فنّ حرب الاستنزاف: دروس من الحرب الروسية الأوكرانية

إذا كان الغرب جاداً بشأن احتمال نشوب صراع بين القوى العظمى، فإنّه يحتاج إلى التمعّن بقدرته على شنّ حرب طويلة الأمد واتباع استراتيجية تركز على الاستنزاف بدلاً من المناورة.

  • فنّ حرب الاستنزاف: دروس من الحرب الروسية الأوكرانية
    فنّ حرب الاستنزاف: دروس من الحرب الروسية الأوكرانية

نشر موقع المعهد الملكي للخدمات المتحدة (RUSI)، مقالاً مطولاً للضابط الأميركي المتقاعد أليكس فيرشينين، الذي عمل  كمسؤول النمذجة والمحاكاة في تطوير المفاهيم والتجريب لحلف شمال الأطلسي والجيش الأميركي، يتناول المقال حرب الاستنزاف وخصوصاً بين القوى العظمى، يعرض لأهم الاستراتيجيات التي يجب اتباعها في هذا النوع من الحروب، والفرق بينها وبين المناورات العسكرية السريعة، مع عرض نماذج من الحروب السابقة للاستفادة منها.

فيما يلي نص المقال كاملاً منقولاً إلى العربية:

تتطلب حروب الاستنزاف "فن الحرب" الخاص بها، ويتم خوضها باعتماد نهج "يتمحور حول القوة"، على عكس حروب المناورة التي "تركز على التضاريس". فهي متجذّرة في القدرة الصناعية الهائلة التي تسمح بتعويض الخسائر، والعمق الجغرافي لاستيعاب سلسلة من الهزائم، والظروف التكنولوجية التي تمنع الحركة الأرضية السريعة.

في حروب الاستنزاف، تتشكل العمليات العسكرية من خلال قدرة الدولة على تعويض الخسائر وإنشاء تشكيلات جديدة، وليس من خلال مناورات تكتيكية وعملياتية. ومن المرجح أن يفوز الطرف الذي يقبل طبيعة الحرب الاستنزافية ويركز على تدمير قوات العدو بدلاً من اكتساب الأراضي.

ويبدو أن الغرب غير مستعد لهذا النوع من الحروب، فبالنسبة لمعظم الخبراء الغربيين، تعتبر استراتيجية الاستنزاف غير منطقية. وتاريخياً، كان الغرب يفضّل الصراع القصير بين الجيوش النظامية القائم على قاعدة "الفائز يأخذ كل شيء". وقد استمرت المناورات الحربية الأخيرة، مثل غزو الصين لتايوان، شهراً من القتال. فاحتمال استمرار الحرب، لم يدخل في المناقشة قط؛ وهذا انعكاس للموقف الغربي المشترك.

وعليه، يتم التعامل مع حروب الاستنزاف باعتبارها استثناءات، وينبغي تجّنبها بأيّ ثمن، وعادة ما يكون ذلك نتيجة لعدم كفاءة القادة. ولسوء الحظ، من المرجح أن تكون الحروب بين القوى المتخاصمة مستنزَفة، وذلك بفضل مجموعة كبيرة من الموارد المتاحة لتعويض الخسائر الأولية. فالطبيعة الاستنزافية للقتال، بما في ذلك تراجع الاحترافية بسبب الإصابات، تعمل على تسوية ساحة المعركة بغض النظر عن الجيش الذي بدأ بقوات مدربة بشكل أفضل. ومع استمرار الصراع، يتحقق الفوز في الحرب من خلال الاقتصادات، وليس الجيوش. ومن المرجح أن تفوز الدول التي تدرك ذلك وتخوض مثل هذه الحرب من خلال استراتيجية استنزاف تهدف إلى استنفاد موارد العدو مع الحفاظ على مواردها.

إنّ أسرع طريقة لخسارة حرب الاستنزاف هي التركيز على المناورة، وإنفاق موارد قيّمة على أهداف إقليمية على المدى القريب. كما أنّ الإدراك بأنّ لحروب الاستنزاف فنها الخاص يُعدّ أمراً مهماً لتحقيق النصر فيها من دون تكبد خسائر فادحة.

