التصعيد في أوروبا.. مقدمات هيكل أمني جديد تقوده روسيا؟
تتهم عدة دول أوروبية روسيا بتكرار الانتهاكات، وهو ما تنفيه الأخيرة بإنكار تام، وسط التحذيرات من سباق التسلح، واستفادة الولايات المتحدة من التصعيد... هل يكون ذلك مقدمةً لهيكل أمني جديد بقيادة موسكو؟
-
التصعيد الروسي في أوروبا.. مقدمات هيكل أمني جديد؟
تتصاعد في الأسابيع الأخيرة الاحتكاكات العسكرية بين روسيا ودول أعضاء في حلف شمال الأطلسي، وعادت إلى الساحة الدولية التحذيرات من احتمال اندلاع مواجهة مسلحة، على خلفية مزاعم متلاحقة باختراق روسيا أجواء الحلف، بطائرات مقاتلة ومسيّرة.
تتهم عدة دول أوروبية روسيا بتكرار الانتهاكات، وهو ما تنفيه الأخيرة بإنكار تام، حيث وصف نائب السفير الروسي لدى الأمم المتحدة هذا الاتهام بـ"العبث". وترافق ذلك مع تحذير المندوب الأميركي في الأمم المتحدة من احتمالين، على حدّ قوله: إما أن موسكو "تريد توسيع دائرة الصراع"، أو أنها "فقدت السيطرة على عملياتها الجوية".
اتهامات من "الناتو" ضدّ روسيا
إستونيا أعلنت دخول 3 مقاتلات روسية من طراز "ميغ-31" أجواءها مدة 12 دقيقة، "مزوّدة بصواريخ وجاهزة للقتال"، قبل أن "تُجبَر على الانسحاب". وقالت بولندا إن الدفاعات الجوية أسقطت عدداً من المسيّرات، خلال هجوم روسي على أوكرانيا، مطلع الشهر الحالي، في أول تدخل مباشر معلن لـ"الناتو" منذ اندلاع الحرب. واتهمت النرويج موسكو أيضاً بارتكاب 3 انتهاكات جوية مؤخراً، مع إغلاق مطارات في كوبنهاغن وأوسلو لساعات، بعد رصد مسيّرات روسية كبيرة، فيما قالت رئيسة الحكومة الدنماركية إنّه "أخطر اعتداء على البنية التحتية الحيوية في البلاد". وأكد الأمين العام للحلف أن "جميع الأدوات العسكرية وغير العسكرية، متاحة ضمن القانون الدولي لحماية أعضائه".
وفي الدنمارك أيضاً، واستجابةً لتوجيه حكومي، أعلنت مجموعة "Salling group" قبل أسبوعين، الشروع في تجهيز 50 من متاجرها الكبرى في الدنمارك للعمل مراكز طوارئ، بحلول نهاية عام 2028، بحيث تكون قادرةً على تقديم الخدمات الأساسية ليومين على الأقل، حال انقطاع الاتصالات أو الكهرباء. والهدف من ذلك هو ألّا يضطر 80% من السكان إلى قطع أكثر من 50 كلم للوصول إلى أقرب مركز. وقال الوزير في إعلان نشره موقع الوزارة إن البلاد "تعيش أخطر وضع أمني منذ الحرب العالمية الثانية".
وصف "الناتو" الانتهاكات الروسية المزعومة بأنها "حملة متصاعدة"، وعدّتها رئيسة المفوضية الأوروبية "نمط تحديات متكرراً على الحدود الأوروبية". واستدعت التطورات المتلاحقة اجتماعاً طارئاً لمجلس الأمن، شهد مواجهةً مباشرة، أكد فيها الحلفاء الأوروبيون التزامهم مبدأ "الدفاع الجماعي". وحذّرت وزيرة الخارجية البريطانية موسكو من "تصرفات متهورة قد تجلب مواجهة مسلحة مباشرة مع الناتو"، مؤكدةً أن الحلف سيواجه أي انتهاك جوي. أما الولايات المتحدة، فجددت التزامها الدفاع عن "كل شبر من أراضي الناتو"، بينما أعلن رئيس الحكومة البولندي أن إسقاط الأجسام الطائرة سيكون "فورياً من دون نقاش"، ودعا وزير خارجية أوكرانيا إلى "تحييد" التهديدات لا الاكتفاء بمرافقتها.
