"فورين بوليسي": إردوغان يخاطر بالمبالغة في لعب أوراقه
لا يمكن للرئيس التركي الاعتماد على ولاء الجيش. فكما يُشير تاريخ تركيا والمنطقة ككل، كلما زاد اعتماد الحكام على جيوشهم لقمع المتظاهرين، زاد احتمال فقدانهم السيطرة عليها.
-
احتجاجات في تركيا
مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً يحذّر من أنّ سياسات إردوغان تجاه الجيش، القضاء، والإعلام، بالإضافة إلى إضعاف الانتخابات وقمع المعارضة، قد تؤدي بتركيا إلى انهيار داخلي أو حتى نزاع مسلح، كما حدث في بعض دول "الربيع العربي"، إذا لم تُعد الدولة حساباتها وتُعدّل مسارها.
أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:
شوهد بعض المتظاهرين ليلاً وهم يلوّحون بالأعلام التركية ويرفعون أيديهم في ساحة عامة تناثرت فيها النفايات، ويحجبها دخان كثيف. وعلى الجانب الآخر منها، يقف صفّ من عشرات ضباط شرطة مكافحة الشغب يرتدون خوذات ويحملون دروعاً واقية.
لقد أثار قرار الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الشهر الماضي بسجن رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو، أشدّ منافسيه على الساحة السياسية، أعنف الاحتجاجات السياسية والمقاطعات في البلاد منذ سنوات. وقد تم اتخاذ هذه الخطوة بناء على اتهامات بالفساد والإرهاب، لكن المراقبين والمعارضة التركية وصفوها بأنها نقطة اللاعودة بالنسبة إلى الديمقراطية في تركيا، وتمثل خطوة مهمة نحو الاستبداد الكامل.
إنّ هذه المحاولة لمنع إمام أوغلو من الترشح في الانتخابات المقبلة تضيق بشكل كبير الطريق أمام المعارضة لتحقيق النصر في الانتخابات، وتُظهر أنّ إردوغان لن يسمح ببروز أي تحديات جدية تهدد منصبه. ومع تقويض استقلالية القضاء وحرية الإعلام وإجراءات الانتخابات النزيهة، لم يعد صندوق الاقتراع سبيلاً موثوقاً للتغيير السياسي. وبالنسبة إلى الكثيرين، باتت الشوارع الساحة الأخيرة المتبقية للتعبير عن رفضهم لكل ما يحدث.
وفي الوقت الذي اتخذ إردوغان خطواتٍ مهمة نحو ترسيخ الحكم الاستبدادي، تفتقر تركيا إلى الهياكل الاقتصادية والسياسية اللازمة للدكتاتورية الكاملة. كما أنّ إردوغان يفتقر إلى جهاز مخلص بالكامل يمكنه فرض إرادته من دون أيّ قيد أو شرط، وخاصة الجيش، الذي ظل لفترة طويلة يُعدّ ضرورياً للأنظمة الاستبدادية القوية.
وهذا يضع تركيا في حالة من عدم الاستقرار بين السلطوية التنافسية، إذ توجد الانتخابات والمؤسسات الديمقراطية الأخرى شكلياً ولكنها تتعرض للتقويض بسبب الانتهاكات المنهجية للسلطة، والديكتاتورية الصريحة. وخلال هذه المرحلة الانتقالية، سيكون النظام شديد التأثر بالاحتجاجات الشعبية، لكنه سيظل يفتقر إلى القدرة على اتخاذ التدابير اللازمة لقمعها بشكل حاسم. فهذا النظام غير مستقر بطبيعته وقد يترتب عليه نتائج عكسية في حال واصل إردوغان السير على هذا النهج.
منذ منتصف عام 2000، حاول إردوغان تحصين الجيش ضد الانقلابات بإعادة تشكيل قيادته وتطهيره من المشتبه في انشقاقهم. وقد تكثفت هذه الجهود في أعقاب محاولة الانقلاب العنيفة في عام 2016، التي قادها بشكل رئيس أتباع رجل الدين المسلم الراحل فتح الله غولن، الذي سعى إلى إطاحة إردوغان وفشل.