البُعد الاقتصادي

تنتصر الاقتصادات في حروب الاستنزاف، من خلال التعبئة الجماعية للجيوش عبر قطاعاتها الصناعية. وتتوسع الجيوش بسرعة خلال هذا النوع من الصراعات، الأمر الذي يتطلّب كميات هائلة من المركبات المدرعة، والطائرات المسيّرة، والمنتجات الإلكترونية، وغيرها من المعدات القتالية. ونظراً لأنّ تصنيع الأسلحة المتطورة معقد جداً ويستهلك موارد هائلة، فإنّ مزيجاً متزايداً ومنخفضاً من أعداد القوات والأسلحة يُعدّ أمراً ضرورياً لتحقيق النصر.

تتمتع الأسلحة المتطورة بأداء استثنائي لكن من الصعب تصنيعها، خاصة عند الحاجة إليها لتسليح جيش سريع التعبئة ومعرض لنسبة استنزاف عالية. فعلى سبيل المثال، خلال الحرب العالمية الثانية، كانت الدبابات الألمانية تُعدّ مذهلة، لكن باستخدام نفس موارد الإنتاج تقريباً، قام الاتحاد السوفياتي بطرح 8 طائرات T-34 مقابل كل دبابة ألمانية. ولم يكن الفارق في الأداء يبرر التفاوت العددي في الإنتاج. بالإضافة إلى ذلك، تتطلب الأسلحة المتطورة قوات متطورة. ويستغرق التدريب وقتاً طويلاً، وهو أمر غير متاح في حرب ذات معدلات استنزاف عالية.

ومن الأسهل والأسرع إنتاج أعداد كبيرة من الأسلحة والذخائر الرخيصة، خاصة إذا كانت مكوناتها الثانوية قابلة للتبديل مع السلع المدنية، ما يضمن الحصول على كمية كبيرة من دون توسيع خطوط الإنتاج. كذلك يستوعب المجّنّدون الجدد التعلّم الأبسط لاستخدام الأسلحة بشكل أسرع، ما يسمح باستحداث تشكيلات جديدة بسرعة أو إعادة تشكيل التشكيلات الموجودة. 

علاوةً على ذلك، يُعدّ التوّصل إلى كتلة أمراً صعباً بالنسبة للاقتصادات الغربية الراقية. ولتحقيق الكفاءة المفرطة، تتخلّص من الطاقة الفائضة وتكافح من أجل التوسع بسرعة، خاصة وأنّ الصناعات ذات المستوى الأدنى تم نقلها إلى الخارج لأسباب اقتصادية. وخلال الحرب، تتعطل سلاسل التوريد العالمية ويصبح تأمين المكونات الفرعية أمراً صعباً. ويضاف إلى هذه المعضلة غياب قوة عاملة ماهرة ذات خبرة في صناعة معينة. إذ يتم اكتساب هذه المهارات على مدى عقود، وبمجرد إغلاق الصناعة، يستغرق الأمر عقوداً لإعادة بنائها. وقد سلّط التقرير المشترك بين الوكالات الحكومية الأميركية لعام 2018 حول القدرة الصناعية الأميركية الضوء على هذه المشاكل. وخلاصة الأمر، يتعيّن على الغرب إمعان النظر لضمان القدرة الفائضة في وقت السلم في مجمعه الصناعي العسكري، أو يخاطر بخسارة الحرب المقبلة.

تشكيل القوة

إنّ الإنتاج الصناعي متوافر بحيث يمكن توجيهه لتعويض الخسائر وإنشاء تشكيلات جديدة. وهذا الأمر يتطلب عقيدة مناسبة وهيكليات للقيادة والسيطرة. فهناك نموذجان رئيسان؛ حلف شمال الأطلسي (الذي يضمّ معظم الجيوش الغربية) والنموذج السوفياتي القديم، في حين تتأرجح معظم الدول بين الاثنين.

تتمتع جيوش حلف الناتو باحترافية عالية، ويدعمها فيلق قويّ من ضباط الصف يتمتع بتعليم وخبرة عسكرية واسعة النطاق في وقت السلم. وهم يعتمدون على هذه الاحترافية في عقيدتهم العسكرية (الأساسيات والتكتيكات والتقنيات) للتأكيد على المبادرة الفردية، ومنح قدر كبير من حرية التصرّف لصغار الضباط وضباط الصف. كما تتمتع تشكيلات حلف شمال الأطلسي بقدرة هائلة على الحركة والمرونة لاستغلال الفرص المتاحة في ساحة المعركة الديناميكية.

