"قضية التسفير": أحكام ثقيلة تفتح الجدل من جديد في تونس

أحكام قضائية في تونس تطال شخصيات بارزة، والمعارضة تتحدث عن "محاكمات سياسية" وسط ترقّب داخلي وخارجي لمآلات الملف.

  • بين الأحكام القضائية وردود الفعل السياسية، يجد المشهد التونسي نفسه من جديد أمام اختبار بالغ الدقة
    بين الأحكام القضائية وردود الفعل السياسية، يجد المشهد التونسي نفسه من جديد أمام اختبار بالغ الدقة

في تطور قضائي بارز في تونس، أصدرت الدائرة الجنائية الخامسة المختصة بالنظر في قضايا الإرهاب مساء الجمعة، أحكاماً بالسجن تراوحت بين 18 و36 سنة ضد عدد من المتهمين في القضية المعروفة إعلامياً بـ"قضية التسفير".

وشملت الأحكام شخصيات سياسية وأمنية بارزة، من بينها رئيس الحكومة الأسبق ونائب رئيس حركة النهضة علي العريض، الذي حُكم عليه بـ34 سنة سجناً، إضافة إلى فتحي البلدي، عبد الكريم العبيدي، نور الدين فندوز، لطفي الهمامي، هشام السعدي، سامي الشعار، وسيف الدين الرايس. كما قضت المحكمة بإخضاعهم للمراقبة الإدارية لمدة 5 سنوات بعد انقضاء العقوبة.

ووفق ما أفاد به المساعد الأول لوكيل الجمهورية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب، وُجهت للمتهمين تهم تكوين وفاق إرهابي، والانضمام إلى تنظيمات إرهابية، واستخدام التراب التونسي لارتكاب أعمال إرهابية ضد دول أجنبية، إضافة إلى التحريض والتمويل لأغراض ذات طابع إرهابي.

خلفيات سياسية وأمنية معقدة

تعود وقائع القضية إلى السنوات التي أعقبت الثورة، وتحديداً ما بين 2012 و2014، حيث شهدت البلاد موجة تسفير واسعة لشباب تونسيين إلى بؤر التوتر في سوريا والعراق. وقد وُجهت اتهامات لبعض الأجهزة والسلطات حينها بالتراخي، أو حتى التواطؤ، مع شبكات تسفير المقاتلين.

وفي سنة 2013، أعلنت حكومة علي العريض – حين كان وزيراً للداخلية ثم رئيساً للحكومة – تصنيف تنظيم "أنصار الشريعة" كتنظيم إرهابي، ومنع سفر الشباب نحو بعض الدول، غير أنّ هذا لم يمنع من إعادة فتح القضية لاحقاً بعد توفر معطيات جديدة، خصوصاً في أعقاب استئناف العلاقات الدبلوماسية بين تونس ودمشق.

الأحكام: تنفيذ للعدالة أم استهداف سياسي؟

أثارت الأحكام الصادرة تفاعلات واسعة داخل الساحة السياسية التونسية. فقد اعتبرت حركة النهضة، التي ينتمي إليها عدد من المتهمين، أنّ ما جرى هو "حكم سياسي بامتياز" يفتقر إلى مقومات المحاكمة العادلة. وأكدت في بيان صادر عن مكتبها التنفيذي أنّ القضية "افتُعلت لتصفية الحسابات مع رموز المعارضة"، وأنّ المحاكمة "شابتها خروقات عديدة وانطلقت بإجراءات باطلة".

وذكّرت بأن علي العريض كان من أوائل من صنفوا تنظيم "أنصار الشريعة" كتنظيم إرهابي، واتخذ إجراءات غير مسبوقة لتجفيف منابعه. كما حذّرت النهضة من انحراف السلطة القضائية عن دورها الدستوري، داعيةً إلى مقاومة سلمية شاملة لإنقاذ البلاد مما وصفته بـ"الانحراف الخطير" و"الاستبداد المتنامي".

من جهتها، اعتبرت جبهة الخلاص الوطني أنّ الأحكام "مشطة" وتعكس استمرار ما وصفته بـ"مسار تصفية المعارضين"، وأشارت إلى أنّ المحاكمة تمّت عن بعد وحرمت المتهمين من حقهم في الدفاع.

كما شددت الجبهة على أن إدانة العريض تتجاهل دوره المحوري في مكافحة الإرهاب خلال توليه وزارة الداخلية، ووصفت هذه المحاكمات بأنها سياسية بامتياز.

وربط بيان الجبهة هذه الأحكام بسلسلة من القضايا التي طالت رموز المعارضة، من بينها ملفات تطال الرئيس الأسبق المنصف المرزوقي، والعميد عبد الرزاق الكيلاني، ورئيس البرلمان السابق راشد الغنوشي، محذراً من أثر ذلك على استقرار البلاد وصورتها الخارجية، ومطالباً بإطلاق سراح كافة المعتقلين السياسيين.

في المقابل، يرى أنصار السلطة والداعمين "المسار 25 تموز/يوليو"، أنّ هذه الأحكام تمثل خطوة نحو المساءلة القضائية وتحقيق العدالة في واحد من أكثر الملفات حساسية، حيث ارتبط بتداعيات أمنية خطيرة خلال العقد الماضي. واعتبروا أنّ القضاء مارس دوره بشكل مستقل، بعيداً عن أي حسابات سياسية، وأنّ فتح الملف كان استجابةً لطلب مجتمعي قديم بالحقيقة والمحاسبة.

تونس بين استحقاق العدالة وضرورات التهدئة السياسية

بين الأحكام القضائية وردود الفعل السياسية، يجد المشهد التونسي نفسه من جديد أمام اختبار بالغ الدقة. فالقضية التي تعود جذورها إلى زمن مضطرب في تاريخ البلاد، تكشف اليوم عن هشاشة العلاقة بين مؤسسات الدولة وطبقتها السياسية، وعن حجم التحدي الذي يواجهه القضاء في الحفاظ على استقلاليته وسط تجاذبات مشحونة.

وبعيداً عن منطق الانتصارات والخسائر، تبدو تونس في حاجة ماسة إلى مقاربة شاملة تعيد الاعتبار لمفهوم العدالة في معناه المتوازن: عدالة لا تُنتزع من سياقها السياسي، ولا تُوظف في الصراعات، بل تكون ركيزة للاستقرار وبناء الثقة.

ويبقى السؤال الجوهري مطروحاً: هل تكون هذه القضية بداية تصحيح للمسار، أم محطة جديدة في تعميق الانقسام؟

اخترنا لك