تحذير من سباق التسلح
من ناحية أخرى، وقبل وصول وزير الخارجية الروسي إلى نيويورك في الـ24 من أيلول/سبتمبر، لحضور أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، شهدت الأخيرة تلاسناً حاداً بين الولايات المتحدة وروسيا، بعد خطاب ترامب المثير للجدل، الذي فجّر فيه تحوّلاً مفاجئاً جديداً (قد تكون مناورة) على طريقته المألوفة، بقوله إن على أوكرانيا استعادة كامل أراضيها. مثّل ذلك نقيض توجهه المعروف في تفاوضه مع روسيا بشأن أوكرانيا بالأساس، بحيث شكك في قدرات روسيا العسكرية، ووصفها بأنها "نمر من ورق".
لكن المتحدث باسم الكرملين، دميتري بيسكوف، الذي اجتمع بترامب على هامش أعمال الجمعية، رد على ترامب، قائلاً إن روسيا "دب حقيقي". أما الرئيس الأوكراني، فولوديمير زيلنسكي، فحذّر من تمدد روسي إلى ما بعد حدود أوكرانيا"، ومن "تصاعد سباق التسلح".
فيما يتعلق بـ"سباق التسلح"، يمكن العودة إلى قمة "الناتو" التي عُقدت في لاهاي، في حزيران/يونيو عام 2025. كانت أبرز القرارات حينها الالتزام برفع الإنفاق الدفاعي الجماعي إلى 5% من الناتج المحلي بحلول عام 2035، مع تخصيص 1.5% لحماية البنية التحتية والدفاع السيبراني، وتصنيف روسيا "تهديداً دائماً طويل الأمد". وتم الإعلان أيضاً عن التمسك المطلق بتفعيل المادة الخامسة من ميثاق الحلف، فيما يتعلق بالدفاع الجماعي.
تلك القمة استقبت التوتر الحالي، حيث جرى الحديث عن أنّ "استمرار العدوان الروسي قد يفضي إلى مواجهة مباشرة"، قبل نهاية العقد، في سياق تضمّن ضغطاً أميركياً مكثّفاً على دول "الناتو" الأوروبية، لرفع إنفاقها العسكري. اتضح لاحقاً أنّ ذلك مهّد لبيع أسلحة أميركية، منها منظومات "باتريوت" الصاروخية لمصلحة أوكرانيا، وقد تحمّلت ألمانيا جزءاً معتبراً من التكلفة.
ترامب يبتز أوروبا
الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، علّق قبل كلمة زيلنسكي أمام الجمعية العامة، على التصعيدات الأخيرة بدعوة إلى "تجنب سباق تسلح استراتيجي جديد"، مؤكداً في الوقت نفسه قدرة روسيا على "الرد بخطوات عسكرية". ومحصلة التصريحين الروسي والأوكراني، الرافضَين لانطلاق سباق تسلح، بروز الولايات المتحدة مرةً أخرى بوصفها مستفيداً أحادياً من التصعيد في شرقي أوروبا إجمالاً، وأوكرانيا، ومن انعطافة رئيسها نحو التصعيد مع روسيا.
وفي الخلفية، تتردد أحاديث أوروبية مؤخراً عن "ابتزاز" إدارة ترامب لأوروبا، أي جني الربح من مبيعات الأسلحة الأميركية، مقابل المشاركة العسكرية في مواجهة روسيا، ودعوة دبلوماسيين روس مؤخراً إلى مناقشة "مستقبل الأمن الأوروبي" مع دول القارة، إذا قررت دول "الناتو" ذلك.
هيكل أمني جديد؟
في خضم كل ذلك، يُستذكر ما طرحه بوتين رسمياً عام 2024، بشأن "الهيكل الأمني الأوراسي"، بصفته إطاراً استراتيجياً شاملاً يهدف إلى إعادة تشكيل النظام الأمني في أوراسيا، بشكل جذري، وتفكيك "الهيكل الأمني التقليدي" الأطلسي، الذي تقوده الولايات المتحدة.
ويهدف ذلك إلى إقامة هيكل بديل يعكس توازن قوى جديداً، يقلّص النفوذ الأميركي، ويقوم على "المساواة وعدم تجزئة الأمن"، وما تسميه روسيا مبدأ التعاون بديلاً عن المنافسة، على أن تستند روسيا إلى أُطر دولية، مثل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومعاهدة الأمن الجماعي ومنظمة شنغهاي، لبناء شبكة تعاونية للأمن الاستراتيجي تساهم في تحويل النظام الدولي إلى نظام متعدد الأقطاب. فهل يكون التصعيد الأخير ممهداً لهيكل أمني جديد، تقوده موسكو؟