في حرب الاستنزاف، هذه الطريقة لها جانب سلبي. إذ يحتاج الضباط وضباط الصف المطلوبون لتطبيق هذه النظرية إلى تدريب مكثف، وقبل كل شيء، إلى الخبرة. ويستغرق تطوير ضابط صف في الجيش الأميركي سنوات. وعادة ما يتمتع قائد الفريق بثلاث سنوات على الأقل في الخدمة ورقيب الفصيلة يتمتع بسبع سنوات على الأقل. ففي حرب استنزاف تتميز بخسائر فادحة، لا يوجد ببساطة وقت لاستبدال ضباط الصف المفقودين أو تشكيلهم لوحدات جديدة. أمّا فكرة حصول المدنيين على دورات تدريبية مدتها 3 أشهر، ورتبة رقيب، ثم يُتوقع منهم أن يؤدوا بنفس الطريقة التي يؤدّي بها جندي متمرّس خدم لمدة 7 سنوات، لهي وصفة لكارثة. وعليه، فإنّ الوقت وحده كفيل بتأمين قادة قادرين على تنفيذ عقيدة حلف شمال الأطلسي، والوقت أيضاً هو أحد الأشياء التي لا توفرها المطالب الهائلة لحرب الاستنزاف.

لقد بنى الاتحاد السوفياتي جيشه لمواجهة صراع واسع النطاق مع حلف شمال الأطلسي. وكان المقصود منه أن يكون قادراً على التوسع بسرعة من خلال استدعاء الجيوش الاحتياطية الضخمة. وخضع كل ذكر في الاتحاد السوفياتي لسنتين من التدريب الأساسي بعد تخرجه من المدرسة الثانوية. وقد أدى التبديل المستمر للمجندين إلى منع إنشاء فيلق ضباط صف على النمط الغربي، ولكنه أعدّ مجموعة هائلة من الجيوش الاحتياطية شبه المدربة المتوفرة في أوقات الحرب. كما أدى غياب ضباط الصف الموثوقين إلى خلق نموذج قيادي يتمحور حول الضباط، وهو أقل مرونة من نموذج الناتو ولكنه أكثر قدرة على التكيف مع التوسع الكبير الذي تتطلبه حرب الاستنزاف.

ومع ذلك، ومع تقدم الحرب بعد مرور عام واحد، ستكتسب وحدات الخطوط الأمامية الخبرة ويُرجّح أن يظهر فيلق ضباط صف محسّن، ما يمنح النموذج السوفياتي مرونة أكبر. بحلول عام 1943، كان الجيش الأحمر قد أعدّ فيلق ضباط صف قوي، فاختفى بعد الحرب العالمية الثانية عندما تم تسريح التشكيلات القتالية. والفرق الرئيس بين النماذج هو أنّ عقيدة الناتو لا يمكن أن تعمل من دون ضباط الصف ذوي الأداء العالي. في المقابل، عزّز ضباط الصف من ذوي الخبرة العقيدة السوفياتية على الرغم من أنهم لم يطلبوها.

بدلاً من خوض معركة حاسمة تتحقق من خلال المناورة السريعة، تركّز حرب الاستنزاف على تدمير قوات العدو وقدرتها على تجديد قوتها القتالية، مع الحفاظ على قدراتها الذاتية.

أمّا النموذج الأكثر فعالية فهو مزيج من الاثنين، حيث تحتفظ الدولة بجيش محترف متوسط ​​الحجم، إلى جانب مجموعة من المجندين المتاحين للتعبئة. وهذا يؤدي مباشرة إلى مزيج عال/ منخفض المستوى. إذ تشكّل قوات ما قبل الحرب المحترفة قمة هذا الجيش، حيث تتحول إلى فرق إطفاء – تنتقل من قطاع إلى قطاع في المعركة لتحقيق الاستقرار وتنفيذ هجمات حاسمة. في حين تمسك التشكيلات منخفضة المستوى بالخط وتكتسب الخبرة ببطء، ما يزيد من جودتها حتى تكتسب القدرة على القيام بعمليات هجومية. وعليه، يتم تحقيق النصر من خلال إنشاء تشكيلات منخفضة المستوى بأعلى جودة ممكنة.

