"فورين بوليسي": صفقة "تيك توك" راية أميركا البيضاء في الحرب التكنولوجية مع الصين

تعتبر صفقة "تيك توك" اعترافاً أميركياً بالهزيمة في الحرب التقنية مع الصين، حيث ستظل بكين محتفظة بتأثير كبير على النسخة الأميركية من التطبيق.

  • "فورين بوليسي": صفقة "تيك توك" راية أميركا البيضاء في الحرب التكنولوجية مع الصين

مجلة "فورين بوليسي" الأميركية تنشر مقالاً  يتناول صفقة "تيك توك" ودلالاتها، ومستقبل الحرب التكنولوجية بين واشنطن وبكين.

أدناه نص المقال منقولاً إلى العربية:

في الأسبوع الماضي، وقّع الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمرًا تنفيذيًا يسمح لتطبيق "تيك توك" بمواصلة العمل في الولايات المتحدة، مع مراعاة مخاوف الأمن القومي. وبعد اتصال هاتفي مع الرئيس الصيني شي جين بينغ، أعلن ترامب التوصل إلى اتفاق مع مجموعة استثمارية أميركية بقيادة "أوراكل" للاستحواذ على 80% من عمليات التطبيق داخل البلاد.

رغم ذلك، تبقى المخاوف الأمنية قائمة. فخوارزمية "تيك توك" التي تُعد سر نجاحه ستظل مرتبطة بشركة "بايت دانس" الصينية، ما يتيح لبكين الاحتفاظ بتأثير كبير حتى بعد الصفقة. كما أن مسألة تحديث الخوارزمية تثير تساؤلات حول استمرار تبعية النسخة الأميركية للنسخة الأصلية.

ومن المتوقع أن تجني إدارة ترامب مليارات الدولارات من الصفقة، التي وصفها ترامب بأنها "رسوم إضافية هائلة". غير أنّ السيطرة على التطبيق ستنتقل في عملية غير شفافة إلى مستثمرين مقربين من ترامب، بينهم لاري إليسون وروبرت مردوخ.

ويرى خبراء أنّ ما يحدث يمثل "رأسمالية محسوبية". وقال راش دوشي، المسؤول السابق في إدارة بايدن، إن "صفقة تيك توك تبدو غير متاحة للجميع، بل للمقربين من الإدارة".

كما يُخشى أن يتيح إنشاء مجلس إدارة جديد للتطبيق المجال أمام تضخيم الخطاب المؤيد لترامب وقمع الأصوات المنتقدة، وهي المخاوف نفسها التي أثيرت سابقًا بشأن الملكية الصينية للتطبيق.

كذلك، فإن التسلسل المذهل من الأحداث الذي أدى إلى الأمر التنفيذي بشأن "تيك توك"، إلى جانب صفقات ترامب الأخيرة، يثير أسئلة كبيرة: هل يتخلى الرئيس ترامب عن حرب التكنولوجيا الأميركية ضد الصين، وهو نفسه من أشعلها عام 2018 حين وضع شركة "زد تي إي" الصينية في القائمة السوداء، في خطوة اعتُبرت "حكم إعدام" عليها؟

آنذاك، انتقد خبراء الأمن القومي الرئيس باراك أوباما لتأخره في إدراك الخطر الصيني، معتبرين أنه كان منشغلاً بسوريا، وليبيا، والملف النووي الإيراني، وتهديد "داعش"، بينما رأى ترامب بوضوح مخاطر صعود بكين. لكن المفارقة أنّه اليوم يسلك اتجاهاً مختلفاً تماماً.

فمع عودة ترامب إلى منصبه بداية العام الجاري، كانت حرب التكنولوجيا الأميركية ضد الصين في ذروتها. وعلى مدى أربع سنوات، شدّد بايدن ضوابط التصدير على بكين إلى مستوى غير مسبوق، مركّزاً على منعها من الحصول على الرقائق المتقدمة الضرورية للذكاء الاصطناعي والمعدات العسكرية. وقد وصفت "نيويورك تايمز" هذه الاستراتيجية بأنها "إعلان حرب اقتصادية على الصين".

اعتمدت إدارة بايدن نهجاً يقوم على الحفاظ على التفوق الأميركي، عبر تشديد الضوابط وتنسيق الجهود مع الحلفاء لخنق بكين تكنولوجياً، مع دعم صناعة الرقائق محلياً. وعندما احتجّت الصين، ردّت واشنطن بأنّ الأمر يتعلّق بالأمن القومي ولا مجال للنقاش.

