"فورين بوليسي": المعايير المزدوجة الفاشلة للولايات المتحدة في التعامل مع فلسطين

تشكّل القضية الفلسطينية النموذج الأنصع، في سجلات الدبلوماسية الأميركية البعيدة كلياً عن تحقيق مبادئ المثل الأعلى، منذ وقت طويل وما قبل أحداث 7 تشرين الأول/أكتوبر في العام الماضي.

  • جرّافات الاحتلال الإسرائيلي تهدم منازل الفلسطينيين
    جرّافات الاحتلال الإسرائيلي تهدم منازل الفلسطينيين

مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً للكاتب آلان ج. ويند، يتحدّث فيه عن ازداوجية المعايير الأميركية التي تنتهجها عندما يتعلق الأمر بالقضية الفلسطينية.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية بتصرف:

تشكل القضية الفلسطينية النموذج الأنصع في سجلات الدبلوماسية الأميركية البعيدة كلياً عن تحقيق مبادئ المثل الأعلى في أماكن، مثل قطاع غزة والضفة الغربية، منذ وقت طويل، وما قبل أحداث الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر في العام الماضي.

يندر صدق الولايات المتحدة وانفتاحها في التعامل مع الفلسطينيين، على الرغم من الوعود بأنّ واشنطن ستكون منصفةً معهم. وكانت اتفاقيات أوسلو لعامي 1993 و1995، تقدّم تصوراً للاستقلال الفلسطيني، والانسحاب العسكري للاحتلال الإسرائيلي، وإقامة دولة فلسطينية. وكانت هناك توقعات بأن تستمر عملية فك الارتباط لمدة 5 أعوام، ثم تبدأ محادثات الوضع النهائي المؤدية إلى السلام. وكان من المفترض أن تفتح الحكومة الأميركية قنصلية لها في فلسطين من دون قيود أو شروط من أجل "تعزيز السلام". وفي نهاية الأمر، لم يكن هناك أي أمل في التوصل إلى اتفاق سلام، ولم يتحقق أيّ من هذه الأهداف أو بنود الاتفاق المذكور أبداً. وفرضت الحكومة الأميركية قيوداً متزايدة على الدبلوماسيين والعاملين في المجال الإنساني في فلسطين والمنطقة، الأمر الذي أدّى إلى تقويض قدرتهم على أداء وظائفهم بفعالية. وإنّ كثيرين من الذين يديرون جهود التنمية أو المساعدات الإنسانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وخصوصاً قطاع غزة، لديهم خبرة شخصية مع "سياسات التجاهل" التي تنتهجها الحكومة الأميركية.

صنّفت إدارة بوش حركة حماس منظمة إرهابية أجنبية، في إثر فوزها في الانتخابات التي جرت في غزة في عام 2006، ثم أصدرت الوكالة الأميركية للتنمية الدولية توجيهاً سياسياً يحظر تقريباً أيّ مساعدة أو دعم من جانب الولايات المتحدة لحكومة حماس في قطاع غزة، بما فيها حظر الاتصال بالمنظمات والقطاعات المدنية والخدمية البحتة. وفي أواخر عام 2018، أقر الكونغرس الأميركي قانون تايلور فورس، ووقّعه الرئيس دونالد ترامب آنذاك، وهو قانون يمنع أيّ مساعدة من الحكومة الأميركية للسلطة الفلسطينية في الضفة الغربية ما لم تتوقف عن دفع التعويضات إلى عائلات الشهداء الفلسطينيين الذين نفّذوا هجمات منفردة ضد "الجيش" الإسرائيلي. وهكذا، ألغيت المساعدات التي تقدمها الحكومة الأميركية إلى الضفة الغربية وغزة في آن، وإنهاء التواصل السياسي مع كل مستويات السلطة الفلسطينية.