هذا ويتم تشكيل وحدات جديدة وتحويلها إلى جنود قادرين على القتال بدلاً من المدنيين المتمرّدين من خلال التدريب واكتساب الخبرة القتالية. ويجب أن يتدرب التشكيل الجديد لمدة 6 أشهر على الأقل، بوجود جنود احتياطيين حاصلين على تدريب فردي سابق فحسب. أمّا المجندون فيستغرقون وقتاً أطول في التدريب. بالإضافة إلى ذلك، يجب أن تضم هذه الوحدات جنوداً محترفين وضباط صف يتم جلبهم من جيش ما قبل الحرب لإضافة الاحترافية. وبمجرد اكتمال التدريب الأولي، يجب إشراكهم في المعركة في القطاعات الثانوية فحسب. ولا يمكن السماح لقوّة أي تشكيل أن تقلّ عن 70%.

ويتيح سحب التشكيلات مبكراً نشر الخبرات بين البدائل الجدد، حيث ينقل المحاربون القدامى مهاراتهم. وبخلاف ذلك، سيتم فقدان الخبرة القيّمة، ما يتسبب في بدء العملية من جديد. وهناك أثر آخر يتمثل في وجوب تقديم بدائل على التشكيلات الجديدة، والحفاظ على التفوق القتالي في كل من جيش ما قبل الحرب (ذات المستوى العالي) والتشكيلات الناشئة حديثاً (ذات المستوى المنخفض). ويُنصح بحلّ العديد من تشكيلات ما قبل الحرب (ذات المستوى المتقدّم) لنشر الجنود المحترفين بين التشكيلات منخفضة المستوى التي اُنشئت حديثاً لرفع مستوى الجودة الأولية.

البُعد العسكري

تختلف العمليات العسكرية في صراع الاستنزاف اختلافاً كبيراً عن تلك التي تتم في حرب المناورة. فبدلاً من تحقيق معركة حاسمة من خلال المناورة السريعة، تركّز حرب الاستنزاف على تدمير قوات العدو وقدرتها على تجديد قوتها القتالية، مع الحفاظ على قوتها الخاصة. وفي هذا السياق، تتحمّل الاستراتيجية الناجحة استمرار الحرب لمدة عامين على الأقل، والانقسام إلى مرحلتين متميزتين. وتنطلق المرحلة الأولى من بدء الأعمال العدائية وصولاً إلى النقطة التي يتم فيها تعبئة القوة القتالية الكافية للسماح باتخاذ إجراءات حاسمة. وستشهد تحولاً موضعياً طفيفاً على الأرض، مع التركيز على التبادل الإيجابي للخسائر وبناء القوة القتالية في العمق. وغالباً ما يكون إطلاق النار الشكل السائد للقتال  وليس المناورة، ويُستكمل بإقامة التحصينات وعمليات التمويه على نطاق واسع. ويبدأ جيش السلم حربه وينفّذ عمليات الاحتجاز لتوفير الوقت من أجل تعبئة الموارد وتدريب الجيش الجديد.

أمّا المرحلة الثانية، فقد تبدأ بعد استيفاء أحد الأطراف للشروط التالية:

- إكمال القوات المعبّأة حديثاً تدريبها واكتسابها الخبرة الكافية لجعلها تشكيلات قتالية فعّالة وقادرة على دمج جميع عتادها بسرعة وبطريقة متماسكة. 

- استنفاد الاحتياطي الاستراتيجي للعدو، ما يجعله غير قادر على دعم القطاع المهدد.

- تحقيق التفوق في عمليات إطلاق النار والاستطلاع، ما يسمح للمهاجم بإطلاق نيران جماعية بشكل فعال على قطاع رئيسي مع حرمان العدو من القيام بذلك. 

- تدهور القطاع الصناعي للعدو إلى درجة يصبح فيها عاجزاً عن تعويض خسائر المعركة. وفي حالة القتال ضد تحالف من الدول، لابدّ أيضاً من استنفاد موارده الصناعية أو على الأقل الاستئثار بها.

بعد استيفاء هذه المعايير وحدها، يجب أن تبدأ العمليات الهجومية. وينبغي إطلاقها عبر جبهة واسعة، سعياً إلى التغلب على العدو في مواضع متعددة بهجمات سطحية. ويتمثّل الهدف في البقاء داخل فقاعة متعددة الطبقات من أنظمة الحماية الصديقة، مع تمديد احتياطيات العدو المستنزفة حتى انهيار الجبهة. وينبغي تجنّب تركيز القوات على جهد رئيس واحد لأنّ ذلك يعطي إشارة إلى موقع الهجوم وفرصة للعدو لتركيز احتياطياته ضد هذه النقطة الرئيسة.