ومع اقتراب انتهاء ولاية بايدن، عزّز موقفه بقرار جديد ينظّم مشاركة النماذج والرقاقات مع الدول الأجنبية، في محاولة لحصر تقنيات الذكاء الاصطناعي المتقدمة بيد الولايات المتحدة وحلفائها، ومنع خصومها، الصين وروسيا وإيران وفنزويلا، من الوصول إليها أو استخدامها عسكرياً أو في الهجمات السيبرانية ضد أميركا.

مع ذلك، يتوقع المحللون أن يحافظ ترامب على استراتيجية مواجهة الصين إلى حدّ ما، رغم أنّ اهتمامه الأكبر انصبّ على فرض رسوم جمركية على كندا والمكسيك وأوروبا لخفض العجز التجاري، بدلاً من موازنة الصين أو روسيا. فعلى سبيل المثال، هدّد ترامب بمعاقبة موسكو إذا لم يسعَ الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلام في أوكرانيا، لكنه لم يُقدِم على ذلك.

ويعكس الفريق الذي عيّنه ترامب تحوّلاً في الذهنية. فالمسؤولون التقنيون على رأس إدارته، مثل "قيصر الذكاء الاصطناعي" في البيت الأبيض ديفيد ساكس، والمستشار العلمي مايكل كراتسيوس، يتبنون رؤية قاتمة تجاه ضوابط التصدير. ويؤكدان أنّ الاستراتيجية الأفضل هي التوسع بقوة في الأسواق العالمية، وتوقيع صفقات مع الحكومات، واستغلال المزايا التجارية لترسيخ الهيمنة التكنولوجية الأميركية.

بحلول أيار/مايو، تخلّى فريق ترامب عن قواعد بايدن الخاصة بانتشار الذكاء الاصطناعي. وفي الأثناء، وجد صقور السياسة الخارجية تجاه الصين أنفسهم مهمشين بقيادة مستشار الأمن القومي مايك والتز. وفي نيسان/أبريل، التقت الناشطة اليمينية المتطرفة لورا لومر بترامب وقدّمت له قائمة بأشخاص لا يلتزمون بأجندته، معظمهم من موظفي مجلس الأمن القومي. أعقب ذلك إقالة ستة موظفين ثم إبعاد والتز نفسه من منصبه.

وبعدها، وجد ساكس مساحة أوسع لتنفيذ أجندته، فيما خضع ترامب لتأثير الرئيس التنفيذي لشركة "إنفيديا" جنسن هوانغ، الذي شن حملة ضغط مكثفة في واشنطن ضد ضوابط تصدير الذكاء الاصطناعي. جادل هوانغ بأن الحظر جاء بنتائج عكسية، إذ دفع الصين إلى تطوير بدائلها الخاصة، مؤكداً أن جيشها لا يستخدم شرائح "إنفيديا". واعتبر بكين "منافسة" لا "عدواً"، وهي رؤية وجدت صدى لدى ترامب.

المطلب الأبرز لـ"إنفيديا" كان إلغاء حظر بيع شريحة "H20" للصين، وهي أساسية في معالجة تطبيقات الذكاء الاصطناعي. وفي حزيران/يونيو الماضي، استجاب ترامب ورفع الحظر بشروط: إذ وافقت "إنفيديا" و"AMD" على منح واشنطن 15% من عائداتهما من مبيعات الشرائح للصين مقابل السماح باستئناف هذه الصفقات.

قال ترامب للصحافيين: "قلت لهم أريد 20% إذا كنت سأوافق على ذلك، من أجل البلاد، من أجل بلدنا. لا أريدها لنفسي. لكن هوانغ طلب أن أجعلها 15%، فتفاوضنا على صفقة صغيرة." ومنذ عودته إلى المنصب، خفّض ترامب مراراً من أولوية الأمن القومي لفائدة المصالح الاقتصادية. وتُعد زيارته في أيار/مايو الماضي للسعودية والإمارات وقطر مثالاً واضحاً على ذلك، إذ كان هدفها الرئيس إبرام صفقات بمليارات الدولارات في مجال الذكاء الاصطناعي.

في الإمارات، توصّل ترامب إلى اتفاق لبناء مجمّع ضخم لمراكز البيانات في أبوظبي يستوعب نحو 2.5 مليون شريحة "نفيديا B200"، وهو أكبر مشروع للبنية التحتية للذكاء الاصطناعي خارج الولايات المتحدة. ومن المتوقع أيضاً انضمام شركة استثمار إماراتية إلى تحالف "تيك توك" في أميركا. كما أبرم فريق ترامب اتفاقاً مماثلاً مع السعودية لتوريد مئات الآلاف من شرائح "بلاكويل" من "نفيديا" إلى كيان الذكاء الاصطناعي الجديد هناك.

