة الأمنية الأميركية لها.

وخلال العامين المنصرمين، أشاد القادة الإسرائيليون بتصفية قيادة حزب الله في لبنان، وتكرار هجماتهم على اليمن، وقصفهم لإيران، بدلاً من تعزيز قوة "إسرائيل" أو تحسين علاقاتها مع الدول العربية التي لطالما كانت متوجسة من إيران وحلفائها، فإن هذه الأعمال تأتي بنتائج عكسية. فالدول التي كانت تعتبر "إسرائيل" شريكاً محتملاً، بما في ذلك الممالك الخليجية، أصبحت الآن ترى فيها جهة خطرة ولا يمكن التنبؤ بتصرفاتها.

خلال الأسبوع الجاري، أعلن الرئيس الأميركي دونالد ترامب مع بنيامين نتنياهو عن خطة سلام جديدة مكونة من 20 نقطة، واحتفلا بهذا الإطار باعتباره إنجازاً كبيراً وطريقة لإعادة الاستقرار إلى المنطقة، إلا أنّ فرص نجاح هذه الخطة تظل ضعيفة ما دامت "إسرائيل" تواصل التصرف بعدوانية تتجاهل المطالب والمخاوف المشروعة للفلسطينيين.

وعلى الرغم من أنّ عدداً من قادة المنطقة رحبوا بهذا الإعلان، فإنّ الخطة تبدو غير قادرة على إصلاح الأضرار الناجمة عن عامين من الحرب، إذ سعت "إسرائيل" بدعم أميركي قوي لإعادة تشكيل المنطقة لمصلحتها، مقدمة نفسها كشريك للحكومات العربية مع تهميش منافسيها، وخصوصاً إيران. أما الآن، فقد عزلت "إسرائيل" نفسها، وجعلت الدول العربية مترددة في تحمل التكاليف السياسية والسمعة المترتبة على التعاون معها، وحولت شركاءها السابقين إلى خصوم حذرين.

في مقابل العدوانية الإسرائيلية، تستجيب عدة دول في المنطقة، من خلال تنويع شراكاتها الأمنية والاستثمار في تعزيز استقلالها الذاتي في الابتعاد عن مسار التطبيع مع "إسرائيل". ومن المرجح أن تتوقف مجموعة من المشاريع التي كانت تهدف إلى تعزيز الروابط بين "إسرائيل" وبعض الدول العربية بمساعدة رئيسية من الولايات المتحدة، إضافة إلى دعم هندي وأوروبي.

لكنّ هذا ليس خبراً سيئاً لـ"إسرائيل" فقط، بل للولايات المتحدة أيضاً، لأنّ الدعم الأميركي غير المحدود لـ"إسرائيل" يضعف ويقوض مكانتها في المنطقة؛ ففي حين كان تهديد إيران سابقاً يدفع دول المنطقة إلى الالتزام بسياسات الولايات المتحدة، فإنّ تصاعد التوترات مع "إسرائيل" الآن يدفعها إلى الابتعاد عن الولايات المتحدة.

يجب على الولايات المتحدة أن تدرك التحولات الجارية في الشرق الأوسط، حيث لن تكون خطة السلام المقترحة مؤخراً كافية بمفردها لإصلاح العلاقات المتصدعة بين "إسرائيل" وعموم دول المنطقة. وإذا رفضت واشنطن كبح جماح "إسرائيل" ولم تبحث عن حل سياسي عادل للمسألة الفلسطينية، فإنّها تخاطر بإضعاف العلاقات مع الشركاء الإقليميين الرئيسيين وفقدان نفوذها على النظام الإقليمي الناشئ.

كما أن الفشل في معالجة قضية فلسطين والسماح لـ"إسرائيل" بالتصرف بعدوانية مع الإفلات من العقاب، سيغذي موجة جديدة من التطرف التي ستهدد المصالح الأميركية والاستقرار الإقليمي والأمن العالمي.

كيفية خسارة الأصدقاء

تمكنت "إسرائيل" خلال العقدين الأخيرين من إيجاد أرضية مشتركة مع عدد من الدول العربية، فيما كانت مصر الأولى التي تطبع العلاقات معها نتيجة لاتفاقيات كامب ديفيد عام 1978. وقد استمر السلام بين البلدين لما يقارب 4 عقود، رغم أنّ العلاقات والتبادلات العميقة على المستوى الاجتماعي والثقافي لم تتحقق فعلياً. وحتى وقت قريب، كانت مصر تعتبر تركيا منافسها الرئيسي في شرق البحر المتوسط، لكنّ العلاقات بين القاهرة وأنقرة تدهورت في عام 2013 بعد إطاحة محمد مرسي؛ أول رئيس مصري منتخب ديمقراطياً من التيار الإسلامي.