ويعدّ هجوم بروسيلوف عام 1916، الذي أدى إلى انهيار الجيش النمساوي المجري، مثالاً جيداً لهجوم الاستنزاف الناجح على المستوى التكتيكي والعملياتي. فمن خلال الهجوم على طول جبهة عريضة، منع الجيش الروسي القوات النمساوية المجرية من تركيز احتياطياتها، ما أدى إلى انهيارها على طول الجبهة.

على المستوى الاستراتيجي، يعدّ هجوم بروسيلوف مثالاً للفشل، إذ فشلت القوات الروسية في وضع الشروط ضد تحالف العدو بأكمله، مع التركيز على الإمبراطورية النمساوية المجرية فحسب وتجاهل القدرة الألمانية. لقد أنفق الروس موارد مهمة لم يتمكنوا من استبدالها، من دون هزيمة أقوى عضو في التحالف. ولإعادة التأكيد على النقطة الأساسية، لن ينجح الهجوم إلا بعد استيفاء المعايير الأساسية. لذا، فإنّ محاولة شنّ هجوم في وقت مبكر ستؤدي إلى وقوع خسائر من دون الحصول على أيّ مكاسب استراتيجية، ما سيصب مباشرة في مصلحة العدو.

الحرب المُعاصرة

تُشكّل ساحة المعركة الحديثة نظاماً متكاملاً من الأنظمة التي تشمل أنواعاً مختلفة من الحروب الإلكترونية (EW)، وثلاثة أنواع أساسية من الدفاعات الجوية، وأربعة أنواع مختلفة من المدافع، وأنواع لا حصر لها من الطائرات، وطائرات الهجوم والاستطلاع المسيّرة، ومهندسي البناء والخبراء، وفرق المُشاة التقليدية، والتشكيلات المدرّعة، وقبل كل شيء، الخدمات اللوجستية. وقد أصبحت المدفعية أكثر خطورة بفضل تعزيز مداها واستهدافها المتقدم الذي يمتد إلى عمق ساحة المعركة.

ومن الناحية العملية، يعني ذلك أنّ تنفيذ عمليات إطلاق النار أسهل من حشد القوات. فالمناورة العميقة التي تتطلب حشد القوة القتالية لم تعد ممكنة لأنّ أي قوة حاشدة سيتم تدميرها بنيران غير مباشرة قبل أن تتمكن من تحقيق النجاح في العمق. وبدلاً من ذلك، يتطلب الهجوم البري وجود فقاعة حماية محكمة لدرء أنظمة توجيه الضربات الخاصة بالعدوّ. ويتم إنشاء هذه الفقاعة من خلال تجهيز عتاد النيران المضادة والدفاع الجوي والحرب الإلكترونية الملائمة. ويُعد نقل العديد من الأنظمة المترابطة أمراً معقداً للغاية ويُستبعد أن يكون ناجحاً. ومن المرجح أن تنجح الهجمات السطحية على طول الخط الأمامي للقوات بنسبة تكلفة مقبولة؛ أمّا محاولات الاختراق العميق، فستتعرض لإطلاق نار هائل لحظة خروجها من حماية الفقاعة الدفاعية. 

ويتطلب دمج هذه الأصول المتداخلة تخطيطاً مركزياً وتواجد ضباط مدربين تدريباً جيداً بشكل استثنائي، وقادرين على دمج قدرات متعددة بسرعة. يستغرق تدريب هؤلاء الضباط سنوات، وحتى الخبرة القتالية لا تولّد مثل هذه المهارات في وقت قصير. ومن الممكن أن تخفف قوائم المراجعة والإجراءات الإلزامية من أوجه القصور هذه، ولكن على جبهة ثابتة أقل تعقيداً فحسب. وتتطلب العمليات الهجومية الديناميكية أوقات رد فعل سريعة، وهو أمر لا يستطيع الضباط شبه المدربين القيام به.