وعلى الرغم من نجاح إردوغان في ضمان طاعة القيادة، فإنّ النتيجة ليست قوة موالية موحدة، بل قوة مُسيّسة بعمق على جميع المستويات. والفرق بين الاثنين مُهمّ؛ فالجيش الموالي يكون مطيعاً من دون أيّ قيد أو شرط ومتوافقاً أيديولوجياً مع النظام، في حين أنّ الجيش المُسيّس يكون منقسماً، ويتعرض لضغوط سياسية، ويعاني من انعدام الثقة داخلياً خلف واجهة موحدة متوافقة.
وبتسيّسه للجيش، عرّض إردوغان مستقبل نظامه للخطر. وإذا واصل تصعيد أعمال القمع، لا سيّما إذا حاول نشر الجيش لقمع الاحتجاجات - فإنه يُخاطر بالتصرّف بثقة زائدة. فالجيش يريد أن يبقى محايداً، ولكن إذا تم الضغط عليه بشدة للامتثال لمطالب النظام، فقد ينقسم؛ وسيؤدي ذلك إلى زعزعة الاستقرار ليس في تركيا فحسب، بل في المنطقة بأكملها.
تُقدّم حركات الاحتجاج المناهضة للحكومات التي اجتاحت الشرق الأوسط في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، كجزء من "الربيع العربي"، أوجه تشابه مُقلقة. إذ اعتمد مصير الأنظمة الاستبدادية بشكلٍ كبير على استعداد الجيش لقمع المعارضة. ففي تونس ومصر، كان رفض الجيوش المعنية قمع الاحتجاجات بالقوة عاملاً أساسياً في السماح للمعارضة الجماهيرية إطاحة الحكام. وفي البحرين والسعودية، ساعدت قوات الأمن الموالية الأنظمة الملكية على البقاء من خلال قمع المظاهرات بعنف. أمّا في ليبيا وسوريا واليمن، فقد أدت الولاءات المنقسمة للجيوش بين النظام والمعارضة إلى نشوب حروب أهلية دامية.
وتركيا ليست بمنأى عن هذه الديناميكيات. فمنذ عام 2016، تولّى إردوغان الإشراف على عملية إقالة أكثر من 124 ألف موظف حكومي، من بينهم آلاف الضباط العسكريين. وتؤكد وسائل الإعلام الموالية للحكومة بفخر أنّ العاملين حالياً في القضاء وأجهزة الأمن بغالبيتهم عُيّنوا بعد الانقلاب عبر تدقيق سياسي علني. والرسالة التي يريد توجيهها نظام إردوغان واضحة: الدولة لن تتسامح بعد الآن مع المعارضة؛ وستقوم قوات الأمن، بما في ذلك الجيش، بالدفاع عن النظام.
لكنّ هذا السرد يحجب حقيقة أساسية مفادها أنّ المنظمات ذات الطابع المؤسسي المتجذر مثل الجيش تصعب إعادة تشكيلها، حتى لو قام إردوغان بملء مؤسسات الدولة بالموالين له سياسياً.
تميل الجيوش والمؤسسات الهرمية الأخرى، ذات المعايير الثقافية والهياكل التنظيمية الخاصة بها، إلى تبنّي سياسة معتدلة. وينطبق هذا الأمر بشكل خاص على تركيا، حيث تبدأ التنشئة العسكرية في وقت مبكر وتكون مكثفة ودائمة.
علاوة على ذلك، لا يمكن هندسة الولاء العقائديّ بتكديس الصفوف بالتعيينات السياسية. وكما لاحظتُ في بحثي الخاص، فإن الكثير من المجنّدين يأتون من خلفيات غير سياسية أو ينخرطون في ما يمكن تسميته بـ"تزييف نمط الحياة"، بمعنى تكييف مظهرهم وسلوكهم لتلبية التوقعات السياسية من دون استيعاب أيديولوجية النظام بعمق. كما أنّ الإشارة إلى الولاء السياسي وتأمين مرجع سياسي قد يساعد المرشحين على الدخول إلى الجيش أو الحصول على ترقية، لكنها لا تضمن الولاء على المدى الطويل.