وكانت تركيا قد دعمت مرسي بقوة، وعارضت الانقلاب الذي أوصل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي إلى السلطة. ونتيجة لذلك، قامت مصر في عهد السيسي بإبرام اتفاقيات ثنائية مع "إسرائيل"، وعملت معها ضمن "منتدى غاز شرق المتوسط"، وهو منظمة إقليمية تنسق تطوير الطاقة لتشجيع الاستكشاف المشترك لاحتياطيات الغاز البحرية. كما كان لهذه التحركات هدف ضمني لمواجهة المطالب التركية في شرق البحر المتوسط.

كذلك، عمّقت القاهرة أيضاً من تنسيقها الأمني مع تل أبيب في صحراء سيناء، وسمحت بتنفيذ ضربات إسرائيلية ضد الجماعات المسلحة هناك ونسقتا معاً لإدارة الحدود مع غزة، لكن كل ذلك تغير بعد هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، فقد أجبرت الحملات الإسرائيلية القاهرة على اتخاذ موقف مختلف.

وفي الشهر الماضي، وصف السيسي "إسرائيل" بأنها "عدو"، وهو تحول كبير في الخطاب مقارنة بعقود من اللغة الحذرة التي استخدمها المسؤولون المصريون. كما اتخذ السيسي خطوة رمزية بتقليص مستوى التعاون الأمني بين الطرفين. وقد أجرت مصر وتركيا مناورة بحرية مشتركة في شرق البحر المتوسط بهدف تعميق التعاون الدفاعي، متجاوزين خلافاتهما السابقة.

وقبل الحرب الحالية، اصطفّت بعض دول الخليج على نحو حذر مع "إسرائيل"، لأنها اعتبرت إيران التهديد الأكبر لأمنها من خلال تدخلاتها في المنطقة، بما في ذلك دعمها لجماعات مسلحة في العراق ولبنان وسوريا واليمن وطموحاتها النووية، ما جعل من التعاون بين الممالك الخليجية و"إسرائيل" خياراً مناسباً.

 كما أن صعود "الإسلام السياسي" و"انتفاضات الربيع العربي" عام 2011 عزز هذا التحالف، إذ خشي حكام الخليج و"إسرائيل" على حد سواء أن تؤدي هذه الحركات إلى إسقاط الأنظمة وتغيير ملامح المنطقة وتقييد الدور الإقليمي لـ"إسرائيل"، وهذا كله ساهم في ظهور "اتفاقيات أبراهام" التطبيعية بين "إسرائيل" وعدد من الدول العربية عام 2020 بمساعدة الولايات المتحدة. وقد هدفت بالأساس إلى احتواء إيران.

مع ذلك، فإن منطق التطبيع اليوم يتفكك، بينما العقيدة الإسرائيلية العسكرية تزداد شراسة، وتتيح لها انتهاك سيادة الدول الأخرى وقتما تشاء، وجعلت معظم دول المنطقة تشعر بعدم الأمان. كما أنّ الحرب المدمرة على غزّة، وتوسع المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وغالباً ما يتم تبرير ذلك بخطاب ديني، والنهج الإسرائيلي المتصلب في لبنان، وضرباتها المتكررة وتوغلها في الأراضي السورية، جعلت الحفاظ على العلاقات الرسمية معها عبئاً سياسياً واستراتيجياً على الحكومات العربية.

كذلك، أثارت التصرفات الإسرائيلية غضباً شديداً في العالم العربي، إلى درجة أنّ أي شكل من أشكال التحالف الظاهر مع "إسرائيل" أصبح تهديداً مباشراً لشرعية وأمن الأنظمة الحاكمة. ووفقاً لتحليل أجرته مجموعة أبحاث استناداً إلى استطلاعات رأي حديثة، يظهر أنّ الدعم الشعبي للتطبيع مع "إسرائيل" لا يزال منخفضاً للغاية في جميع أنحاء المنطقة، إذ لم تتجاوز أي دولة نسبة 13%، وانخفضت نسبة التأييد في المغرب من 31% عام 2022 إلى 13% فقط عام 2023 بعد هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر.