ويُعدّ الهجوم الذي شنته فصيلة مكونة من 30 جندياً واحداً من الأمثلة على هذا التعقيد. فهكذا هجوم يتطلب أنظمة حرب إلكترونية للتشويش على طائرات العدو المسيّرة؛ ونظاماً آخر للحرب الإلكترونية للتشويش على اتصالات العدو ومنع تعديل نيرانه؛ ونظاماً ثالثاً للحرب الإلكترونية للتشويش على أنظمة الملاحة الفضائية التي تمنع استخدام الذخائر الموجهة بدقة.

بالإضافة إلى ذلك، يتطلّب إطلاق النار رادارات البطارية المضادة لهزيمة مدفعية العدو. ومما يزيد التخطيط تعقيداً حقيقة أنّ الحرب الإلكترونية للعدو ستحدد وتدمر أي رادار صديق أو باعث للحرب الإلكترونية ينبعث لفترة طويلة جداً. وسيتعين على المهندسين تحديد مسارات واضحة عبر حقول الألغام، في حين توفر الطائرات المسيّرة الصديقة خدمات الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع (ISR) الحساسة للوقت والدعم الناري إذا لزم الأمر. (تتطلب هذه المهمة تدريباً مكثفاً مع الوحدات المساندة لتجنب إسقاط الذخائر على القوات المهاجمة الصديقة.) وأخيراً، يحتاج سلاح المدفعية إلى توفير دعم للأهداف وخطوط العدو، واستهداف الاحتياطيات وإيقاف سلاح المدفعية. وعليه، تحتاج كل هذه الأنظمة إلى العمل كفريق متكامل فقط لدعم 30 رجلاً في عدة مركبات يهاجمون 30 رجلاً آخرين أو أقل. وسيؤدي عدم التنسيق بين هذه العتاد إلى فشل الهجمات وتكبّد خسائر فادحة من دون رؤية العدو على الإطلاق. ومع تزايد حجم العمليات التي تنفّذها التشكيلات، يزداد أيضاً عدد العتاد التي تحتاج إلى الدمج وتعقيداتها.

الآثار المترتبة على العمليات القتالية

تستهدف النيران العميقة، التي يزيد مداها عن 100 إلى 150 كيلومتراً (متوسط ​​مدى الصواريخ التكتيكية) خلف خط المواجهة، قدرة العدو على توليد القوة القتالية. ويشمل ذلك مرافق الإنتاج، ومستودعات الذخيرة، ومستودعات قطع الغيار، والبنية التحتية للطاقة والنقل. وهناك أهمية خاصة للأهداف التي تتطلب قدرات إنتاجية كبيرة ويصعب استبدالها/إصلاحها، باعتبار أنّ تدميرها سيؤدي إلى إلحاق أضرار طويلة الأمد.

وتماماً كما هو الحال مع جميع جوانب حرب الاستنزاف، ستستغرق مثل هذه الضربات وقتاً طويلاً حتى يكون لها تأثير، مع جداول زمنية تمتد لسنوات. ويشكّل انخفاض حجم الإنتاج العالمي من الذخائر الموجهة بدقة بعيدة المدى، وإجراءات التضليل والتمويه الفعالة، والمخزونات الكبيرة من الصواريخ المضادة للطائرات، وقدرات الإصلاح الهائلة للدول القوية الحازمة، عوامل تتضافر لإطالة أمد الصراعات. ولا بدّ أن تشتمل الطبقات الفعالة للدفاعات الجوية على أنظمة متطورة على جميع الارتفاعات إلى جانب أنظمة أرخص لمواجهة منصات الهجوم منخفضة الكثافة للعدو. فهذه هي الطريقة الوحيدة، إلى جانب التصنيع واسع النطاق والحرب الإلكترونية الفعالة، لهزيمة نيران العدو العميقة.

يتم ضمان النصر في حرب الاستنزاف من خلال التخطيط الدقيق، وتطوير القاعدة الصناعية وتطوير البنية التحتية للتعبئة في أوقات السلم، فضلاً عن إدارة الموارد بطريقة أكثر حذراً في زمن الحرب.

وتركز حرب الاستنزاف الناجحة على الحفاظ على القوة القتالية للفرد. ويُترجم هذا عادةً إلى جبهة ثابتة نسبياً تتخللها هجمات محلية محدودة لتحسين المواقع، وذلك باستخدام سلاح المدفعية في معظم المعركة. ويعتبر تحصين جميع القوات وتمويهها، بما في ذلك اللوجيستيات، المفتاح لتقليل الخسائر. أمّا الوقت الطويل اللازم لبناء التحصينات، فيمنع حدوث أيّ تحرّك برّي كبير. والقوة المهاجمة التي لا تستطيع التحصن بسرعة، ستتكبد خسائر كبيرة من نيران مدفعية العدو.