ومن خلال الحرمان الإسرائيلي للفلسطينيين من الزراعة بصورة واسعة، أو من تعزيز التجارة وصناديق التنمية الاقتصادية، والبنى التحتية الأولية كجر المياه، مع السياسات الأميركية الجائرة، تم إفقار المجتمع الفلسطيني الضعيف وتهميش أي صعود سياسي للقوى الفلسطينية الجديدة، والمراهنة على أجندات المتطرفين في "دولة" الاحتلال. لقد تحمّل الفلسطينيون ضماً مستمراً لما تبقّى من أراضيهم السليبة، بحيث يهدم المستوطنون الإسرائيليون منازلهم، ويعتدون عليهم بصورة دائمة في ظل غياب تام للمساءلة. إنّ هذه السياسات الأميركية تكلّف غالياً من دماء الفلسطينيين وأرواحهم، وتسمح لقوات الاحتلال والمستوطنين الإسرائيليين بالاستمرار في ممارسة الفوضى والعنف في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

كل ذلك أدّى إلى تزايد اليأس لدى سكان غزة المحاصرين من "إسرائيل" في القطاع الذي أصبح أكبر سجن مفتوحٍ في العالم، منذ إغلاق مطار غزة الدولي في عام 2001، بعد نحو عامين من تشغيله، ثم قطعت الطرق البرية التي تصل غزة بخارجها، وانخفض عدد الذين يحملون تصاريح عمل تسمح لهم بالعمل في مناطق الاحتلال بنسبة تزيد على 90%. كذلك منعت سلطات الاحتلال التجارة عبر الميناء البحري، وسمحت بصيد الأسماك بصورة محدودة بـ 6 أميال بحرية من الساحل، ولم يسمح إلا لعدد ضئيل من الحالات الطبية المستعصية بالخروج من القطاع لتلقي العلاج. 

وبصفتي أحد "كبار" مسؤولي الخدمة الخارجية الأميركية، فإنّ هذه السياسات غير المنتجة كثيراً لطالما كانت تقيّد عمل فريقي في غزة. واضطررنا إلى إهدار أوقات طويلة في التأكد لمنع أدنى احتمال لأي اتصال بالسلطات الفعلية، ولم يكن في استطاعتنا التواصل مع أي من الشركاء المحتملين بين منظمات المجتمع المدني والجمعيات الخدمية الصغيرة. كذلك، كان من المستحيل علينا تقريباً تقديم خدمات أنشطة الرعاية الصحية. حتى خلال أزمة جائحة كورونا، لم نتمكن من دعم المستشفيات ولا المستوصفات المرتبطة بوزارة الصحة الفلسطينية، ولم نتمكن من دعم جهود التطعيم أو تتبع الحالات التي تديرها الحكومة.

وتعرضت أيضاً المنظمات غير الحكومية التي تنفذ برامج اجتماعية في الأراضي الفلسطينية المحتلة للمضايقات والاستغلال من خلال الاستخدام غير المقصود للقوانين الأميركية، مثل قانون "المزاعم الزائفة"، الذي وضع خلال حقبة الحرب الأهلية الأميركية، وعدّله الكونغرس في أعوام 1943 و1986 و2010، وهو يمكّن الكيانات الخاصة والمواطنين من رفع دعاوى قضائية ضد أي مجموعة بتهمة "خداع" الحكومة الاتحادية، الأمر الذي يظهر فعلياً أن المدعين ليسوا إلا من صائدي جوائز.