أمّا بالنسبة إلى المملكة العربية السعودية التي كانت سابقاً تحت ضغط أميركي مكثف لأجل تطبيع العلاقات مع "إسرائيل"، فهي الآن تتردد، ليس فقط بسبب المخاطر الداخلية، بل أيضاً بسبب الشكوك حول موثوقية "إسرائيل" كشريك استراتيجي، في ظل عدوانها المتصاعدة خلال السنوات الأخيرة، التي دفعت دولة الإمارات ثمناً لها من سمعتها أمام  الجماهير في الدول العربية والإسلامية، لأنّها كانت ذات يوم أقرب حليف لـ"إسرائيل"، ولدفاعها عن "اتفاقيات أبراهام" حتى في الوقت الذي يناقش القادة الإسرائيليون علناً تهجير سكان غزّة والضم المحتمل للضفة الغربية.

بعد الضربة الإسرائيلية التي استهدفت فريق "حماس" التفاوضي في الدوحة، تظهر الآن قطر كأبرز ناقد عربي للسياسة الإسرائيلية في غزّة. أمّا الكويت وسلطنة عُمان، فتبقيان على مسافة حذرة من الانخراط في أي علاقة مع "إسرائيل" قد تضعف شرعية حكوماتهما الداخلية، أو تثير استياء شعوبهما، أو تعقد استراتيجياتهما الدقيقة لتحقيق التوازن الإقليمي، فيما تعتبر "إسرائيل" التي كان بعض صناع السياسات في الخليج والولايات المتحدة يتصورونها يوماً ما كركيزة محتملة لأمن الخليج الآن عبئاً وتهديداً مزعزعاً للاستقرار.

أما التحول التركي فهو لافت بالقدر نفسه. على مدى سنوات، دانت أنقرة معاملة إسرائيل للفلسطينيين، لكنّها لم تعتبرها منافساً مباشراً في مجال الأمن. من جانبها، لم تسع "إسرائيل" على نحو علني لاستفزاز تركيا في القضايا الجيوسياسية والأمنية. وخلال المواجهة التي حدثت عام 2020 بين اليونان وتركيا في شرق البحر الأبيض المتوسط، اتخذت "إسرائيل" موقفاً أقل تصادمية تجاه تركيا مقارنة بموقف مصر وعدد من الدول الأوروبية.

وفي حرب عام 2023 بين أذربيجان وأرمينيا، دعمت كل من "إسرائيل" وتركيا أذربيجان، وقدمتا معدات عسكرية لها. كما قام الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ بزيارة رسمية إلى أنقرة عام 2022، وقبل أسابيع فقط من 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، التقى الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، وناقشا سبل التعاون في مجال الطاقة في شرق البحر الأبيض المتوسط.

لقد دفعت الحرب الإسرائيلية على غزّة أنقرة وتل أبيب إلى مزيد من التباعد، وأدت بتركيا إلى تعليق التجارة مع "إسرائيل"، وأغلقت مجالها الجوي في وجه طائراتها كعقاب على حملتها العسكرية في غزّة. كما أثارت الإجراءات الإسرائيلية في سوريا قلق تركيا بشدة كونها تمتلك حدوداً برية معها، إذ عبر ملايين اللاجئين السوريين إلى تركيا منذ اندلاع الحرب الأهلية السورية قبل أكثر من عقد من الزمن.

كما أن تركيا تريد جارة مستقرة وحكومة مركزية قوية في دمشق، فيما "إسرائيل" على النقيض من ذلك، وتدعم مجموعات الأقليات في جنوب سوريا، فضلاً عن التقدم نحو الأراضي السورية، وتقويض الحكومة الجديدة في البلاد، وتعزز الانقسام وعدم الاستقرار، إذ أصبحت سوريا منطقة رئيسية للمنافسة الجيوسياسية بين الطرفين.

البحث في مكان آخر

إنّ النزعة العدوانية الإسرائيلية تسرّع أيضاً من وتيرة العسكرة وتنويع الاستراتيجيات الدفاعية في جميع أنحاء المنطقة. فالدول تستخلص الدروس من أحداث العامين المنصرمين من الحرب، بما في ذلك الأداء الضعيف للأسلحة الروسية في النزاع بين إيران و"إسرائيل" والقيود السياسية والأمنية المرتبطة بالاعتماد على أنظمة الأسلحة الأميركية.