وتشتري العمليات الدفاعية الوقت لتطوير تشكيلات قتالية منخفضة المستوى، ما يسمح للقوات المعبأة حديثاً باكتساب الخبرة القتالية من دون تكبد خسائر فادحة في الهجمات واسعة النطاق. كما أنّ بناء تشكيلات قتالية ذات خبرة منخفضة المستوى يولّد القدرة على القيام بالعمليات الهجومية المستقبلية.

وتبدأ المراحل الأولى لحرب الاستنزاف من الأعمال العدائية وصولاً إلى النقطة التي تكون فيها الموارد المعبأة متاحة بأعداد كبيرة وجاهزة للعمليات القتالية. وفي حالة الهجوم المفاجئ، يمكن شن هجوم سريع من جانب واحد حتى يتمكن المدافع من تشكيل جبهة قوية؛ ليحتدم الصراع بعد ذلك. وتستمر هذه الفترة من سنة ونصف إلى سنتين على الأقل، وينبغي خلالها تجنب العمليات الهجومية الواسعة. حتى لو نجحت الهجمات الكبيرة، فستؤدي إلى خسائر كبيرة، غالباً لتحقيق مكاسب إقليمية لا معنى لها. ولا ينبغي للجيش مطلقاً أن يقبل معركة بشروط غير مواتية.

علاوةً على ذلك، في حرب الاستنزاف، أي منطقة لا تضمّ مركزاً صناعياً حيوياً لا أهمية لها. ومن الأفضل دائماً التراجع والحفاظ على القوات، بغض النظر عن العواقب السياسية. فالقتال على التضاريس غير الملائمة يدمّر الوحدات، ويؤدي إلى خسارة الجنود ذوي الخبرة الذين يشكّلون مفتاح النصر. ويعدّ الهوس الألماني بستالينغراد في عام 1942 مثالاً ساطعاً على القتال على أرض غير مواتية لأسباب سياسية. فقد دمّرت ألمانيا وحدات حيوية لم تكن قادرة على تحمل خسارتها، وذلك ببساطة من أجل الاستيلاء على مدينة تحمل اسم ستالين. ومن الحكمة أيضاً دفع العدو إلى القتال في مناطق غير مواتية من خلال العمليات المعلوماتية، واستغلال أهداف العدو الحسّاسة سياسياً.

ومن المخاطر الرئيسة التي يجب تجنبها الانجرار إلى نفس الفخ الذي تم نصبه للعدو. ففي الحرب العالمية الأولى، فعل الألمان الأمر نفسه في معركة "فردان"، حيث خططوا لاستخدام عنصر المفاجأة للاستيلاء على التضاريس الرئيسة الحساسة سياسياً، ما أدى إلى وقوع هجمات مضادة مكلفة من الجانب الفرنسي. ولسوء حظ الجيش الألماني، وقع في الفخ الذي نصبه. فقد فشل في الحصول على أراضٍ مهمة يمكن الدفاع عنها في وقت مبكر، وتحولت المعركة بدلاً من ذلك إلى سلسلة من هجمات المشاة المكلفة من كلا الجانبين، إلى جانب قضاء نيران المدفعية على المشاة المهاجمين.

وعندما تنطلق المرحلة الثانية، يجب إطلاق الهجوم عبر جبهة واسعة، سعياً للتغلّب على العدو في مواضع متعددة باستخدام الهجمات السطحية. ويتمثل الهدف في البقاء داخل فقاعة متعددة الطبقات من أنظمة الحماية الصديقة، مع تمديد احتياطيات العدو المستنزفة حتى انهيار الجبهة. كما أنّ هناك تأثيراً متعاقباً، حيث تجبر الأزمة في أحد القطاعات المدافعين على تحويل الاحتياطيات من قطاع ثانٍ، فقط لتوليد أزمة هناك في المقابل.