وتم تطبيق هذا القانون العدواني من أجل "شرعنة الحروب" ضد الجمعيات والمنظمات الخيرية غير الربحية، والتي تدير المساعدات الإنمائية الأميركية في الأراضي الفلسطينية المحتلة. وفي حال نجاح المدعي أمام القضاء، فسوف يحصل على ما يصل إلى 30% من أموال المساعدات الحكومية المخصصة. وتبعاً لهذه القوانين التصنيفية، رفعت دعاوى قضائية ضد العديد من المنظمات غير الحكومية الدولية في المحاكم الأميركية، من جانب ناشطين يمينيينَ مناهضين للفلسطينيين واتهامها بتقديم مساعدات مادية لحركة حماس، وضمنهم مؤسسَة "دياكونيا" السويدية، و"أوكسفام" البريطانية، و"مركز كارتر"، و"منظمَة المساعدات الشعبية النرويجية". ومن الأمثلة الشائنة على هذا النمط من السياسات القذرة، قام مؤيدون لـ "إسرائيل" من مركز "الدعوة الصهيونية" وجماعات أخرى بالادعاء على "منظمة المساعدات الشعبية النرويجية"، بسبب تقديمها زجاجات ماء شرب إلى موظفي وزارة الصحة الفلسطينية خلال مؤتمر عن الديمقراطية والصحة. وأدّت الدعوى القضائية التي أقيمت في عام 2015 إلى تسوية من المحكمة في عام 2018 من دون الاعتراف بالذنب.

لا شك في أنّ هذه القيود منحازة إلى جانب واحد، فلا توجد أي موانع أو عقوبات تقيد المساعدات الأميركية لـ "إسرائيل"، حتى حين تخترق الأخيرة القوانين والأعراف الدولية في احتلال أرض الفلسطينيين وبناء المستوطنات غير الشرعية، إضافةً إلى مساندة الولايات المتحدة لـ"الدولة" الصهيونية التي تدعم مستوطنيها في ارتكاب جرائم القتل بحق الفلسطينيين ومهاجمة قراهم وحقولهم، مع ضمان إفلاتهم من العقاب.

ومنذ هجمات أحداث الـ7 من تشرين الأول/أكتوبر في العام الماضي، أصبح تأثير هذه القيود الأميركية أكثر وضوحاً وضرراً. ولا يوجد تناسب أو تكافؤ في المعاملة، فالحكومة الأميركية لا تتجرأ على تصنيف المجموعات المؤيدة لـ "إسرائيل" على أنّها منظمات إرهابية أجنبية حتى عندما يدعم بعضها بصورة واضحة عنف المستوطنين، أو يحرّض عليه. وفي خطوة عقابية نادرة في العام الماضي، أعلنت وزارة الخارجية الأميركية بعض القيود على تأشيرات المستوطنين الإسرائيليين المتورّطين في أعمال عنف في الضفة الغربية، في أعقاب انضمام "إسرائيل" المثير للجدل إلى برنامج الإعفاء من التأشيرة الأميركية. ومع ذلك، لم تتم ملاحظة سوى قدر ضئيل من المساءلة الملموسة منذ ذلك الحين، ولم يتم فرض أي عواقب تقريباً على وحدات "الجيش" الإسرائيلي الذي ينتهك أيضاً حقوق الفلسطينيين، ويشجّع على عنف المستوطنين.

إنّ إدارة بايدن ووزارة الخارجية على استعداد فقط للتعامل بشكل غير مباشر مع المؤسسات الاجتماعية الفلسطينية، وهذا غير فعالٍ، ولا يشكل بديلاً من الدبلوماسية الجادة للقوى الكبرى. وكما لاحظت مجموعة من المنظمات الإنسانية العالمية، لا يمكن لواشنطن أن تزعم أنها تعارض القصف العشوائي للأبرياء وكبار السن والأطفال، في حين تسمح لـ "الجيش" الإسرائيلي بارتكاب جريمة الإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.

بالإضافة إلى ذلك، من غير المقبول عدم المنع والمعاقبة للهجمات على القرى والبلدات الفلسطينية في مختلف أنحاء الضفة الغربية، والتوسع المستمر للمستوطنات غير القانونية، وهي السياسة التي يقابلها البيت الأبيض باللوم فقط، وبتجاهل القوانين التي تمنع تدفق المساعدات العسكرية والأسلحة الأميركية إلى أي قوات عسكرية متهمة بارتكاب جرائم حرب.