وتتشكل أنماط التجنيد العسكري أيضاً من خلال الشبكات الاجتماعية غير الرسمية التي تربط القوات المسلحة بمناطق وفئات اجتماعية محددة. فكما أنّ للجيش الأميركي جذوره في أوساط جغرافية وثقافية وعائلية محددة، يستمد سلك الضباط التركي قوته من قنوات اجتماعية راسخة تقاوم التجانس السياسي.
وعند تأسيس جيش النظام، يُعطي الحُكّام الأولوية في أغلب الأحيان لبناء الولاء داخل القيادة، وتشجيع الجنرالات المتوافقين أيديولوجياً أو عرقياً بشكل انتقائي، كما فعل الرئيس السوري السابق بشار الأسد أو الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو.
لكن حتى هذه الاستراتيجية لها حدودها. إذ يتم اختيار كبار الضبّاط من فئات محدودة الحجم، مُرتبطة اجتماعياً بالقيم المؤسسية. وحتى الجنرالات الذين ارتقوا تحت إشراف إردوغان، مثل توفيق ألجان، أظهروا ولاءهم للمبادئ التأسيسية للجمهورية، تماماً كما فعلت شخصيات محافظة مثل خلوصي آكار عندما كان الجيش علمانياً بشدّة.
أمّا الرتب المتوسطة، من النقباء إلى العقداء، التي تتولى قيادة وحدات تكتيكية وتتفاعل يومياً مع الجنود والمدنيين، فهي أكثر مقاومة. فانخراط أفرادها في الثقافة العسكرية المهنية يجعل الاستغناء عنهم صعباً؛ وهذا يعني أنه من الصعب مراقبة ولاءاتهم السياسية. وحتى أنظمة وشبكات المراقبة الأكثر تطوراً تواجه صعوبة في اختراق هذه الطبقة من القيادة.
إنّ بناء جيش مطيع حقاً يستغرق وقتاً؛ ومع ذلك، يظل الانشقاق خطراً قائماً. وكما أظهرت انتفاضات "الربيع العربي"، فحتى في الأنظمة الخاضعة لسيطرة مشددة وراسخة، قد يرفض الجنود إطلاق النار على المدنيين، كما حدث في تونس ومصر، وجزئياً في سوريا.
وعلى الرغم من دورهم التاريخي في الانقلابات، رفض الضباط الأتراك عموماً مساعدة القادة الشخصيين، لا سيما في أوقات الاحتجاجات الجماهيرية. وانكشفت هشاشة سيطرة إردوغان على الجيش في آب/ أغسطس 2024 في حفل تخرج الأكاديمية العسكرية التركية. فبعد انتهاء الحفل الرسمي الذي حضره إردوغان، رفع مئات من الملازمين الجدد سيوفهم وأعلنوا الولاء للمبادئ العلمانية والديمقراطية للجمهورية بدلاً من الرئيس. وهتفوا "نحن جنود مصطفى كمال" في إشارة واضحة إلى مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية، وإرثه العلماني.
وردّ إردوغان بحملة تطهير، تضمنت فصل 5 ملازمين وإقالة 3 من المشرفين على الأكاديمية، وافقت عليها لجنة تأديبية عسكرية منقسمة بصعوبة. وسرعان ما أُجبر ألغان، رئيس أركان الجيش الذي صوّت ضدّ الإقالات، على الاستقالة. وكشفت هذه الحادثة عن قيادة عسكرية بعيدة كل البعد عن التجانس.
بالإضافة إلى ذلك، تعرقل البيانات الانتخابية سردية ولاء إردوغان أكثر. ففي الانتخابات المحلية لعامي 2019 و2024، وعلى الرغم من الحملة الانتخابية التي اتسمت بالنزعة القومية والرمزية العسكرية، دعم الضباط وعائلاتهم بأغلبية ساحقة مرشحي المعارضة أمثال إمام أوغلو ورئيس بلدية أنقرة منصور يافاش. وفي إسطنبول وأنقرة، سجّلت الدوائر الانتخابية القريبة من المساكن العسكرية دعماً للمعارضة وصل إلى 80%. وحتى في المواقع العسكرية الأصغر، حيث شارك المجندون ذوو الميول المحافظة في عملية الاقتراع، لم يحقق حزب "العدالة والتنمية" بزعامة إردوغان النتائج المرجوة.