وعندما تبدأ القوات في التراجع وترك التحصينات المجهزة، تنخفض الروح المعنوية، ويُطرح السؤال التالي: "إذا لم نتمكن من الحفاظ على القلعة الضخمة، فكيف يمكننا الحفاظ على هذه الخنادق الجديدة؟" ليتحول بعد ذلك التراجع إلى هزيمة. عندها فقط يجب أن يمتد الهجوم نحو أهداف أعمق في خطوط العدو. ويعدّ هجوم الحلفاء عام 1918 مثالاً على ذلك. فقد هاجم الحلفاء على طول جبهة واسعة، في حين افتقر الألمان إلى الموارد الكافية للدفاع عن الخط بأكمله. وبمجرد أن بدأ الجيش الألماني بالتراجع، ثبت أنه من المستحيل إيقافه.

وتعدّ استراتيجية الاستنزاف، التي تتمحور حول الدفاع، غير منطقية بالنسبة لمعظم الضباط العسكريين الغربيين. إذ ينظر الفكر العسكري الغربي إلى الهجوم باعتباره الوسيلة الوحيدة لتحقيق الهدف الاستراتيجي الحاسم المتمثل في إجبار العدو على الجلوس إلى طاولة المفاوضات بشروط غير مواتية. فالصبر الاستراتيجي المطلوب لتهيئة ظروف الهجوم يتعارض مع خبرتهم القتالية المكتسبة في عمليات التصدّي للتمرّد في الخارج.

الخلاصة

تختلف إدارة حروب الاستنزاف إلى حد كبير عن حروب المناورة. فهي تدوم لفترة أطول وينتهي بها الأمر باختبار القدرة الصناعية للبلد. ويُضمن تحقيق النصر من خلال التخطيط الدقيق، وتطوير القاعدة الصناعية والبنية التحتية للتعبئة في أوقات السلم، فضلاً عن إدارة الموارد بحذر أكبر في زمن الحرب.

ويمكن تحقيق النصر من خلال التحليل الدقيق للأهداف السياسية للفريق نفسه ولعدوّه. ويعدّ التعرف على نقاط القوة والضعف في النماذج الاقتصادية المتنافسة وتحديد الاستراتيجيات الاقتصادية التي من المرجح أن تولد أقصى قدر من الموارد المفتاح لتحقيق ذلك. ويمكن بعد ذلك استخدام هذه الموارد لبناء جيش ضخم باستخدام مزيج من القوّة فائقة/منخفضة المستوى والأسلحة. فالسلوك العسكري للحرب مدفوع بالأهداف الاستراتيجية السياسية الشاملة والواقع العسكري والقيود الاقتصادية. كما تعدّ العمليات القتالية سطحية وتركز على تدمير موارد العدو، وليس على كسب الأراضي. فالدعاية تستخدم لدعم العمليات العسكرية، وليس العكس. وبالصبر والتخطيط الدقيق، يمكن كسب الحرب.

ولسوء الحظ، فإنّ الكثير من الناس في الغرب يتخذون موقفاً متعجرفاً للغاية مفاده أنّ الصراعات المستقبلية ستكون قصيرة وحاسمة. وهذا غير صحيح للأسباب ذاتها المذكورة أعلاه. فحتى القوى العالمية المتوسطة تمتلك الجغرافيا والسكان والموارد الصناعية اللازمة لشن حرب استنزاف. إنّ فكرة تراجع أي قوة كبرى في حالة تعرضها لهزيمة عسكرية أولية هي مجرد تمنيات في أفضل الحالات. وأي صراع بين القوى العظمى ستنظر إليه النخب المتنافسة على أنه صراع وجودي وتتم متابعته باستخدام الموارد الكاملة المتاحة للدولة. وبالتالي، ستصبح الحرب الناتجة استنزافية وستكون في صالح الدولة التي تمتلك اقتصاداً وعقيدة وبنية عسكرية أكثر ملاءمة لهذا النوع من الصراع.

وإذا كان الغرب جاداً بشأن احتمال نشوب صراع بين القوى العظمى، فإنّه يحتاج إلى التمعّن بقدرته الصناعية وعقيدته في التعبئة والوسائل التي يمتلكها لشن حرب طويلة الأمد، بدلاً من إجراء مناورات تغطي شهراً واحداً من الصراع على أمل أن تنتهي الحرب بعد ذلك. وكما علمتنا حرب العراق، فإنّ الأمل ليس وسيلة لتحقيق ذلك. 

 

نقلتها إلى العربية: زينب منعم.

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.