كل ذلك يوضح تجاهل المخاوف من تسليم مورد استراتيجي حساس لشركاء يُنظر إليهم كغير موثوقين، أو من احتمال استفادة الشركات الصينية من القدرات الحاسوبية الجديدة في الخليج لتدريب نماذجها الخاصة. وكما قال ديفيد ساكس: "الخيار هو: هل نريد لهذه الدول أن تكون بنك ادخار للذكاء الاصطناعي الأميركي أم للذكاء الاصطناعي الصيني؟"

ولم تكن هذه الصفقات بعيدة عن المصالح الخاصة. فقد كشفت نيويورك تايمز أنّ الإمارات وافقت على استثمار ملياري دولار في شركة "وورلد ليبرتي فايننشل"، الناشئة في مجال العملات الرقمية والتي يمتلك ترامب حصة فيها، وذلك خلال مفاوضات صفقة شرائح الذكاء الاصطناعي.

وكما في صفقات الذكاء الاصطناعي في الخليج واتفاقية "تيك توك"، رأى ترامب فرصة للربح واستغلّها، بصرف النظر عن تداعياتها الاستراتيجية. ولم يعد واضحاً إذا ما كان ردع الصين لا يزال أولوية قصوى في أجندته للأمن القومي. فمنذ عام 2017، حين أعلن استراتيجيته القائمة على "منافسة القوى الكبرى"، كان تركيز واشنطن منصبّاً على ردع الصين وروسيا. لكن التقارير الأخيرة تشير إلى أن استراتيجية الدفاع الوطني المقبلة ستعيد ترتيب الأولويات رأساً على عقب، لتتحول من التركيز على الصين كتهديد رئيسي إلى إعطاء الأولوية لحماية الوطن ونصف الكرة الغربي.

الإشارات الصادرة عن البيت الأبيض تبدو متناقضة بشدة. فبعد أشهر من التحضير، أطلق مسؤولو إدارة ترامب في تموز/يوليو الماضي وثيقة سياسية رئيسية ترسم خطة البيت الأبيض للذكاء الاصطناعي، بهدف تقديم إرشادات واضحة حول دعم هذه التكنولوجيا وضمان الريادة الأميركية. أحد أعمدة الوثيقة كان تعزيز ضوابط تصدير الذكاء الاصطناعي، إذ شددت على أنّ "حرمان الخصوم الأجانب من الوصول إلى هذا المورد مسألة تتعلق بالمنافسة الجيوسياسية والأمن القومي."

لكن سرعان ما نسف ترامب هذه التوجهات، معلناً رفع الحظر عن بيع شرائح "H20" من شركة "نفيديا" للصين، ما سمح بتدفق تقنية الذكاء الاصطناعي الحيوية خارج الولايات المتحدة. هذا التغيير المفاجئ جعل من الصعب على الحلفاء والخصوم معاً فهم طبيعة السياسة الأميركية: هل لا تزال ضوابط التصدير أولوية، أم أنّ كل شيء قابل للتفاوض إذا كانت "الصفقة مناسبة"؟

ويشير محللون مثل أبراهام نيومان وهنري فاريل إلى أنّ سياسة ترامب تحوّلت إلى نهج "شخصنة القرار"، حيث تتغلب المصالح القصيرة الأجل على المصلحة الوطنية طويلة الأمد. ومع أنّ المؤسسة السياسية الأميركية لا تزال متحدة في التشكيك ببكين، فإنّ الكلمة الأخيرة تبقى بيد ترامب، الذي يخطط لزيارة بكين مطلع العام المقبل للقاء الرئيس شي جين بينغ.

وبحسب نيويورك تايمز، بدأ وزير التجارة هوارد لوتنيك استقطاب رؤساء شركات كبرى للانضمام إلى الوفد الرئاسي، ما خلق سباقاً على فرصة مرافقة ترامب في هذه الرحلة. ويتوقع محللون أن يستغل شي رغبة ترامب في زيارة رفيعة المستوى لانتزاع تنازلات تشمل تخفيف ضوابط تصدير الرقائق، وتقليص الدعم لتايوان، وفتح السوق الأميركية أمام الاستثمارات الصينية المثيرة للجدل.

حالياً، تبقى الحرب التكنولوجية بين واشنطن وبكين معلّقة، وسط مؤشرات متزايدة على أنّ ترامب قد يتخلى عن بعض ركائزها متى رأى أن اللحظة تخدم مصالحه السياسية أو الاقتصادية.

نقله إلى العربية: حسين قطايا.