وبالتالي، تعكس هذه التوجهات ما هو أكثر من مجرد سخط سياسي. فسلك الضباط ليس بمنأى عن المظالم الوطنية: إذ تعاني عائلات العسكريين من الوضع الاقتصادي الهش نفسه - ارتفاع التضخم ونقص المساكن وتراجع القدرة الشرائية - الذي يُغذي سخطاً أكبر.
فضلاً عن ذلك، إن تسييس إردوغان للجيش يُضعف فعاليته. وهذا يشكل مصدر قلق بالغ للضباط الذين يراقبون عواقبه من كثب. وعلى الرغم من أنّ القوات التركية نجحت في تنفيذ عمليات عبر الحدود بكفاءة في سوريا والعراق، فإن معظم هذا النجاح يعود إلى الخبرة في ساحة المعركة والتفوق التكنولوجي، بما في ذلك الطائرات المُسيّرة ــ وليس إلى القوة والكفاءة المؤسسية.
وقد كشفت الاستجابة للزلزال الذي وقع عام 2023 عن عواقب جهود إردوغان لمنع الانقلاب. إذ فشل الجيش في التعبئة بفعالية خلال الساعات الأولى الحاسمة، نتيجة الشلل الذي أصابه بسبب سلسلة القيادة التي كانت حذرة من التصرف من دون أي توجيه سياسي. كما دفع حادث التخرج العام الفائت، الذي أدى إلى تسريح ضباط رفيعي المستوى و5 من أفضل خريجي الأكاديمية العسكرية، إلى تزايد المخاوف في سلك الضباط. ويخشى الكثير من الضباط من التضحية بالكفاءة المهنية على مذبح التوافق السياسي.
لطالما صُنفت تركيا إردوغان على أنها نظام استبدادي تنافسي، إذ تُجرى فيها انتخابات حقيقية لكن غير عادلة. وقد دفع اعتقال إمام أوغلو ورئيسَي حزب "الظفر" القومي وحزب "المساواة وديمقراطية الشعوب" المؤيد للكرد، إلى جانب تراجع نزاهة الانتخابات، البلاد إلى مكان أكثر ضبابية. وتبدو الانتخابات اليوم شكلية إلى حد كبير؛ فحتى الأصوات المؤيدة للحكومة تعترف صراحة بأن انتقال السلطة عبر صناديق الاقتراع أمر غير ممكن على الإطلاق.
ومع ذلك، لم تصبح تركيا دولة استبدادية قمعية بالكامل إلا بوجود جيش موالٍ بصورة موحدة. وهي تعيش اليوم حالة من عدم الاستقرار، أو ما يمكن أن نطلق عليه تسمية "حكم استبدادي غير تنافسي" أو "دكتاتورية شبه قسرية"؛ قد تشكل خطراً لا مثيل له.
ومن خلال تسييس الجيش وتفريغ العملية الانتخابية، زرع إردوغان بذور الصراع وعدم الاستقرار، ما أدى إلى زعزعة متانة النظام واحتمال انتقال السلطة سلمياً. وفي أسوأ السيناريوهات، إذا تزايدت الاحتجاجات وتمسك إردوغان بالسلطة بأي ثمن، فقد تنحرف تركيا نحو مسارات مشابهة لما حدث في سوريا أو ليبيا، من صراع داخلي وفوضى مزمنة.
قد يسعى إردوغان إلى استخدام القوات المسلحة لإسكات المعارضة. ولكن، كما يُشير تاريخ تركيا والمنطقة ككل، كلما زاد اعتماد الحكام على جيوشهم لقمع المتظاهرين، زاد احتمال فقدانهم السيطرة عليها.
نقلته إلى العربية: زينب منعم.