وكذلك، تتبع الحكومات سياسة التحوط من خلال الاستثمار في القدرات المحلية وتنويع مورديها، فقد وسعت السعودية من تعاونها مع الصين في مجال الصواريخ والطائرات المسيرة، وجهدت لتعزيز توطين الإنتاج العسكري، ووقعت مؤخراً اتفاقية تعاون دفاعي مع باكستان، ما يشير إلى رغبتها في إيجاد شراكات أمنية بديلة ونيتها بناء علاقات مع قوة إسلامية أخرى خارج الهيكل الأمني الذي تقوده الولايات المتحدة.

أمّا دولة الإمارات، فقد اشترت مقاتلات فرنسية وتعاونت مع كوريا الجنوبية في مجال الدفاع الصاروخي والطاقة النووية، معززة بذلك قدراتها التكنولوجية ومقللة من اعتمادها على الولايات المتحدة. كما أنّ قطر والكويت حصلتا على مقاتلات "يوروفايتر تايفون" من بريطانيا وإيطاليا، ما عمق اندماجهما في الشبكات الأمنية الأوروبية.

كما أنّ جميع دول الخليج تشتري طائرات مسيّرة تركية فعالة من حيث التكلفة. أمّا تركيا، فقد كشفت في آب/ أغسطس الماضي عن نظام دفاع جوي متكامل باسم "القبة الفولاذية"، وهو يُقارن بنظام "القبة الحديدية" الإسرائيلي للدفاع ضد الصواريخ، ما يشير إلى تحول عقائدي يشعر فيه المخططون الأتراك الآن بأنّهم ملزمون بموازنة قدراتهم مقابل قدرات "إسرائيل".

يترك توسع شبكة الشراكات هذه مساحة متقلصة لإسرائيل في المبادرات الإقليمية، مثل "اتفاقيات أبراهام"، و"ممر الهند _ الشرق الأوسط _ أوروبا الاقتصادي"، وهو مشروع اقتصادي تدعمه الولايات المتحدة يربط الهند بالشرق الأوسط وأوروبا.

كما كانت قمة النقب، وهي منتدى أمني إقليمي جمع "إسرائيل" مع شركاء عرب وغربيين من بينهم الهند والإمارات والولايات المتحدة للتعاون التكنولوجي والاقتصادي. كان الهدف هو ربط الدول العربية بـ"إسرائيل" واستبعاد تركيا، واحتواء إيران. وافترض المسؤولون الأميركيون والإسرائيليون أن التطبيع والقبول المتزايد لـ"إسرائيل" في المنطقة أمر حتمي، لكنّ هذه الرؤية تنهار الآن، فقد جعلت السياسات الإسرائيلية الموضوع نفسه حساساً للغاية، وحولت التطبيع إلى مخاطرة داخلية واستراتيجية لقادة الدول العربية وحكوماتهم.

انهيار منطق التطبيع 

لقد أكد الهجوم الإسرائيلي على الدوحة هذه الديناميات، فدولة قطر هي وسيط بين "إسرائيل" و"حماس"، فضلاً عن كونها حليفاً وثيقاً للولايات المتحدة، وهي تستضيف أكبر قاعدة أميركية في المنطقة، والهجوم الإسرائيلي لم يؤذ قطر فحسب، بل قوض أيضاً الهيبة والمصداقية الأميركية، بينما أخذ حكام الخليج الدرس من تلك الحادثة، على أنّ "إسرائيل" عدوانية، ولا يمكن التكهن بتصرفاتها، وأنّ الضمانات الأمنية الأميركية لا يمكن الاعتماد عليها. ونتيجة لذلك، سوف يسعون إلى إقامة علاقات متنوعة مع القوى الأخرى وتوسيع الاستثمار في الصناعات الدفاعية المحلية.

ستؤدي هذه التطورات إلى تحالفات جديدة يمكن أن تعيد تشكيل المنطقة. ومن المرجح أن تتعاون تركيا والسعودية لكونهما من أهم القوى الإقليمية بشكل أوثق. وعلى الرغم من أنهما كانا في السابق منافسين في العديد من المناطق الساخنة الإقليمية، من ضمنها ليبيا، فإنّ البلدين يتشاركان الآن مخاوف بشأن عدم الاستقرار الإقليمي ودور إسرائيل التخريبي، ويمكنهما العمل معاً لمحاولة تحقيق الاستقرار في سوريا وتنسيق الجهود المشتركة في المحافل متعددة الأطراف للضغط من أجل إنهاء الحرب على غزّة وكبح العدوان الإسرائيلي.