على مدى عقود تحصل "إسرائيل" على 3 مليارات دولار من المساعدات العسكرية الأميركية سنوياً، وارتفع هذا الرقم منذ بدأت الحرب على غزة، بحيث أقرّت الولايات المتحدة تشريعات تنص على زيادة تقديم مساعدات عسكرية إلى "إسرائيل" لتصل إلى 12.5 مليار دولار على الأقل، في ظل تجاهل وزارة الخارجية الدعوات إلى التحرك والمراجعة من جانب موظفيها، حتى مع إقرارها بالتقارير المستمرة عن انتهاكات حقوق الإنسان في الضفة الغربية وغزة.

لم تظهر نائبة الرئيس كامالا هاريس، ومنافسة ترامب في الانتخابات الرئاسية المقبلة، أي إشارة إلى تحول ما، أكثر من دعواتها الخجولة المعتدلة إلى وقف الحرب على غزة، مع تأكيد أنها تدعم حق "إسرائيل" في الدفاع عن نفسها بلا قيود. كذلك، لن يعترف سوى عدد قليل من المسؤولين الأميركيين بأنّ "إسرائيل" تجاوزت خط الدفاع المشروع عن النفس في حربها على الفلسطينيين عندما بدأت شن عمليات عسكرية غير مقيّدة ضد المدنيين الفلسطينيين في غزة، بحيث تم تدمير كل البنى التحتية والفوقية في القطاع المنكوب، في وقت اعترف دانيل هاغاري للقناة الـ"13" الإسرائيلية بأنّ "جيش" الاحتلال الإسرائيلي لا يستطيع تدمير حماس بالكامل. لكن الآن، بعد مرور عام على الحرب، لا يزال يتعين على المدنيين في غزة أن يحاولوا البقاء في قيد الحياة من خلال عمليات النزوح المستمرة من منطقة إلى أخرى تكون محاطة بالموت والدمار والإرهاب الإسرائيلي بمستوى أقل.

لقد قام بلينكن بنحو 9 رحلات على الأقل للمنطقة، في مسعى ظاهري لتحقيق السلام، في وقت يتجاهل استخدام القوانين الأميركية الواضحة بحظر الأسلحة عن الدول المتورطة في جرائم الحرب، لكن بلينكن والرئيس بايدن يقفزان فوق التشريعات عندما يتعلق الأمر بـ "إسرائيل". في منتصف الشهر الفائت، قُتلت الناشطة التركية الأميركية انيسنور إيجي، البالغة من العمر 26 عاماً، برصاصة في رأسها أطلقها جندي إسرائيلي في أثناء احتجاج ضد المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية. ودعا الرئيس جو بايدن بسرعة إلى المساءلة الكاملة، وقبل بلينكن التحقيق الأولي الذي أجراه جيش الدفاع الإسرائيلي والذي طعنت فيه صحيفة "واشنطن بوست" وشهود آخرون، وأصرّوا على إجراء تحقيق مستقل بقيادة الولايات المتحدة.

كانت إيجي هي المواطنة الأميركية الثالثة التي تقتلها قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية خلال عام، إلا أنّ موتها لم يحظ باهتمام كبير من جانب صنّاع القرار مقارنة بمقتل إسرائيليين يحملون الجنسية الأميركية، وهذا يُعَدّ إهمالاً إدارياً فادحاً وسوء تصرف من الناحيتين الإنسانية والسياسية.

إنّ تدمير "إسرائيل" لغزّة من شأنه أن يعرّض حياة الفلسطينيين للخطر لسنوات طويلة، ويؤدي إلى إدامة دورات لا نهاية لها من العنف غير المتوقع. والعواقب المترتبة على ذلك بالنسبة إلى الدبلوماسية الأميركية مأسَوية. ويتعين على البيت الأبيض والكونغرس إعادة تقويم جدية للعواقب والتأثيرات المترتبة على القوانين والتدابير السياسية الأميركية، ويجب تطبيقها على وحدات جيش الاحتلال الإسرائيلي المذنبة والمرتكبة مع قادتها العسكريين، ومن يوفر الغطاء للجريمة من السياسيين في "تل أبيب"، وفي واشنطن ربما.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.