كذلك، دعا وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إلى إنشاء منصة أمنية مشتركة مع دول المنطقة، ولا سيّما مصر والمملكة العربية السعودية، فيما يتوجّب على كل من إردوغان وابن سلمان إدارة التكاليف السياسية الداخلية الناجمة عن حرب غزّة. وقد واجه إردوغان غضباً شعبياً متزايداً بسبب استمرار التجارة مع "إسرائيل" التي علقتها أنقرة منذ ذلك الحين تحت ضغوط الدوائر الانتخابية الإسلامية والمحافظة لاتخاذ موقف أكثر تشدداً.

 كذلك، يواجه محمد بن سلمان انتقادات داخل مملكته، وفي العالم العربي الأوسع، لأنّه فكر حتى في التطبيع مع "إسرائيل". كما يتوجب على كلاهما الاستعداد للتعامل مع احتمال حدوث المزيد من الصراع بين "إسرائيل" وإيران.

من المؤكد أنّ إيران لم تختفِ كمصدر قلق، كما أنّ شبكة حلفائها الإقليميين قد ضعفت، ولكن لم يُقضَ عليها. وسيتعين على السعودية وتركيا أن تخطوا بحذر، فبالنسبة إلى الرياض يعني ذلك مواصلة الانفراج مع إيران، والذي أُطلق بوساطة صينية في عام 2023، الأمر الذي يقلل من أخطار التصعيد في اليمن والخليج.

أما بالنسبة إلى تركيا، فيعني ذلك تحقيق التوازن بين التعاون والمنافسة في العراق وسوريا وجنوب القوقاز، إذ تسعى كل الرياض وأنقرة إلى ضمان قدرتهما على مواجهة إيران من دون جعلها تشعر بأنّها محاصرة، لأنّ إيران المحاصرة يمكن أن تضاعف التكتيكات غير المتكافئة وتخلق أزمات جديدة.

نظام موثوق به

تتطلب هذه الديناميات من الولايات المتحدة إعادة تقييم استراتيجيتها، لكنّ صناع القرار في الولايات المتحدة يغفلون عن القلق العميق الذي تسببت به تصرفات "إسرائيل"، ويجب عليهم مواجهة الضرورة المتزايدة في المنطقة لتنويع الشراكات الأمنية. كما أنّ استمرار الدعم غير المشروط لإسرائيل يقوض النفوذ الأميركي ويعزز الانطباع بأنّ واشنطن ترى المنطقة فقط من منظور المصالح الإسرائيلية.

كذلك النخب الإقليمية بدأت بالفعل بالتحوط من خلال تعزيز علاقاتها مع الصين وأوروبا وروسيا وقوى أخرى. ومن المتوقع أن يتسارع هذا التوجه ما دامت الولايات المتحدة مستمرة في دعم "إسرائيل" من دون قيد أو شرط، متجاهلة الأضرار الجانبية التي تلحق بعلاقاتها مع الدول الإقليمية الأخرى. وإذا لم تجر الولايات المتحدة تصحيحاً لمسارها، فستجد نفسها متخلفة في منطقة لم تعد تتسم بتحديات "إيران" بقدر ما تتسم بالدور التعديلي والمزعزع الذي تؤديه "إسرائيل". وإذا فشلت واشنطن في التكيف، فستنتهي بها الحال متواطئة في هدم البنية الاستراتيجية ذاتها التي سعت لسنوات إلى بنائها في الشرق الأوسط.

مع ثقلها الكبير، ستظل الولايات المتحدة بلا جدال لاعباً مهماً في المنطقة في المستقبل المنظور، لكن للحفاظ على مصداقيتها ونفوذها، يجب عليها إعادة ضبط نهجها من خلال معالجة مخاوف مصر ودول الخليج وتركيا بشكل مباشر والعمل على أطر أمنية تعاونية تعطي الأولوية لخفض التصعيد ومنع نشوب الصراعات والتكامل الاقتصادي. وبالطبع، سيكون ذلك خروجاً حاداً عن سجلها الحافل في الآونة الأخيرة في تشجيع عسكرة المنطقة وسياسات التكتلات. 

كذلك، على واشنطن أن ترسخ سياستها بشكل أكبر في دعم الحل العادل للقضية الفلسطينية. ويجب أن يكون إنهاء حملة التدمير الإسرائيلية في غزّة، ومنع تهجير الفلسطينيين من أرضهم، ووقف المجاعة المتعمدة، ووقف ضم أراضي الضفة الغربية، نقطة البداية، فلا يمكن للولايات المتحدة أن تتجنّب محنة الفلسطينيين وتتجاهل العدوانية الإسرائيلية إذا أرادت تعزيز نظام إقليمي فعّال وذي مصداقية.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.